قال علاء أبو بكر " كيف تصف يا نصراني الرب الخالق لأولادك؟
فإن قلت له أنه إله المحبة، فهذا غير كافٍ وسيبادرك بالسؤال: وهل لم يكن إله للمحبة عندما أوصى إلى موسى والأنبياء أن يبيدوا الأمم؟ وأن يقتلوا الأطفال؟ وأن يقتلوا الرضع؟ وأن يبيدوا النساء؟ فكيف يكون إله للمحبة وهو يأمر بالقتل والحرق والإبادة؟
أم هل تغيرت صورته وتجمَّل وعمل (نيولوك) ليعجب عبيده بعد أن رفضه بنو إسرائيل وألَّهوا الأصنام وتركوه؟ وهل هذا من النسخ لصورة الإله أم من المسخ"(1).
وقال عاطف عبد الغني " إن وصية سفر التثنية السابقة لا شك تخالف وصية أخرى نقشها الله بإصبعه على لوح حجر تقول: لا تقتل، وهي وصية مطلقة حرَّمت فعل القتل في حد ذاته أي حرَّمت سلب الحياة من الروح التي خلقها الله إنسانًا أو حيوانًا أو طائرًا أو زرعًا، فنسختها شريعة التثنية حسب هوى الكهنة وبمعرفتهم، فإذا كان الله قد أوصى موسى أن يبلغ الناس ألا تقتل، فمن الذي أوحى إليه بعد ذلك بأوامر القتل والاغتصاب والاستعباد والإبادة؟! وهي أفعال من شأنها فساد الكون، كأن رب الجنود قد جعل إسرائيل آلة لبذر الشر"(2).
كما تساءل عاطف عبد الغني قائلًا هل يفعل الله ذلك لأن اليهود يستحقون أن يكونوا أداة لتنفيذ مشيئته؟! كلاَّ، بل أنهم سقطوا في العناد والكفر... هل فعل الله ذلك بسب إثم تلك الشعوب وحتى يستبدلهم بشعب مؤمن وبار؟ كلاَّ... إنما فعل الله هكذا ليفي القسم الذي أقسمه للآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب (تث 6: 5) فكيف يخلق الله هذه الشعوب ليفنيها إسرائيل ويسكن أرضها بمجرد أن الرب وعد بذلك؟! وهل إله إسرائيل إله عنيد لا يعود في كلامه في هذه النقطة بالذات؟ وهل هو إله عنصري إلى هذا الحد؟(3).
وقال الدكتور مصطفى محمود عن اليهود "وجعلوا من الرب طاغوتًا دمويًّا يستبيح لهم جميع الأمم {حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك}"(4).
وقال الدكتور محمد عمارة بالتوراة "وجدنا الأوامر الإلهيَّة التي تدعوهم إلى تدمير كل الأخيار من البشر إلى الشجر إلى الحجر، ومن الحيوان إلى الطبيعة، ومن الكبار إلى الأطفال، ومن الرجال إلى النساء.."(5).
