قال بعض النُقَّاد مثل " هورن " أن كاتب سفر القضاة هو فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن، وقال آخرون أن الكاتب هو أرميا، أو حزقيال، أو عزرا الكاتب بعد العودة من السبي(5) ويقول " باروخ سبينوزا " لا يُظن " أن شخصًا سليم العقل يعتقد أن القضاة أنفسهم قد كتبوه، لأن نهاية الرواية تكشف -بوضوح- أن مؤرخًا واحدًا هو الذي كتبه كله من أوله إلى آخره، إذ جاء فيه {وفي تلك الأيام لم يكن لبني إسرائيل ملك. وكان كل إنسان منهم يعمل ما يحسن في عينيه} (قض 21: 25) ومن جهة أخرى، فلماذا كان مؤلفه يكرر دائمًا أنه لم يكن هناك في عصره أي ملك لإسرائيل، فلاشك أنه لم يُكتب إلاَّ بعد أن كان لبني إسرائيل ملوك"(1)(2) وقال "مارتن نوث" M. Noth أن سفر القضاة كُتب في أواخر القرن السابع قبل الميلاد بعد الإصلاح الديني الذي قام به يوشيا الملك الصالح.
ج: لم يكتب سفر القضاة عزرا الكاتب الماهر في القرن الخامس ق.م. عقب العودة من السبي كقول بعض النُقَّاد، وأيضًا لم يكتبه أرميا النبي ولا حزقيال النبي، كقول البعض الأخر من النُقَّاد، ويمكن تحديد المدة التي كُتب فيها السفر بالتقريب، وهي خلال فترة حكم شاول الملك ثم داود الملك، وهناك أدلة عديدة على هذا، نذكر منها ما يلي:
1- جاء في السفر " فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم" (قض 1: 21) وهذا الوصف ينطبق على أورشليم قبل أن يملك داود النبي ويطرد اليبوسيين منها ويجعلها عاصمة لملكه. إذًا بكل تأكيد أن السفر كُتب قبل أن يملك داود في أورشليم، ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "كُتب سفر القضاة بعد خراب المقدس في شيلو (قض 18 31) ولكن قبل استيلاء داود على أورشليم (قض 1: 21)"(3).
2- جاء في السفرة عدة مرات " وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل" (قض 17: 6، 18: 1، 19: 1، 21: 25) ومعنى هذا أنه كُتب في عصر الملوك سواء ملك شاول أو بداية ملك داود، وهو يتناول أحداثًا حدثت قبل عصر الملوك.
3- كُتب السفر قبل حادثة أوريا الحثي، لأن يوآب عندما أرسل لداود يخبره بأنهم اقتربوا من سور المدينة التي يهاجمونها، اعترض داود قائلًا " أما علمتم أنهم يرمون من على السور. من قتل أبيمالك بن يربوشث. ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص. لماذا دنوتم من السور" (2 صم 11: 20، 21) فأخبره الرسول بأن أوريا الحثي قد مات، ففهم داود سبب اقترابهم من السور، ولكن ما يهمنا هنا أن خبر قتل أبيمالك الوارد في سفر القضاة " فطرحت امرأة قطعة رحى على رأس أبيمالك فشجت جمجمته" (قض 9: 53) كان قد سُجل في سفر القضاة، وكان معروفًا قبل موت أوريا الحثي.
4- جاء في السفر " وأفرايم لم يطرد الكنعانيون الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر" (قض 1: 29) وهذا دليل واضح أن السفر كُتب قبل عصر سليمان، لأنه في عصره ضرب فرعون مصر مدينة جازر بالسيف وأعطاها مهرًا لسليمان الملك لزواجه من ابنته (راجع 1 مل 9: 16) فلو كُتب سفر القضاة في عصر سليمان أو بعده ما كان يذكر أبدًا أن الكنعانيين كان لهم تواجد في هذه المدينة.
5- لا توجد أي شارة في السفر لا من قريب ولا من بعيد لانقسام المملكة في عصر رحبعام بن سليمان، ولو كُتب السفر في وقت متأخر لأشار لهذا الانقسام الخطير، وأيضًا لأشار للسبي، ولكن السفر خلى من هذه وتلك، دلالة على أنه كُتب قبل هذا العصر.
6- خلى السفر تمامًا من أية كلمات كلدانية، من تلك الكلمات التي دخلت للغة العبرية بعد العودة من السبي وهذا يؤكد أن " عزرا " ليس هو كاتب السفر.
7- أجمع التقليد اليهودي وعلماء اليهود على أن كاتب السفر هو صموئيل النبي، الذي كتب هذا السفر بالإضافة إلى سفر راعوث وسفري صموئيل الأول والثاني، فالسفر يوضح أن الكاتب عاش في فترة شاول وفترة داود قبل أن يملك على أورشليم ويجعلها عاصمة له (2 صم 5: 5 - 8) فمن هو أنسب وأقدر على تسجيل هذا التاريخ أكثر من صموئيل النبي آخر القضاة، وجاء في كتاب السنن القويم " وما في (قض 9: 53، 2 صم 11: 21) يبين أن سفر القضاة كُتب قبل سفر صموئيل الثاني، وهو موافق كل الموافقة للقول بأن صموئيل النبي هو الكاتب دون غيره، وأن زمان كتابته قُرب داود أو في أثناء السنين السبع من ملكه. ومن أحسن النظر في أقوال هذا السفر ظهر له أن كاتبه صموئيل النبي، ولا ريب في أن الحوادث في عصر كل من أولئك القضاة كان القضاة وغيرهم من المؤرخين يكتبونها في أوقاتها وأن صموئيل النبي وقف على تلك المكتوبات وألهمه الله أن يكتب الصحيح، لأنه كان من الأنبياء الذين يكلمهم الرب ويوحي إليهم. وبعد هذا التحقيق كله فإن عدم معرفة كاتب سفر من أسفار الوحي لا يثلم صحته ولا قانونيته لأن الوحي لم ينقطع عن إسرائيل إلى آخر أنبيائهم، فكان الأنبياء والموحى إليهم رقباء الأسفار المقدَّسة ومصدّقيها للشعب. فكان الشعب واثقًا بما فيها يحرص عليها كل الحرص على توالي السنين والأيام.
إن هذا السفر كان من جملة أسفار العهد القديم في العبرانية، والمترجمات منها، وفي كُتب علماء اليهود منذ كان إلى هذه الساعة، وأجمع الإسرائيليون والمسيحيون على قانونيته وصدَّقه أنبياء العهد القديم وكتبة العهد الجديد ورسله، وآباء الكنيسة المسيحية وعلماؤها منذ أول عهده إلى اليوم"(4).
_____
(1) الرسالة ص 276.
(2) أورده د. محمد عبد الله الشرقاوي - نقد التوراة والأناجيل الأربعة بين انقطاع السند وتناقض المتن ص 84، 85.
(3) المرشد الجغرافي التاريخ للعهد القديم ص 97.
(4) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 3 ص 182.
(5) راجع كتاب الهداية جـ 1 ص 109.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/977.html
تقصير الرابط:
tak.la/nt3amdb