ويرى " دولستون توماس " اللاهوتي الإنجليزي (1669 - 1733م) الذي طالما سخر من الحكايات التوراتية أن هناك تناقضًا بين تواريخ وأحداث القضاة مع تواريخ وأحداث يشوع، فيقول " فليس من المعقول أن يسقط اليهود في العبودية مباشرة بعد أن أبادت جيوشهم الجبابرة سكان أرض كنعان الأصليين كلهم. ثم من هو كوشان رشعتايم ملك بلاد ما بين النهرين الذي نزل على بني إسرائيل كالقضاء العاجل ووضع القيود في أيديهم وأرجلهم؟ كيف جاء من بلاده البعيدة؟ ولماذا لا نعرف شيئًا عن حملته... إن أحدًا لا يعقل إمكانية استعباد شعب تعداده أربعة ملايين نسمة، وعنده ست مائة ألف مسلَّح، فما بالك إذا كان مستعبدوه هم شعوب الأرض التي سحقها لتوه واستولى على بلدانها. ولا يُعقل أيضًا أن تكون جيوش يهوه البربرية أبادت السكان الأصليين إبادة تامة، وإلاَّ كيف استطاع شعب يهوه المختار أن يتزاوج مع شعب أُبيد لتوه"(2).
ج: 1- سبق الإجابة على سؤال مشابه لهذا وهو: هل عبد بنو إسرائيل الرب كل أيام يشوع والشيوخ، أم أنه بعد موت يشوع قام جيل لا يعرف الرب(3).
2- في زمن يشوع كان هو القائد الأوحد بعد موت موسى، والشعب كله ملتف حوله، وقد عظَّم الرب يشوع أمام أعين بني إسرائيل عندما فلق نهر الأردن في أوج فيضانه أمام عيونهم وعبروا فيه، وتحقَّق قول الرب له " لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك... إنما كن متشددًا وتشجع جدًا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينًا ولا شمالًا لكي تفلح حيثما تذهب" (يش 1: 5 - 7) وقد أوصت الشريعة بالقضاء على كل إنسان يجذب الناس عن عبادة الله مهما كان وضعه " وإذا أغواك سرًا أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلًا نذهب ونعبد آلهة أخرى... فلا ترضَ منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترقَّ لن ولا تستره. بل قتلًا تقتله... ترجمه بالحجارة حتى يموت" (تث 13: 6 - 10) بل وأكثر من هذا حتى لو كان هذا الإنسان نبيًا أو صالحًا فإنه يُقتل (تث 13: 1 - 5) بل وأكثر من هذا إذا انحرفت مدينة بالكامل لعبادة آلهة غريبة " فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتُحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلًا إلى الأبد لا تُبنى بعد" (تث 13: 15، 16) هذه هي مبادئ شريعة موسى التي أؤتمن عليها يشوع وحرص جدًا على التمسك بها بحسب الوصية الإلهيَّة، وبعد موت يشوع كان مازال الشعب متمسكًا بتلك الروح الخشوعية التي زرعها موسى ويشوع، ولكن شيئًا فشيئًا بردت تلك الروح، وإذ لم يكن هناك قائد للشعب كان يفعل كل واحد ما يحسن في عينيه، فقد دخل الشعب أرض الموعد وملك الأرض والبيوت والمزارع، وتعاطف مع الكنعانيين المحكوم عليهم بالفناء، وتزاوج منهم، وأقتنع بأن " بعل " هو إله الخصب، فعبده مع زوجته "عشتاروت" وهذا ما عبَّر عنه سفر القضاة " فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب. ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري. فحمى غضب الرب على إسرائيل. فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين. فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين" (قض 3: 7، 8).
