س25: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على البيئة الاجتماعية التي عاصرها السيد المسيح، وانتشرت فيها المسيحية، ووُلِدت فيها الأسفار المقدَّسة؟
ج: دعنا يا صديقي نُلقي الضوء على بعض جوانب الحياة الاجتماعية في المجتمع اليهودي في القرن الأول الميلادي:
1-
ارتباط اليهود بأرضهم
وعزلتهم عن الأمم
2ــ العلاقات الأسريَّة
3ــ الزواج والطلاق
4ـ أورشليم وإضافة الغرباء
سكن العائدون من سبي بابل أورشليم وما حولها في أرض اليهودية، كما كان لهم تواجد أقل في السامرة وفي الجليل، وأحب اليهود أرضهم، أرض الموعد التي وعدهم بها الله منذ أيام إبراهيم وإسحق ويعقوب، ومن عاش منهم في دول أخرى كانت قلوبهم وعقولهم تهفو نحو أورشليم مدينة الملك العظيم، فيتردَّدون عليها في الأعياد يقدمون ذبائحهم في هيكلها وكذلك تقدماتهم، وقالوا أن من يعيش على ترابها فكأنه دُفِن تحت الهيكل، وحافظ اليهود على استقلاليتهم وعزلتهم عن الأمم، فالزواج من الأمم هو خيانة وزنا روحي، ولا يدخل اليهودي بيت الأممي، ولا يأكل طعامًا معه، وعند عودته من السوق يغسل يديه جيدًا لئلا يكون قد صافح شخصًا أمميًا، وإذا استعار آنية طهي الطعام من أممي وجب عليه أن يطهرها جيدًا قبل أن يستخدمها، ولا يؤجر حقله ولا منزله لإنسان أممي، بل أن السيدة اليهودية محرَّم عليها أن تساعد جارتها الأممية وهيَ تلد، وطبعًا كل هذا لم يكن وصايا إلهيَّة بقدر ما كانت تقاليد فريسية.
من الوصايا التي كان يقدّسها اليهود وصية إكرام الوالدين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالآباء يسهرون على تربية أولادهم بحنان ومحبة، والأبناء بدورهم يهتمون بآبائهم في كبرهم، وحضَّ التلمود الابن ليهتم بأبيه فيطعمـه ويسقيه ويكسوه، ويصحبه في المنزل ويرافقه في خروجه، ويغسل يديه وقدميه. وكان للشيخ كلمته المسموعة، عندما يسير يقفون له احترامًا، وعندما يسأل يجاوبونه باحترام وتواضع. وكانت الابنة تحت رعاية وطاعة أبيها إلى أن تتزوج فتصير في رعاية وطاعة زوجها، وعند زواج الابنة يُؤخَذ رأيها وموافقتها الصريحة بدون أي ضغط عليها. ولا يضرب الأب ابنه إلاَّ في صغره ليربيه، ولا يصرف في هذا لئلا يُهدِر كرامته، وكان الأب يهتم جدًا بتنشئة ابنه، فيقول "رأباي يهوذا أبو طما" عن تربية الابن: "في الخامسة قراءة الكتاب المقدَّس، وفـي العاشرة حفظ المشناة، وفي الثالثة عشر التمسك بالوصايا، وفي الخامسة عشرة دراسة التلمود، وفي الثامنة عشر الزواج، وفي الخمسين للشورى والتوجيه، وفي الستين يبدأ الهرم، وفي السبعين سن الشعر الأشهب، وفي الثمانين الهرم المتقدم، وفي التسعين الانحناء، وفي المائة كالذي مات وارتحل وأُخذ من هذا العالم"(91).