ج: مع الترفع عن الأسلوب الهابط لبعض النُقَّاد نقول سبق الإجابة على هذه التساؤلات(6)، ومع هذا نعيد طرح الموضوع مع إضافات جديدة:
1- لماذا أمر الله بإبادة هذه الشعوب:
أ - لأن شر هذه الشعوب قد وصل إلى أقصى مداه، بل إلى منتهاه، فقد دب الفساد في هذه الشعوب مثل السرطان، حتى وصل الأمر بهم إلى تقديم أطفالهم ذبائح بشرية للأصنام، كما ارتكبت كاهنات المعابد الرذيلة في أبشع صورها تحت مسمى العبادة، ولهذا لم يكن هناك حل غير استئصال هذه الشعوب، كما أباد الرب البشرية من قبل بالطوفان، كما أباد سدوم وعمورة بالنار والكبريت، وجاء ذكر هذا وذاك في القرآن، ولم يعترض ناقد من النُقَّاد المسلمين، ولأجل نفس الأسباب صدر الحكم الإلهي بتحريم هذه الشعوب (تث 20: 16 - 18) أي إفناءها بالتمام والكمال ليس من جهة البشر فقط، بل حتى من جهة الممتلكات وإن حوت معادن نفيسة فمآلها للحريق، لأنها تدنست ببشاعة الخطية والرذيلة، ويشرح ج. ت. مانلي G. T. Manley معنى التحريم فيقول " من المهم أن ندرك المعنى الكامل لكلمة " محرَّم". المحرَّم هنا هو الشيء أو الشخص المخصص لعبادة الآلهة الغريبة. وهذه مكروهة كما يجب أن تُكره الخطية، لأنها مفسودة ومفسدة، كرداء يحمل الوباء لا يستحق إلاَّ الحريق، لئلا يقع الحرمْ على أولئك الذين يستحيونهم"(7).
وجاء في كتاب السنن القويم " تُحرّمهم أي تقتلهم وتفنيهم. وليس في هذا ما يُعترض به على الدين الإلهي بأنه يحلّل قتل الخارجين عنه، فإن الله أراد أن يهلك أولئك الأمم بواسطة إسرائيل، وله أن يُميت من شاء بالمرض أو بغيره. وكان الإسرائيليون مأمورون بذلك بدون أن يحلَّ لهم أن يقتلوا غيرهم، ولو كان دين الله يُحلّل قتل المخالف بالدين لجاز لهم أن يقتلوا كل من ليس بيهودي، والواقع غير ذلك، فالكتاب خالٍ من ذلك، وأمر الله هنا محصور بقتل من أراد إفناءهم. وما قيل على هؤلاء يُقال على الأمم الذين حاربهم موسى وقتلهم كعماليق وسيحون وعوج وغيرهم وعلى ما أتاه القضاة وداود في محاربة الفلسطينيين (2 صم 5: 19)"(8).
ولو بدا هذا الحكم أنه قاسيًا لكنه كان في جانب الحق، وإن كان القاضي الأرضي يُوقِع حكم الإعدام على الإنسان المجرم، فهل لا يحق لله الخالق واهب الحياة أن ينتزع هذه الحياة من أولئك الأشرار؟! ويقول القمص تادرس يعقوب " كانت هذه الشعوب عنيفة للغاية تقدم الأطفال مُحرَقة للآلهة وتتقدم النساء والفتيات للزنا لحساب الآلهة الوثنية مع رجاسات أخرى بشعة، لذا كانت تمثل خطرًا على انحراف شعب الله (تث 20: 18) لم يستخدم (الله) مع (هذه) الأمم أية رحمة، لأن الفساد قد تفشى ودمر سكانها أبديتهم بأنفسهم، وصار الأمر خطيرًا حتى بالنسبة لشعب إسرائيل متى احتلوها إن بقيت أية آثار لعبادتهم"(9).
ب - كم أطال الله أناته على هذه الشعوب، فمنذ عصر إبراهيم وما قبله وهم يرتكبون الشر ويشربون الإثم كالماء، ومع ذلك فإن الله قال لإبراهيم أنه سينتظر عليهم أربعمائة سنة أخرى " لأن ذنب الأموريين ليس إلى الأبد كاملًا" (تك 15: 16) وعندما استوفوا شرورهم كان لا بُد أن يجوز فيهم سيف العدالة الإلهيَّة.
