س294: إن كان البرص مرضًا غير مُعدي، ولذلك لمس يسوع الأبرص دون تخوُّف (مت 8: 3)، فلماذا عامل اللَّه الأبرص في العهد القديم بقسوة حتى أنه أمر بعزله عن أسرته ومجتمعه (لا 13: 46)؟ وكيف تجرأ هذا الأبرص على ترك معزله واقتحام موكب المسيح؟ ولماذا أمره السيد المسيح بعد أن شفاه أن لا يخبر أحدًا، بل يُري نفسه للكاهن ويقدم القربان الذي أمر به موسى (مت 8: 4)؟ وماذا أيضًا عن برص الثياب (لا 13: 47 - 59) وبرص الجدران (لا 14: 34 - 48) الأمور التي لا يصدقها عقل؟
ج: 1ــ بالرغم من أن معجزة شفاء الأبرص ليست هيَ المعجزة الأولى التي أجراها السيد المسيح، لأن بدء معجزاته كانت في عُرس قانا الجليل حيث حوَّل الماء خمرًا ممتازًا، ولكن القديس متى وضعها أولًا لأن البرص يرمز لمرض الخطية، فعندما أخطأت مريم في حق أخيها موسى النبي ضربها اللَّه بالبرص (عد 12: 10)، وعندما مال قلب جيحزي وراء المال والممتلكات وكذب على معلمه أليشع ضُرِب بالبرص (2 مل 5: 27)، وعندما تعدى عزيَّا الملك على وظيفة الكهنوت رغم تحذير الكهنة له ضُرِب بالبرص وعُزل في بيت المرض وصار ابنه يوثام يحكم عوضًا عنه (2 أي 26: 16 ــ 21). فالبرص يفصل الإنسان عن ذويه أو مجتمعه، مثلما تغرّب الخطية الإنسان عن اللَّه والسمائيين، كما يؤلم البرص الإنسان جسديًّا ونفسيًّا مثلما تحطم الخطية الإنسان روحيًّا ونفسيًّا وجسديًّا، أيضًا يسري البرص في جسد الإنسان فيشوّه منظره مثلما تسري الخطية في الإنسان وتشوّه منظره، ويشق الأبرص ثيابه ويكشف رأسه ويغطي شاربه كإشارة لما تفعله الخطية في الإنسان، وكان الناس يتعاملون مع الأبرص وكأنه إنسان ميت يُنجّس من يلمسه، وهكذا الخاطئ فهو إنسان ميت بالذنوب والخطايا، وكان اليهود يعتبرون أن البيت الذي يطل فيه الأبرص برأسه يصير نجسًا، وكان الربيون يتفاخرون بأنهم يرجمون الأبرص، وفي العصور الوسطى كانوا يصلون على الأبرص صلاة الراقدين. وكل من الأبرص والخاطئ لا يتم شفاء أحدهما إلاَّ بتدخل إلهي، فلم يكن هناك علاج لمرض البرص. ولذلك لمس السيد المسيح الأبرص، وبمجرد أن شرع في لمسه هرب البرص منه، فلا البرص ولا الخطية يلبثان أمام السيد المسيح الإله المتجسد.
2ــ المقصود بالبرص في العهد القديم جميع الأمراض الجلدية المعدية، وبعضها غير قابل للشفاء، وبعضها يُضعِف العضلات وينتج عنه تقيُّحات، وبعضها كالجزام يصل إلى حد تآكل الأطراف، وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي" ص2270: "الكلمة اليونانية المستخدمة هنا قد تعني أي مرض يصيب الجلد وليس بالضرورة البرص بالتحديد". وجاء في "التفسير التطبيقي" ص1894: "كان البرص مرضًا مخيفًا إذ لم يكن له علاج معروف. وكانت كلمة برص تُطلق في أيام الرب يسوع على مجموعة متنوعة من الأمراض المتشابهة، وكانت بعض أنواعه شديدة العدوى".
