س13: كيف انقسمت مملكة هيرودس الكبير بعد موته سنة 4 ق. م؟ وكيف عادت وتوحَّدت ثانية تحت حكم هيرودس أغريباس الأول؟
ج: مات هيرودس الكبير سنة 4 ق. م، وبموته عمّت الفوضى وهبّت الثورات، فحالة شبه الاستقلال التي تمتّع بها الشعب اليهودي على يد هيرودس الملك قد ولّت، وعادت روما تطل بوجهها القبيح على الشعب اليهودي، فاستدعى الإمبراطور الروماني "أوغسطس قيصر" أولاد هيرودس الكبير الثلاثة، أرخيلاوس وأنتيباس، وفيلبس، وقسَّم عليهم المملكة حسب وصية أبيهم هيرودس الكبير. ثم هيرودس أغريباس الأول بعد موت فيليس:-
وهـو ابـن هيرودس الكبير من زوجته "مالثاك" (مالثيس Malthace) السامرية، وعُيّن واليًا على اليهودية والسامرة وأدونية، وقد أعطاه الإمبراطور وعدًا أنه متى أثبت جدارته يمنحه لقب (ملك) فأخمد المظاهرات وأعمال العنف، وذهب إلى روما التي ثبتَّت ملكه، وسار على سياسة أبيه في البناء والتشييد، كما أنه بعد عودته من روما انتقم انتقامًا داميًا من شعب اليهودية لأنهم أرسلوا سفراء للإمبراطور يخبرونه بأنهم لا يريدون أن هذا (أرخيلاوس) يملك عليهـم، ويقـول "عباس محمود العقاد": "وكان من مراسم الولاية أن يذهب الملك إلى رومة ليتلقى عهد الأمارة من يدي القيصر، فهذا الذي يشير إليه السيد المسيح في مثله المشهور كما رواه الحواري لوقا حيث يقول ما فحواه: "كان إنسانًا شريف النسب ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكًا ويرجـع... وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه فأرسلوا وراءه سفراءهم يقولون: لا نريد ملكًا علينا،" ولكن القصر أقرَّ الأبناء الثلاثة في ولايتهم، وخرجت البلاد ممزقة بين أبناء هيرود وحكومات النبطيين والمدن العشر وقصدت رومة بهذا التمزيق أن تخيف ولاية بولاية وتلجئهم إلى التنافس بينهم في رضائها، وتتخذهم جميعًا درعًا تدفع به غارات الصحراء وهياج المتعصبين"(42).
وفى ثورة اليهود في الهيكل في عيد الفصح ضد روما ذبح هيرودس منهم ثلاثة آلاف إرضاءً لخاطر روما حتى امتلأ الهيكل بجثث القتلى، فشكاه شعبه للإمبراطور إذ توجه وفد من خمسين رجلًا يهوديًا من اليهودية والسامرة واستعانوا بالجالية اليهودية في روما وكان عددهم نحو ثمانية آلاف، واستجاب الإمبراطور لطلبهم فخلعه من الحكم ونفاه إلى فيينا ببلاد الغال بعد أن جرّده من أمواله وممتلكاته، وتحوَّلت منطقة اليهودية والسامرة إلى ولاية رومانية، لأن أرخيلاوس كان أقل أبناء هيرودس حكمة وحنكة سياسية وأكثرهم قسوة وشراسة، حتى أنه بعد عودة العائلة المقدَّسة من مصر قال الإنجيل عن يوسف: "وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ" (مت 2 : 22).
وبعد أن تحوَّلت اليهودية والسامرة إلى ولاية رومانية تتابع عليها خلال الفترة من 6 - 41م سبعة من الولاة أولهم: "كوبونيوس" سنة 6م، ثم "أنيوس روفس" ثم "مرقس أمبفيوس"، ثم "فاليروس جراتوس" سنة 15 م... الخ، وكان الوالي الروماني مكلفًا بحفظ النظام، وجمع الضرائب وإرسالها إلى روما، وله سلطة تعيين وعزل رئيس الكهنة بل قيل أنه كان يحتفظ بملابس رئيس الكهنة التي يرتديها في الأعياد، يسلمها له قبيل فترة العيد ويستردها بعد انتهاء الاحتفالات، مما جعل اليهود يشعرون بثقل وطأة الاحتلال الروماني.