جـ- أصدر الله حكمه بإبادة تلك الشعوب حتى لا يفسدوا الشعب العبراني بعبادتهم النجسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقد أوضح الله هذه الحقيقة قائلا ً لشعبه إسرائيل " تحرّمهم. لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم. ولا تصاهرهم. بنتك لا تعطِ لابنه وبنته لا تأخذ لأبنك. لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أُخرى فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا" (تث 7: 3، 4).. " لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم" (تث 20: 18).. " لا تقطع معهم ولا مع آلهتهم عهدًا. لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلوك تخطئ إليَّ" (خر 23: 32، 33) فقد كان من الضروري الحفاظ على قدسية هذا الشعب الذي اختاره الله ليتجسد منه. وإن كان حكم التحريم (الإبادة الشاملة) هنا ثقيل على تلك الأذان التي تربت على تعاليم السيد المسيح بمحبة الأعداء والصفح والمغفرة (مت 5: 43 - 48) ولكن يجب ألاَّ ننسى أنه متى تعرضت الأمة للخطر فمن حق الحاكم إعلان حالة الطوارئ والحرب، وحيث أن هذه الشعوب كانت مصدر خطر حقيقي على شعب الله، ولأن مكيالها كان قد امتلأ وفاض، لذلك صدر الحكم الإلهي بإبادة تلك الشعوب. ولو تأملنا هذا الحكم فإننا نلاحظ أن الله هو الذي له الحق في إنهاء حياة الإنسان في الوقت الذي يراه، وهذه الشعوب كانت جميعها ستموت وتنتهي، فما فعله الله هو أنه ركز لحظات الموت لهذا العدد الغفير، ولم يمهلهم في الحياة بسبب كثرة شرورهم.
د - كلف الله شعبه بتنفيذ هذا الحكم الإلهي العادل على هذه الشعوب التي حان موعد القصاص منها، ويقول هنري تشارلس ماكنتوش " إن إسرائيل دُعي ليحارب حروب الرب في اللحظة التي وطأت فيها أقدام بني إسرائيل أرض كنعان بدأت الحرب على أشدها مع سكانها الذين قُضي عليهم قضاءً مبرمًا {وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منهم نسمة} وهذا الحكم قاطع وصريح. فنسل إبراهيم لم يعطيهم الرب أرض كنعان نصيبًا لهم فقط، وإنما استخدمهم في يده كآلات لتنفيذ قضاءه العادل على سكان الأرض المذنبين الذين بلغ شرهم عنان السماء وضجت الأرض من إثمهم"(10).
وقد كلَّف الله شعبه بتنفيذ الحكم الإلهي العادل، حتى يكون عظة عملية قوية تحدثهم عن بشاعة ونهاية الشر، حتى لا يسقط هذا الشعب في هذه الرذائل فتكون نهايته كنهايتهم " بكل هذه لا تتنجسوا لأنه بكل هذه قد تنجَّس الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم" (لا 18: 24).. " فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعملوها لكي لا تقذفكم الأرض التي أنا آتٍ بكم إليها لتسكنوا فيها" (لا 20: 22) ومع كل هذا فقد انحرف الشعب نحو هذه العبادة النجسة، فسرى عليهم الحكم ذاته الذي سبق وسرى على شعوب الأرض، وطُردوا من أرضهم، وسيقوا في السبي، وتعرضوا للإبادة الجزئية، وقال المرنم عن بني إسرائيل " لم يستأصلوا الأمم الذين قال لهم الرب عنهم. بل اختلطوا بالأمم وتعلموا أعمالهم. وعبدوا أصنامهم فصارت لهم شركًا وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان. وأهرقوا دمًا زكيًا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان وتدنست الأرض بالدماء. وتنجسوا بأعمالهم وزنوا بأفعالهم. فحمى غضب الرب على شعبه وكره ميراثهم وأسلمهم ليد الأمم وتسلط عليهم مبغضوهم. وضغطهم أعداؤهم فذُلوا تحت يدهم" (مز 106: 34 - 42) فكم وكم لو لم تصدر هذه الأوامر الإلهيَّة لهم بالاقتصاص من هذه الشعوب؟.