ولأن الطب في العهد القديم كان بدائيًا لذلك أعطى اللَّه بعض الإرشادات الطبية لحفظ شعبه من الأمراض المعدية، فعندما أمر اللَّه بعزل الإنسان الذي أصابه البرص لم يكن هذا قسوة منه، وقد سبق الإجابة على التساؤل القائل: "كيف أمر اللَّه بعزل المريض بالبرص وفضحه إذ حكم عليه بشق ثيابه وكشف رأسه وتغطية شاربيه وتحذير كل من يقترب منه بأن يصيح " نَجِسٌ... نَجِسٌ" (لا 13: 45)؟ هل يفضح اللَّه الرحوم عباده المرضى؟ أين محبته؟ أليس اللَّه محبة؟" فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم - الجزء السادس س735. وما زلنا نحن للآن رغم التقدم العلمي الجبار نعزل المصاب بالأمراض الجلدية أو بالحمى في مستشفيات خاصة، وفي سنة 2012م تم تسجيل 232857 حالة مرض جلدي مستعصي، ونسبة 71% منهم تقع في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، حتى أن الهند سجلت من هذه الحالات 134752، وفي سنة 2014م تصدَّرت الهند قائمة مرضى البرص في العالم، وهناك عدد من الراهبات الكاثوليك اللاتي يخاطرن بحياتهن في خدمة هؤلاء المرضى متمثلين بفرنسيس الأسيزي الذي كان يحتضن هؤلاء ويخدمهم بعد أن كان يهابهم ويهرب منهم، ويعتبر يوم 26 كانون الثاني اليوم العالمي للتعاطف مع مرضى البرص (راجع موقع ZENIT بشبكة الانترنت).
وقد أوضحت الشريعة كيفية اكتشاف البرص بمجرد ظهوره عند ظهور ناتئ أي إنتفاخ أو ورم أو قوباء أي بقعة حمراء على الجلد، أو لمعة، أو بقعة مختلفة اللون في الجلد، والبرص ينتشر في الجسم، ويتميّز بوجود عُقيدات تحت الجلد، أو نوع من القشور في بشرة الجلد، أو بقع بيضاء لامعة أعمق من الجلد، فيحسب الإنسان نجسًا ويُعزَل خارج المحلة، ويقدمون له الطعام والشراب من بُعد، وإذا تماثل الأبرص للشفاء يُعرَض على الكاهن الذي يتأكد من شفائه ويقرُّ بهذا، عندئذ يجوز هذا الإنسان بطقس طويل يستغرق ثمانية أيام (لا 14: 1ــ 32)، يبدأ بذبيحة العصفورين، فيُذبح أحدهما ويغمس الآخر في دمه ويُطلق، فالعصفور المذبوح يرمز لموت المسيح والعصفور المُطلق يرمز لقيامته المقدَّسة.
3ــ أما كيف تجاسر هذا الرجل على ترك معزله واقتحام موكب المسيح المزدحم، فهذا يرجع لقوة إيمانه بشخص يسوع المُحب الحنون العطوف تجاه المرضى والمفلوجين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فبكل تأكيد لن يرده، ونازعته الآمال العريضة بإمكانية شفائه والانطلاق من عزلته، وعودته إلى ذويه، فتحيَّن الفرصة للاقتراب من المسيح، وسجد أمامه بإيمان عجيب، فلم يقل له إن شئت تقدر أن تصلي للَّه لكيما يشفيني اللَّه، ولم يقل له إن قدرت أن تطهرني، بل قال: "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي" (مت 8: 2).. " فلما رأى يسوع خرَّ على وجهه وطلب إليه قائلًا... "، فهو لم يشأ أن يرفع عينيه نحو المسيح، لأنه يدرك حقيقة مرضه، وأيضًا لم يسأله السيد المسيح عن إيمانه، لأن إيمانه مُعلَن بوضوح من خلال تصرفاته، وإيمانه هو الذي دفعه لهذه المخاطرة، فلو ضُبط ربما تعرَّض للرجم. وهنا نلاحظ أن السيد المسيح لم يفعل مثل أليشع النبي الذي كلم نعمان السرياني من خلف الستار، إنما مدَّ يده ولمسه.
