ويقول الدكتور مصطفى محمود " ما هذه اللعنة الغريبة التي أنزلها الله بالأبرص؟! {والأبرص الذي فيه الضربة تكون ثيابه مشقوقة ورأسه مكشوفًا ويغطي شاربيه ويناديا نجس نجس. كل الأيام التي تكون فيها الضربة (المرض) يكون نجسًا. أنه نجس يقيم وحده. خارج المحلة يكون مقامه} (لا 13) وهي لعنة لا تفسير لها إلاَّ ما كان يُشاع في الأزمان القديمة من أن البرص مرض معدي ووراثي... وبالتالي لا بُد من نفي الأبرص وعزله إيثارًا لسلامة مخالطيه. وهو رأي ثبت فساده. والذي نعلمه الآن من علوم الطب الثابتة أن البرص مرض غير معدي ولا وراثي. وتبقى لعنة التوراة وماضيها من إجراءات عزل شديدة... أمورًا غير مفهومة"(2).
ج: 1- إذ كان شعب إسرائيل عند خروجه من مصر يُعدُّ شعبًا بدائيًا، لذلك كلف الله الكهنة بالرعاية الروحية والجسدية لهذا الشعب، والتكفير عن خطاياهم والحكم بينهم في النزاعات... إلخ وكان مرض البرص يرمز للخطية التي تفضح الإنسان، وليس في مقدرة الإنسان الفكاك منها بمفرده بدون تدخل إلهي، وكان الأبرص يُعزل عن المجتمع مثل الميت، وإذا أقترب منه إنسان يصرخ " نجس... نجس " ليحذر من يقترب إليه حتى لا يلمسه فيتنجس.
2- كان الأمر الإلهي بعزل الأبرص وكل ذي سيل وكل من يتنجس لميت خشية من العدوى ولاسيما أن الشعب كله كان يعيش في معسكر ضخم واحد في الصحراء، فمن السهل جدًا انتشار المرض بينهم، ولذلك كان الأمر حازمًا بعزل الأبرص حتى يُشفى، وجاء الحكم بعدم لمس الميت حتى لا يقدس الشعب الموتى ويعبدونهم، وأيضًا كان البرص والموت يرمزان للخطية والموت الروحي " كلم الرب موسى قائلًا أوصِ بني إسرائيل أن ينفوا من المحلة كل أبرص وكل ذي سيل وكل متنجس لميت. الذكر والأنثى تنفون إلى خارج المحلة تنفونهم لكي لا ينجسوا محلاتهم حيث أنا ساكن في وسطهم" (عد 5: 1 - 3) وعندما ضُربت مريم أخت موسى بالبرص سرى عليها نفس الحكم " فقال الرب لموسى ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام. تحجز سبعة أيام خارج المحلة وبعد ذلك تُرجَع" (عد 12: 14) وأيضًا عندما أخطأ عزيا الملك إذ تعدى على الكهنوت سرى عليه ذات الحكم " لأن الرب ضربه. وكان عزيا أبرص إلى يوم وفاته وأقام في بيت المرض أبرص" (2 أي 26: 20، 21) وفي مراثي أرميا صوَّر الوحي الإلهي الأنبياء الخطاة والكهنة الذين يرتكبون الآثام بأنهم نجسون وينجسون من يلمسوه " حيدوا نجس ينادون إليهم. حيدوا حيدوا لا تمسوا" (مرا 4: 15) وفي سفر ملاخي وصف الوحي الإلهي الأنبياء الذين انحرفوا عن جادة الصواب " فيخزى الراؤون ويخجل العرافون ويغطون كلهم شواربهم لأنه ليس جواب من الله" (مي 3: 7) فمن كل ما سبق نلاحظ الارتباط الوثيق بين مرض البرص ومرض الخطية.
3- كانت هناك عدة أمراض تُدرج تحت اسم مرض البرص، والبعض منها كان معديًّا، والبعض كان يدمر جسم الإنسان، فالكتاب المقدَّس أستخدم البرص بمعنى واسع ينطوي تحته عدة أمراض تصل إلى الجزام، ولم يكن الطب قد تقدم حتى يكتشف علاج مثل هذه الأمراض، ولذلك أوضح الكتاب أعراض هذا المرض مثل " ناتئ أو قوباء أو لمعة" (لا 13: 2) أو " لحم حي" (لا 13: 14) أو " دُمَّلة" (لا 13: 18) أو " كي نار" (لا 13: 24) أو " ضربة وإذا منظرها أعمق من الجلد وفيها شعر أشقر دقيق" (لا 13: 30)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأوصى الله بعزل المريض حتى يُشفى، وحتى لا يتم انتشار المرض في الشعب كله، وكان الكهنة هم الذين يُشخّصون المرض، وأيضًا هم الذين يحكمون بشفاء المريض.
4- يقول الدكتور حمدي صادق " والبرص له جانبان: جانب الإصابة الجلدية، وهو الطور الأول وقد لا يتطور بعد ذلك، وجانب آخر هو الجانب العصبي أو تتطوَّر الإصابة الجلدية بتشوهات في الجهاز العصبي... والإصابة الجلدية تبدأ في المناطق الأكثر عرضة مثل الجبهة والذقن والأطراف وتبدأ ببقع تتحوَّل إلى مناطق لا لون لها بيضاء، إذ تموت الخلايا الصبغية في هذه المنطقة، وكذلك لون الشعر الذي يسقط بعد ذلك، ثم يتعمق المرض فتتحوَّل البقعة إلى نقرة تنتشر إلى ما حولها، ويبدأ الجلد يتشوه ويتكتل في كتل بين نقر وحفر، ويصبح منظر الإنسان مسخ كريه الشكل شنيع المنظر مرعب الهيئة... وقد يكون البرص من النوع العصبي فتصاب جميع أطراف أعصاب الجسم أو بعض أجزاءه بتشوهات"(3).