هـ- عندما زاد شر العالم في القديم حكم الله بفناء كل العالم بالطوفان بكل ما فيه من رجال ونساء وأطفال وحيوانات وطيور، ولم ينجو غير نوح وأسرته، وجاء ذكر هذا الطوفان في القرآن مرارًا وتكرارًا " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونًا" (القمر 11، 12) وأيضًا ورد الخبر في سور الأعراف 64، ويونس 63، والعنكبوت 140. إلخ وبسبب شر مدينتي سدوم وعمورة حكم الله عليهما بالدمار، فاحترقتا بكل ما فيهما من رجال ونساء وأطفال وحيوانات وطيور ولم ينجو غير لوط وإبنتيه، وجاء ذكر ذلك في القرآن أيضًا " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل" (هود 82).. " إنا مُنزلون على أهل هذه القرية رجزًا من السماء بما كان يفسقون" (العنكبوت 34).. " وأمطرنا عليهم مطرًا فأنظر كيف كانت عاقبة المجرمين" (الأعراف 84) ولم يعترض واحد من النُقَّاد المسلمين على هذا أو ذاك، فلماذا يعترضون على إبادة شعوب كنعان..؟!
و - لماذا لا يصدق هؤلاء النُقَّاد أن الله وعدهم بهذه الأرض، وقد جاء هذا في القرآن الذي يؤمنون به، حيث ذكر دعوة موسى لقومه لدخول الأرض المقدَّسة بحسب الأمر الإلهي، وخوفهم من سكانها ولذلك أتاههم الله في صحراء سيناء أربعين سنة قبل أن يدخلهم الأرض المقدَّسة فقال " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وأتاكم ما لم يؤتِ أحد من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبون خاسرين. قالوا يا موسى أن فيها قومًا جبارين وإنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا يا موسى إنَّا لن ندخلها أبدًا ماداموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا هنا قاعدون. قال ربي إني لا أملك إلاَّ نفسي وأخي فأفرق بيننا وبين القوم الفاسقين. قال فإنها مُحرَّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض" (المائدة 20 - 26) فقوله " أدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم " تتحدث بوضوح عن الوعد الإلهي للشعب العبراني بامتلاك الأرض التي كتب الله لهم، وقول الجاسوسان (يشوع بن نون وكالب بن يفنه) " أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " يؤكد المشيئة الإلهيَّة في إهلاك هذه الشعوب الوثنية، وكيف يمتلكون الأرض إن لم يبيدوا سكانها؟! وإنني أتعجب من عاطف عبد الغني والدكتور مصطفى محمود والدكتور محمد عمارة وغيرهم من الذين يهاجمون التوراة بما سجله القرآن، هل يعلمون ويهاجمون ما يعتقدون به، أم أنهم يجهلون ويهاجمون ما يعتقدون به أيضًا.
ز - الأمر الإلهي بإبادة هذه الشعوب كان أمرًا استثنائيًا خاص بمدن أرض كنعان، وله ما يبرره، وهو أن شر هذه الشعوب قد صعد إلى عنان السماء، ولكيما يحل شعب الله محل هؤلاء الشعوب الذين لفظتهم الأرض، فكان هذا القانون العسكري أشبه بقانون الطوارئ. أما الحالة العامة والقانون السائد في العهد القديم فهو قانون السلام ونبذ الحروب، ولذلك أوصى الله بمحبة الكل " لا تكره أدوميًا لأنه أخوك. لا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلًا في أرضه" (تث 23: 7) وأوصى الله شعبه قائلًا " إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردًا ترده إليه" (خر 23: 4) وجاء في العهد القديم أيضًا " إن جاع عدوك فاطعمه خبزًا وإن عطش فاسقه ماء. فإنك تجمع جمرًا على رأسه والرب يجازيك" (أم 25: 21، 22) وعندما أعطى الله لشعبه الوصايا العشر كان من بينها وصية " لا تقتل" (خر 20: 13) فقد نهى الله عن القتل سواء كان الضحية يهوديًا أو أمميًا، فهذه هي القاعدة العامة. أما الاستثناء فهو ما حدث مع شعوب كنعان بسبب كثرة شرورهم التي صعدت إلى عنان السماء، ولكيما لا يغووا شعب الله المقدَّس " لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم. فتخطئوا إلى الرب إلهكم" (تث 20: 18).