وكان مسموحًا للمرأة بمزاولة كافة حقوقها، فهيَ لا تشعر بشيء من الدونية، وكانت تختلط بالآخرين في المنزل وخارجه، بعيدة عـن الانحلال الخلقي، أمامها صورة التقوى والطهارة التي رسمتها الأسفار المقدَّسة، فكانت سارة مثالًا للسيدات الفضليات، وما جاء في كتابـات المعلمين نجده في العهد الجديد: "كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا. الَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا صَانِعَاتٍ خَيْرًا" (1بط 3 : 6)، ومن النساء القديسات اللاتي كان لهن دور بارز في خدمة السيد المسيح والتلاميد مريم أم مرقس الرسول، وأم ابني زبدي، ومريم المجدلية، ويونا زوجة خوري وكيل هيرودس، وسوسنـة، وبريسكلا زوجة أكيلا، وليديا بائعة الأرجوان، وفيبي، وأفنيكي ولوئيس أم وجدة تيموثاوس، والسيدة المختارة التي كتب لها يوحنا الحبيب... إلخ... وفوق كل هؤلاء العذراء القديسة مريم والدة الإله.
وكانت الفتيات والنساء يهتممن بزينتهن، فيقـول "ألفريـد أيديرشيم": "وكان النساء يلبسن شباشب عالية مزينة أو مرصعة بالجواهر، وصُنعت بطريقة يصدر منها رائحة عطور مع الضغط عليها... استعمل النساء أدوات الزينة وطلين وجوههن وكحلوا حواجبهن بأملاح الأنتيموني والزنك والزيت. وكان الشعر الذي اُعتبر مصدرًا للجمال موضع عناية خاصة، وبنات الفلاحات كن يعقدن شعورهن في عقدة بسيطة، أما السيدات المتبرجات الثريات فكن يلففن شعورهن ويضفرنها ويزينها بحلي الذهب واللآلئ، وكان اللون المحبوب لدى الكثيرات هى درجة من اللون الذهبي الداكن، ولذا كن يصبغنه أو يرششنه بالتبر، ونقرأ أيضًا عن الشعر المستعار وعن الأسنان المستعارة... لا ندهشن لذكر دبابيس الشعر والأمشاط الجميلة"(92).
يقول "ألفريد أيديرشيم": "كان في العرس رَجُلان للعريس، أي صديقان للعريس، واحد للعريس وآخَر للعروس. وقبل الزواج كان يعملان (صديقا العريس) كوسطاء بين الاثنين، وفي العرس كانا يقدمان الهدايا ويرافقانهما إلى حجرة الزواج، وكانا أيضًا ضامني طهارة وعذراوية العروس، ومن هنا يخبر القديس بولس الكورنثيين (2كو 11 : 2): "فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ"، وهو يتحدّث كأنه رَجُل العريس أو صديق العريس الذي قام بدوره في الاتحاد الروحي للمسيح مع كنيسة أهل كورنثوس"(93).
أما عن الزفاف، فيقول "الفريد أيديرشيم" في موكب العرس: "كانوا يحملون سعف النخيل وأفرع أشجار ذات أزهار بيضاء وكانوا ينشرون القمح والنقود، ويسبق الموكب الموسيقى، وكان من المنتظر أن يشترك فيها كل من التقى بالموكب كواجب ديني. ومثل العشر عذارى ومعهن مصابيحهن ينتظرن العريس (مت 25 : 1) له أساس في عوائد اليهود، لأنه كما ورد في مصادر المعلمين (الراباي) كان يستعمل مثل هذه المصابيح على قمة عصى، ويذكر الرقم عشرة مع كل الاحتفالات العامة"(94). وكل ما ترثه الزوجة من أبيها، وكل ما تمتلكه يؤول إلى زوجها، لأنه هو المسئول عنها من جميع الأوجه، مسئول عن طعامها وشرابها وكسوتها وعلاجها في مرضها، وأن يفديها لو وقعت في الأسر... إلخ.، وبالإضافة إلى قائمة المحارم التي نص عليها العهد القديم، كان محرَّمًا على الرجل أن يتزوج بالمرأة التي أغواها، أو المرأة التي حضر كتاب طلاقها وشهد في قضيتها، ولا يتزوّج الرجل إلاَّ إذا كان في كامل قواه العقلية، والزواج المبني على الخداع لا يستمر، ولا تتزوج الأرملة إلاَّ بعد مضي ثلاثة أشهر من موت زوجها، وليس للمرأة الحق في الزواج أكثر مـن ثلاث مرات فقط، وهنا يظهر عدم معقولية سؤال الصديقين للسيد المسيح عن المرأة التي تزوجت بسبع إخوة على التوالي، وكان للزوجة الحق في الطلاق إذا أصيب زوجها بالبرص أو بأورام، أو إذا عمل بمهنة ليست مناسبة مثل الدباغة وصناعة النحاس، ويصبح الطلاق أمرًا حتميًا لو تحوَّل الطرف الآخَر للوثنية، وكل من يُطلق زوجته يلتزم بكتابة كتاب طلاق لها في حضور شاهدين. وعند حدوث الطلاق، وهو كثيرًا ما يحدث، ترعى الأم بناتها، ويرعى الأب البنين، ومن الممكن أن يُعهَد بالبنين للأم إذا رأى القاضي أن في ذلك صالح البنين، وكان تعدد الزوجات والطلاق وضع مؤقت لغلاظة قلوبهم.