ويقول "راندال. إيه ويس" Randall A. Weiss: "وضعت روما قانونها المدني وطبقته على فلسطين. وسمحوا للسنهدريم بأن يمارس سلطة على المراسيم الدينية. ولم تُحكم فلسطين بالديمقراطية، ولم تُنتخب العائلات الكهنوتية الثرية لتولي مناصبها. وبشكل عام كانوا يشترون المناصب من خلال تقديم الرشوة إلى المسئولين الرومان القادرين على توصيلهم إلى مبتغاهم. قطعًا لم يكن القانون الروماني ليسمح بهذا، لكن هذا ما كان يمارس.
وبالرغم من أن القوانين الرسمية ضد الرشوة والابتزاز، وَجَدَ الولاة الرومان على المقاطعات صعوبة في مقاومة الإغواء للاشتراك في مثل هذه الممارسات في وقت كانت تعرض الفرص الكثيـرة نفسها. مثل هذه الفرص كانت مشروطة بهذا الترتيب الخاص بتنصيب أو عزل رؤساء الكهنة" (Bruce, F.F. New Testament History, P 69)(43).
وكان الوالي حرًّا في تصرفاته، يقيم عادة في قيصرية ويقبل إلى أورشليم في الأعياد اليهودية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وأشهر هؤلاء الولاة هو "بيلاطس البنطي" (26 - 36 م.) الذي حكم على مخلصنا الصالح بالصلب، وترتيبه الخامس في الولاة، وعُرِف بيلاطس بمغامرته السياسية ومحاولته بكسر أنف اليهود، وصفه كل من يوسيفوس وفيلو بالقاسي المتحجّر الذي لا يهتم بالحرمات الدينية ولا بالقيـم الإنسانية، وقد ارتكب مذبحتين إحداهما للجليليين عندما خلط دمائهم بذبائحهم (لو 13 : 1، 2)، وتسبب هذا في أزمة بينه وبين هيرودس أنتيباس، والأخرى للسامريين فوق جبل جرزيم، ففي عهده زعم أحد السامريين أنه يعرف مكانًا فوق قمة جبل جرزيم قد خبأ فيه موسى الآنية الذهبية، وصعد معه جمع غفير يحملون أسلحتهم، فظن بيلاطس أنها ثورة مسلحة فأرسل جنوده فقتلوا أعدادًا كبيرة منهم فشكاه الشعب إلى رئيسه والي سوريا، فخلعه من ولايته وأرسله إلى روما ليُحاكم هناك، وخلَّفه الوالي السادس "فيلكس" (52 - 60 م.) وكان قاسيًا وفاسقًا، وفي ولايته أمضى بولس الرسول سنتين في سجن قيصرية (أع 23 : 23 - 35)، ثم خلَّفه الوالي السابع "فستس" (أع 25 : 1 - 12) وفى ولايته رفع بولس شكواه إلى قيصر فأرسله إلى روما ليُحاكم هناك. أما عن نهاية بيلاطس البنطي فقيل أنه أنهى حياته بالانتحار في عصر الإمبراطور كاليجولا، كما قيل عنه أيضًا أنه اعتنق المسيحية مع زوجته. وفى عهد هيرودس أغريباس الأول عهدت روما له بولاية اليهودية والسامرة بالإضافة إلى ولايتيّ فيلبس وأنتيباس، وبهذا تجمّعت مملكة هيرودس الكبير فى يد هيرودس أغريباس الأول.