وتساءل البعض: "هل السيد المسيح صنع هذه المعجزة بلاهوته أم بناسوته؟ والحقيقة أن السيد المسيح صنع المعجزة بلاهوته وناسوته معًا، فيده (ناسوته) المتحدة باللاهوت حالما امتدت نحو الأبرص هرب البرص من أمامه. أنه أقنوم الكلمة المتجسد، الذي فيه إتحد اللاهوت بالناسوت بدون إمتزاج ودون إختلاط ودون تغيير، وأيضًا بدون إفتراق لحظة واحدة ولا طرفة عين.
4ــ أـ أوصى السيد المسيح الأبرص بعد شفائه أن لا يخبر أحدًا بما حدث لعدة أسباب:
(1) لأن هذا سيثير حقد عدو الخير وأعوانه من الكتبة والفرسيين والصدوقيين فيسرعون بقتله، بينما ساعته لم تكن قد جاءت بعد، إذ لم يُتمّم خدمته بعد، ولم ينتهي مشوار الكرازة بالملكوت، ولذلك كثيرًا ما كان يوصي الذين يشفيهم أن لا يخبروا أحد (راجع مت 9: 3، 12: 16، مر 1: 44، 5: 43، 7: 36، لو 8: 56).
(2) كان اليهود يتلهفون على ظهور المسيا الذي يحرّرهم من وطأة الاحتلال الروماني القاسي، فلو أشاعوا أن يسوع هو المسيا صانع المعجزات مخلص الشعب، لثار الرومان عليه وأسرعوا بصلبه، ولهذا عندما حاول اليهود أكثر من مرة أن ينصّبوه ملكًا لم يكن يوافقهم.
(3) لم يشأ السيد المسيح أن ينظر إليه الناس كصانع معجزات فقط، بل أراد أن ينبههم أنه بالأولى هو مخلص العالم، الذي جاء إلى عالمنا لكيما يفدينا ويحينا، ليكن لنا حياة وليكن لنا أفضل.
ب - أمر السيد المسيح الأبرص الذي شُفي تمامًا أن يُري نفسه للكاهن لعدة أسباب:
(1) حتى يحكم الكاهن بشفائه ويقدم ذبيحة فيصير طاهرًا ويحق له العودة إلى منزله، والمعجزة جرت في الجليل، وهذا سيكلفه السفر إلى أورشليم.
(2) صنع السيد المسيح المعجزة، وترك للكاهن التصديق عليها، حتى لا يتهمه أحد بأنه تعدى على سلطة الكهنوت، مع أنه هو رئيس الكهنة الأعظم على طقس ملكي صادق.
(3) عندما يخبر الأبرص الكاهن بما حدث يُعد شهادة على ذلك الكاهن الذي لم يؤمن بالسيد المسيح، ولذلك قال الرب يسوع للرجل أن ذلك: "شَهَادَةً لَهُمْ" (مت 8: 4).
ويقول "القديس أمبروسيوس": "عندما يراه الكاهن (اليهودي) يتحقَّق أنه لم ينل الشفاء حسب الناموس، لكن أبرأته نعمة اللَّه التي تفوق الناموس" (736).
ويقول "متى هنري" تعليقًا على تقديم القربان الذي أمر به موسى: "أو قدمها كشهادة، ودع الكاهن يعرف من طهَّرك، وكيف طهرَّك، وبذلك تكون لديهم شهادة بأن في وسطهم من يستطيع أن يفعل ما يعجز عنه رئيس الكهنة، لتسجل عندهم كشهادة على سلطاني، شهادة عني لهم إذا استخدموها وانتفعوا بها، وشهادة ضدهم إذا رفضوها. ذلك لأن أقوال المسيح وأفعاله شهادات"(737).
5ــ سبق الحديث بالتفصيل عن برص الثياب (لا 13: 47 - 59)، وبرص الجدران (لا 14: 34 - 48)، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم - جـ 6 س736.
_____
(736) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص194.
(737) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص247.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/294.html
تقصير الرابط:
tak.la/r5hhvb8