ويقول القمص تادرس يعقوب " وضعت هذه الشريعة الخاصة بالحروب إلى حين يملك الشعب عوض الأمم الوثنية. لكن فكر الله، واضح حتى في العهد القديم أنه لا يريد الحروب بل السلام. وكما يقول المرتل مسبحًا أعمال الله الفائقة: "مُسكّن الحروب إلى أقصى الأرض، يكسر القوس ويقطع الرمح. المركبات يحرقها بالنار. كفوا وأعلموا إني أنا الله" (مز 46: 8 - 10) وجاء في رؤية لإشعياء النبي عن عمل المسيا: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال... وتجري إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد" (أش 2: 2 - 4) وفي ميلاد السيد المسيح قيل "على الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو 2: 14)"(11).
2- ردًا على عاطف عبد الغني أود أن أذكر الآتي:
أ - أعطى الله وصية " لا تقتل " ليست كوصية مُطلقة بل كان لها استثناءات، فمثلًا أمر الله بقتل القاتل " سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه" (تك 9: 6) كما أمر الله بقتل الرجل الذي كسر وصية السبت " فقال الرب لموسى قتلًا يُقتل الرجل" (عد 15: 35).. إذًا وصية " لا تقتل " لها حدود وليست مُطلقة، وإلاَّ ساد الإجرام والفساد، فحيث لا رادع يفعل المجرم ما بدى له، ويتحوَّل المجتمع الإنساني إلى غابة.
ب- قال الناقد " فمن الذي أوحى إلى موسى بعد ذلك بأوامر القتل والاغتصاب"؟ فمن أين أتى الناقد بفعل الاغتصاب؟! فالكتاب المقدَّس كله منزّه عن هذا، ومن المستحيل أن تشتم منه رائحة الاغتصاب قط، بل جاءت الوصية حاسمة " لا تزنِ " ومطلقة، فمن يزني مع امرأة أو بهيمة يُقتل قتلًا (لا 20: 10 - 16) فإن كان الله يقاوم الزنا ويحرمه ويجعل عقوبته الموت، فهل يُعقل أن يأمر شعبه بالاغتصاب؟!! كلاَّ... إنما هو عنصرية الناقد وتحيّزه، وهذا أمر اعتاد عليه النُقَّاد، فمثلًا يقول ناجح المعموري " وتتضح نبرة العرقية الخاصة باختيار العبران فقط شعبًا ليهوه كي يمنحهم تفويضًا إلهيًّا {أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار} (عد 31: 10) أو {أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار} أو.."(12) مع أن الله لم يأمر قط بحرق أبناء وبنات الشعوب الوثنية، إنما هذه الشعوب هي التي أحرقت أطفالها ولذلك حق عليها العقاب الإلهي، وجاء النص في سفر التثنية يحذر إسرائيل من رجاسات الأمم " لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب مما يكرههُ إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم" (تث 12: 31).