وهو الابن الأصغر لهيرودس من زوجته السامرية "مالثاك" فهو شقيق أرخيلاوس، وعُيَّن رئيس ربع على الجليل وبيرية ومناطق شرق الأردن، ودُعيَ مثل فيلبس رئيس ربـع لأنه حكم على ربع مملكة أبيه هيرودس الكبير، أمّا أرخيلاوس فحكم نصف المملكة فلهذا لم يُدعَ رئيس ربع، وتزوج هيرودس أنتيباس من ابنة ملك العربية "أرتياس" وكان أنتيباس مثالًا للدهاء مثل أبيه وجِدْه، فوصفه السيد المسيح أنه ثعلب: "امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ"(لو 13 : 32) وكان محبًا للمعمار مثل أبيه، فأنشأ قرية صفورية على بُعد نحو ستة كيلومترات ونصف من الناصرة على الطراز اليوناني وأنشأ بها حمامات عامة ومسارح ومباني عامة، وفى سنة 26 م بنى مدينة طبرية على الشاطئ الغربي لبحر الجليل كما رأينا من قبل تكريمًا للإمبراطور طيباريوس قيصر، وجعلها عاصمة للجليل، وكان إنسانًا فاسدًا شهوانيًا تزوج من هيروديا زوجة أخيه فيلبس وهو حي، وقيل أن فيلبس المقصود هنا ليس هو فيلبس الثاني ابن كليوباترا اليهودية رئيس الربع الذي تزوّج فيما بعد من سالومي بنت هيروديا، إنما هو فيلبس الأول ابن هيرودس الكبير من زوجته مريمن ابنة سمعان رئيس الكهنة، وعندما تصدّى له يوحنا المعمدان ألقاه في السجن ثم قطع رأسه بناءً على طلب هيروديا عندما رقصت ابنتها سالومي في عيد ميلاده فسرَّت قلبه (مر 6 : 17 - 28). كما أن أرتياس ملك العربية شن عليه حرب عصابات لأنه أهان ابنته وطلقها، وأرسل إليه بيلاطس البنطي السيد المسيح ليُحاكم أمامه، وفرح هيرودس بلقاء يسوع مؤمّلًا أن يرى منه آية، أما هو فكان صامتًا، فسخر منــه هيرودس وأعــاده لبيلاطس (لو 23 : 7 - 11). وقـد اتهمـه ابن عمته الملك "هيرودس أغريباس الأول" بالتآمر على الإمبراطور كاليجولا، وكان أغريباس محبوبًا من الإمبراطور، فخلع الإمبراطور كاليجولا أنتيباس مـن منصبـه سنة 39 م، وصادر أمواله وأملاكه وأراضيه، ونفاه مع هيروديا إلى ليون ببلاد الغال ثم إلى أسبانيا حيث مات هناك مع عشيقته هيروديا في مذلـة وعار، وفى سنة 40م آلت ولايته إلى هيرودس أغريباس الأول.
وهو ابن هيرودس الكبير من زوجته كليوباترا من أورشليم، وعُيَّن رئيس ربع على شرق الأردن والجولان، باتانيا وتراخونيتس وأورانيتس، ومعظم سكان منطقته من الأمم، وتميَّز فيلبس الثاني بالأخلاق العالية والهدوء والاعتدال والعدل في حياته الشخصية والأسرية وفى حكمه، حتى أنه في تنقلاته كان يصحبه كرسي القضاء، وأينما حط يجلس على كرسي القضاء يستمع لشكوى المظلومين ويحكم لهم بالعدل، ويتولى رجاله تنفيذ الأحكام، فأحبه شعبه حبًا عظيمًا، وكان عصره عصر رخاء، ورغم أنه تزوج من سالومي ابنة هيروديا إلاَّ أنه لم يتأثر بشرورها، وبنى مدينة "بانياس" بالقرب من ينابيع الأردن ودعاها "قيصرية فيلبس" ودعى فيلبس هذه المدينة "قيصرية" تكريمًا للقيصر وألحق بها اسمه تمييزا لها عن قيصرية الساحل التي بناها أبوه هيرودس الكبير من قبل.