3- تساءل " دولستون توماس " كيف يسقط اليهود في العبودية مباشرة، بعد أن أبادت جيوشهم سكان الأرض الأصليين؟ وهذا التساؤل يعكس أمر من اثنين، وهما الجهل أو سوء النية، لأن الكتاب قد أوضح مرارًا وتكرارًا حقيقتين:
أ - أن هناك وقتًا طويلًا مرَّ منذ حروب يشوع التي حدثت في السبع سنين الأولى من دخول أرض الموعد، ثم مرَّ نحو عشرون عامًا حتى موت يشوع، وأيضًا مرَّ وقت آخر حتى مات كل الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع، وفي كل هذه الأوقات كان بنو إسرائيل مازالوا يعبدون إلههم فقط " وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع. وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع والذين عرفوا كل عمل الرب الذي عمله لإسرائيل" (يش 24: 31) إذًا انحراف بني إسرائيل لم يحدث بعد امتلاك الأرض مباشرة، بل بين هذا وذاك مرت عشرات السنوات، مات فيها جيل بالكامل وخرج جيل جديد لا يعرف الرب " وكل ذلك الجيل أيضًا انضم إلى آبائه وقام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمل لإسرائيل" (قض 2: 10).. انظر إلى قول الوحي " كل ذلك الجيل " وليس بعضه، لقد مات الجيل بالكامل بما فيه طوال الأعمار.
ب- لم يحدث أن بني إسرائيل أبادوا سكان أرض كنعان كلهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقد أوضح الكتاب المقدَّس هذا مرارًا وتكرارًا، ولكن من يلتفت من النُقَّاد سيء النية..؟!! قال الله " فأنا أيضًا لا أعود أطرد إنسانًا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته" (قض 2: 21) فما فعله يشوع هو أنه دحر جيوش تلك الشعوب العظيمة وقتل ملوكهم، فقام بالضربة الأولى المؤثرة، وقسَّم الأرض، وكانت مازالت شعوب كنعان تعيش فيها، وترك يشوع للأسباط مهمة تطهير الأرض من أولئك الأشرار " فترك الرب أولئك الأمم" (قض 2: 23). " فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب" (قض 3: 1).. " فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين. واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم" (قض 3: 5، 6) وفي كل ما سبق نصوص واضحة ترد على تساءل توماس الذي ليس له محل من الإعراب: كيف أبادت جيوش يهوه السكان الأصليين إبادة كاملة ثم تزاوجوا معهم..؟! فهل تجد وضوحًا أكثر من هذا، ولكن هذا هو النقد الأعلى أو قل النقد الأعمى الذي ليس له هدف إلاَّ نقض الكتاب المقدَّس.
4- تساءل " توماس " أيضًا: من هو كوشان رشعتايم؟ وكيف جاء من بلاده البعيدة؟
" كوشان رشعتايم " هو ملك آرام النهرين، ومعنى رشعتايم أي " مزدوج الشر " فمعنى اسمه " كوشان ذي الشرين " وربما دُعي هكذا من قِبل بني إسرائيل لكثرة شروره. وهناك عدة مناطق دُعيت بآرام، مثل آرام النهرين، وآرام دمشق أي سوريا، وآرام صوبة. أما آرام النهرين فهي المنطقة الواقعة شمال العراق وشرق سوريا بين نهري الفرات وخابور، وجاء في " دائرة المعارف الكتابية " عن آرام النهرين " المنطقة التي يحدها نهر الفرات الأعلى من الغرب، ونهر خابور من الشرق، وتشمل مدينة حاران التي سكن فيها تارح بعد أن ترك أور الكلدانيين (تك 11: 31) وهي نفسها فدان آرام التي ذهب إليها عبد إبراهيم ليأخذ زوجة لإسحق (تك 24: 10) وموطن بلعام بن بعور (تث 23: 4) وبعد موت يشوع أُخضع بنو إسرائيل لكوشان رشعتايم ملك آرام مدة ثماني سنين (قض 3: 8 - 10)"(4) وقد أتى كوشان رشعتايم من الشمال وبسط نفوذه جنوب أرض كنعان، وهذا ليس بالأمر العجيب، فكثيرًا ما كان فرعون مصر، أو ملك بابل، ما يقطع مسافات طويلة ليبسط نفوذه في منطقة بعيدة عنه، وهذا يعتبر نوع من التعبير عن عظمة هذا الملك أو ذاك، وربما كوشان في طريقه بسط سلطانه على أسباط بني إسرائيل التي تسكن شرق نهر الأردن أيضًا.
_____
(1) البهريز جـ1 س59.
(2) ليوتاكسل - التوراة كتاب مقدَّس أم جمع الأساطير ص 223، 224.
(3) فيُرجى الرجوع إلى إجابة السؤال رقم 973.
(4) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 155.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/991.html
تقصير الرابط:
tak.la/zw4zb73