5- يقول " أوزلد ت. ألِس".. " أن الأبرص يشار إليه دائمًا {كنجس} وليس كخاطئ، بالرغم من أن {ضربة} البرص يمكن أن تكون، كما في حالة مريم، كعقاب لخطية جسيمة، يظهر أنه من الصواب الاستنتاج، من الدقة المتبعة في موضوع البرص، إن هذا المرض الكريه الذي يُذلّل يُعتبر كرمز للخطية الساكنة في الإنسان، والتي إليها يرجع أصل كل مصائب الجنس البشري وأرزائه. وإن كان الموت هو اللعنة التي يصبها الله على الخطية... فيكون المرض الذي يهدم الصحة ويؤدي إلى الموت، حاملًا معه شيئًا من الدنس، سواء كان معديًا من الوجهة الطبية أم لا"(4).
6- يقول القمص تادرس يعقوب " إذ ينظر إلى البرص كرمز للخطية وثمر لها، جاء الحكم على الأبرص أن تعلن نجاسته قاسيًا إذ يفقده طعم الحياة ويعزله تمامًا عن الجماعة المقدَّسة... لماذا تُشق ثياب الأبرص؟ كثيرون يخفون مرض جسدهم باهتمامهم بارتداء ملابس ثمينة وجميلة... لذلك حذرنا القديس يوحنا الذهبي الفم من الرياء بكونه الثوب المزركش الذي تلبسه النفس المريضة فيلهيها عن معالجة المرض الحقيقي الداخلي... وبينما يطلب فضح الجسد المريض بشق الثياب وكشف الرأس إذ به يطلب تغطية الشاربين، أي الفم، فالنفس المصابة ببرص الخطية يلزمها أن تنصت للوصية ولا تعلم الآخرين... جاءت كلمات الحاخامات عن المصابين بالبرص تعلن نظرتهم إليهم كأنهم موتى، ليس لهم حق الحياة وسط الجماعة المقدَّسة... يعلق العلامة أوريجانوس على إقامة الأبرص خارج المحلة بقوله {كل دنس يلقي الإنسان خارج مجمع الأبرار، أنه ينفيه بعيدًا عن الجماعة ويعزله عن موضع القديسين} أما مناداته: نجس نجس، فإشارة إلى دنسه الداخلي ودنسه الخارجي، أو دنس النفس والجسد معًا"(5).
7- تقول الأخت الإكليريكية ماريان عاطف يحيى(6) " أن هناك تشابهًا كبيرًا بين مرض البرص ومرض الخطية، فمثلًا(7):
أ - لم يكن هناك علاجًا لمرض البرص، ولا شفاء منه إلاَّ بتدخل إلهي، وهكذا الخطية ليس لها حل إلاَّ بتدخل إلهي.
ب- كل من البرص والخطية ممقوت ومُخزي.
جـ- كما يفسد البرص شكل الإنسان، هكذا تفسد الخطية الإنسان وتفقده جماله وكرامته.
د - كما يبدأ البرص بندبة صغيرة ثم تتسع حتى تشوه شكل الإنسان، هكذا الخطية تبدأ صغيرة وسريعًا ما تنمو وتهلك الإنسان.
هـ- كما كان الأبرص يُعزل عن شعب الله، هكذا تعزل الخطية الخاطئ عن الجماعة المقدَّسة".
8- يقول الأخ الإكليريكي جوزيف ديب إلياس(9) " كان البرص بحسب الشريعة اليهودية يعتبر أقسى داء، ويمثل عقاب قاسي، فكان الأبرص يُحرم من أهله وأصدقائه ومجتمعه ويُعزل حتى يتم شفائه، وقد وُجد وصف لهذا المرض على بردية " إيبرس " باسم " أوكهيدو " واسم المرض باللغة القبطية " سهت"، وكان المرض معروفًا في الشرق حتى بلاد الهند والصين واليابان، ولم يُعرف في أوروبا إلاَّ بعد عودة جيش بومبي من حملته على سوريا سنة 61 ق.م. وخلال الفترة من 1096 - 1472م تأسس 112 بيتًا للمصابين بالبرص في إنجلترا، وكانوا يدعون هذه البيوت باسم "اللعازرية" ظنًا منهم بأن لعازر المسكين كان مصابًا بهذا الداء، وقد مات "روبرت بروس" ملك اسكتلندا بهذا المرض، وفي القرون الوسطى كان هناك قانونًا يمنع الأبرص من ارتياد الكنائس أو التجول من مكان إلى آخر.
وكان يتم الخلط بين البرص والأمراض الجلدية الأخرى، فمثلًا أطلق اليونانيون اسم "ليبرا" أي البرص على المرض الجلدي الذي يجعل الجلد حرشفيًا والمعرف الآن باسم " الصدفية " وفي سنة 1871م أكتشف "هانسن" الميكروب الذي يسبب مرض البرص"(8).
_____
(1) البهريز جـ 1 س183.
(2) التوراة ص 51، 52.
(3) تفسير سفر اللاويين ص 72، 73.
(4) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 304.
(5) تفسير سفر اللاويين ص 132 - 134.
(6) إكليريكية طنطا.
(7) من أبحاث النقد الكتابي.
(8) من أبحاث النقد الكتابي.
(9) إكليريكية القديس أثناسيوس بدمهنور.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/735.html
تقصير الرابط:
tak.la/c69mhq5