وبعد موت فيلبس الثاني سنة 34 م وهو في حكمه، خلَّفه هيرودس أغريباس الأول ابن عمته برنيكي أخت هيرودس الكبير، وكان قد تربى في روما قريبًا من القصر الإمبراطوري، لأن أمه "برنيكي" كانت صديقة لزوجات الأباطرة، وذات يوم سمعه سائق عربة الإمبراطور طيباريوس قيصر وهو يتحدث مع صديقه كاليجولا أحد أحفاد طيباريوس ويعرب له عن أمنياته أن يموت طيباريوس ويصير كاليجولا هو الإمبراطور، فأخبر السائق طيباريوس الذي قبض على هيرودس أغريباس وكبَّله بالسلاسل وألقاه في السجن، والأمر العجيب أنه عندما مات طيباريوس قيصر سنة 37 م صار كاليجولا هو الإمبراطور فأفرج عن هيرودس أغريباس، وأنعم عليه بسلسلة ذهب مثقال السلسلة الحديد التي كُبّل بها وأكرمه ومنحه ولايـة فيلبس الثاني الذي مات سنة 34م، وهيَ المناطق الشمالية بفلسطين باتانيا وتراخونيتس وأورانيتس، وفى سنه 40م أضاف إليه كاليجولا ولاية هيرودس أنتيباس الذي نفاه إلى ليون وهيَ منطقة الجليل وبيريه ومناطق شرق الأردن، وبعد موت كاليجولا وصار "كلوديوس" إمبراطورًا على روما، تودَّد له هيرودس أغريباس الأول، فمنحه سنة 41م ولاية اليهودية والسامرة، والتي سبق وتولاها سبعة من الولاة الرومان بالتتابع، وبذلك صار أغريباس هو الوارث الوحيد لمملكة خاله هيرودس الكبير، وقد دعاه العهد الجديد بِاسم "هيرودس" أو "هيرودس الملك" (أع 12 : 1، 6، 11، 19، 21)، وأهدى هيرودس السلسلة الذهب التي منحها له كاليجولا إلى هيكل أورشليم، وقوّى أسوار أورشليم، واحتضن الفريسيين فأحبـه الشعب وتعاطفوا معه، وتوددًا منه للشعب اليهودي اضطهد المسيحيين فقتل يعقوب ابن زبدي أخا يوحنا بالسيف، وقبض على بطرس لكيما يقتله ولكن ملاك الرب أنقـذه (أع 12 : 1 - 11)، وفى سنة 44م أقام حفلًا عظيمًا في قيصرية تكريمًا لكلوديوس قيصر، وفى اليوم التالي لبس حلته الملوكية المرصَّعة بالجواهر وخاطب الشعب، ومع انعكاسات أشعة الشمس على ملابسه هتف له الشعب. "هذَا صَوْتُ إِلهٍ لاَ صَوْتُ إِنْسَانٍ. فَفِي الْحَالِ ضَرَبَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْمَجْدَ للهِ. فَصَارَ يَأْكُلُهُ الدُّودُ وَمَاتَ" (أع 12 : 22، 23)، وله من العمر أربعة وخمسين عامًا بعد أن أمضى في الحكم سبع سنوات، أربع منها في حكم كاليجولا وثلاثة في حكم كلوريوس.
وبعد موت "هيرودس أغريباس الأول" عادت اليهودية لإدارة الولاة الرومان حتى سنة 66م، حيث عيَّن نيرون قائده فسبسيان لإعادة الأمن والهدوء لفلسطين، وفي سنة 69م عاد فسبسيان إلى روما لتنصيبه إمبراطورًا، وعهد لابنه تيطس مهمة حصار أورشليم العاصية وإخضاعها، وفي سنة 70م كانت نهاية أورشليم وهدم الهيكل ردًا على العناد اليهودي وثوراتهم التي لم تهدأ ضد روما، وتحقق قول مخلصنا الصالح: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ" (مت 24 : 2).
_____
(42) حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث ص 61.
(43) ترجمة د. عادل زكري - الطوائف اليهودية في زمن كتابة العهد الجديد ص 26.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/13.html
تقصير الرابط:
tak.la/rp9qj2z