لم يكن أحد من يهود أورشليم يعتبر أن منزله خاص به لوحده، لأن أورشليم مدينة مضيافة جدًا، وكافة بيوتها مفتوحة للزائرين في المواسـم والأعياد، حتى قالوا أن إضافة الضيف وتقديم هدايا له عند مغادرته المنزل لا يعادلها شيء إلاَّ تقديم الذبائح اليومية، وقال التلمود أن الضيافة من الأعمال الحسنة التي ينال صانعها الجزاء في هذا العالم، وفي العالم الآتي، وأوصى الربيون المضيف بأن يبدو سعيدًا مسرورًا بالضيف ويخدمه بكل همة وإخلاص، وأن يَعدْ قليلًا ويعطي كثيرًا. كما كانت هناك أماكن للاستراحة ومبيت للمسافرين على الطرق العامة، والاستراحة عبارة عن بناء مربَّع يضم رواقًا كبيرًا للدواب والعربات، وحجرات جانبية لا يوجد بها أثاث يُذكَر، ولا يدفع المسافر أجرًا للمبيت في مثل هذه الاستراحات.
ويقول "الفريد إيديرشيم" : "ويرد في التلمود وصف لكرم ضيافة سكان أورشليم لا يمكن أن نقول أن بها مبالغة كبيرة، لأن المدينة لم تعتبر ملكًا لسبط خاص بل كانت تعتبر وطنًا للكل على السواء، وما كانت بيوتها تُؤجر أو تُستأجر بل تفتح أبوابها لكل أخ، ولم يحتج أحد من الآلاف التي لا حصر لها، الذين كانت المدينة تعج بهم، إلى حجرة، وكانوا يسدلون ستارة على الباب إيماء إلى أنه كان لا يزال متسعًا لضيوف، وكانوا يمدون مائدة أمام المنزل، وأن كل ما بالمنزل كان تحت تصرُّف الزائر، وإذا استحال إيواء داخل أسوار أورشليم كل الجماهير الضخمة... فلا بد أن بيت عنيا وبين فاجي كانتا تعتبران داخل دائرة أورشليم... أنهما كانتا شهيرتين بالكرم للضيوف مع الحجاج...
وفي شوارع أورشليم كان يتقابل رجال من الأقطار البعيدة يتحدثون لغات عدة ولهجات مختلفة، واختلط فيها أغريق وجند رومان ومزارعون جليليون، وفريسيون وصديقيون وأسينيون بأرديتهم البيضاء، وتجار مُجدّون نشطون وطلبة لاهوت... وفوق الكل ارتفع الهيكل فوق المدينة ملقيًا ظله ومجده، وفي كل صباح أيقظت أصوات وأبواق الكهنة المدينة فتبدأ للصلاة، وفي المساء اختتمت نفس الأصوات يوم العمل، كما بأصوات من السماء، وحينما سرت كانت الأماكن المقدسة... دخان الذبائح يرتفع فوق الأروقة وأخرى يستقر فوق التلال المقدَّسة في سكون ووقار، وأنه الهيكل هو الذي أكسب أورشليم طبيعتها وهو الذي قرَّر مصيرها... "(95).
_____
(91) أورده الفريد إيديرشيم - ترجمة زكي مسيحة - صور من الحياة الاجتماعية في أيام المسيح ص 89.
(92) المرجع السابق ص 167.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/25.html
تقصير الرابط:
tak.la/2fb3ncj