وفي سياق حديثه يقول أيضًا ناجح المعموري أن يهوه كان " بحاجة إلى تقدمات كلية وشاملة، ولم تعد التقدمات أو المعاقبات المُنفَذة في صحراء سيناء كافية، من أجل إشعاره بسلطته كرب للحرب والدمار. فإنه ما عاد مقتنعًا بذلك، بل يريد مدينة كاملة تُقدَم له قربانًا {فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحاتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك} (تث 13: 15 - 16)"(13) وحيث أن الناقد يتحدث عن تفويض يهوه لشعبه للاقتصاص من الأمم، فالمفهوم من الناقد أن المدينة موضع الحديث هي من مدن الأمم، وهذا يخالف الحقيقة، لأن المدينة المقصودة هنا هي مدينة يهودية مرتدة، ولم يوضح الناقد الحقيقة " إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولًا. قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوَّحوا سكان مدينتهم قائلين نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها. وفحصت وفتشت وسألت جيدًا وإذا الأمر صحيح وأكيد قد عُمل ذلك الرجس في وسطك. فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتُحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها.." (تث 12: 12 - 17). والنص السابق يثبت بشكل قاطع أن الله ليس إلهًا عنصريًا وليس لديه محاباة، ويرفض الشر تمامًا. كما أن يهوه ليس رب للحرب والدمار بل إله رؤوف أطال أناته جدًا على هؤلاء الفاسدين، حتى استوفوا مكيالهم فحقت عليهم العقوبة، وكان لا بُد أن يجري عليهم سيف العدل الإلهي، وقد أفضنا في شرح هذه القضية(14).
جـ- قول الناقد بأن الكهنة هم الذين نسخوا وصية " لا تقتل " بما كتبوه في (تث 20: 10 - 20) قول مردود عليه لأن موسى هو الكاتب الوحيد للتوراة باستثناء الإصحاح الأخير، وقد ناقشنا هذا الموضوع بإستفاضة(15).
3- قاد الله البشرية نحو طريق الكمال، ففي العهد القديم إذ أراد الله أن يُحجم الشر الذي كان مستشريًا حينذاك قال " نفسًا بنفس وعينًا بعين وسنًا بسن" (خر 21: 23، 24) ولكن في العهد الجديد عصر النعمة والحق طالب الله الإنسان بالتسامح إلى درجة محبة الأعداء " أحبوا أعداءكم" (مت 5: 44).. " إن كان ممكنًا حسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رو 12: 18) فما كان متبعًا في القديم مع البشرية في طفولتها وعصيانها، لم نعد الآن في احتياج إليه، فمثلًا في القديم وصلت عقوبة الزنا إلى حد الرجم ليُظهر الله مدى بشاعة هذه الخطية، أما الآن وقد إستنارت أذهان عقولنا بمعرفة الروح القدس لم نعد نحتاج إلى مثل هذه العقوبة لندرك مدى بشاعة هذه الخطية.
4- لماذا يعيب عاطف عبد الغني وغيره على بني إسرائيل دخولهم الأرض المقدَّسة والاقتصاص من أهلها، بينما يقبلون الغزوات التي حدثت في صدر الإسلام، فقد قاد الرسول وأصحابه 82 غزوة، ويقول الدكتور السيد عبد العزيز سالم أنه عندما حاصر الرسول بني قريطة اليهود أبدوا استسلامهم على أن يحكمهم أسعد بن معاذ " فحكم أسعد بن معاذ فيهم بحكم رسول الله وهو أن تُقتل الرجال وتُقسم الأموال، وتُسبي الذراري والنساء، فأمر بهم الرسول فسيقوا جماعات إلى موضع سوق المدينة حيث حُفرت لهم خنادق، ثم أمر الرسول فضُربت أعناقهم في تلك الخنادق. وبلغ عدد القتلى منهم ما بين 600 و700 يهودي"(16).
فعجبًا لهؤلاء النُقَّاد الذين يكيلون بمكيالين، ويتجاهلون تمامًا الغزوات وكيف اغتنى منها الصحابة، ويذكر الكاتب الكبير الصادق الأستاذ فرج فودة ثروات خمسة من كبار الصحابة المُبشَرين بالجنة " كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار فانتهت وذهبت... كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف... وسعد ابن أبي وقاص... ترك يوم مات ألف وخمسين ألف درهم... قيمة ما ترك طلخة بن عبيد الله... ثلاثين ألف ألف درهم... ترك عبد الرحمن بن عوف... وكان فيما ترك ذهب قُطع بالفؤوس حتى مَجُلت أيدي الرجال منه"(17) ويكفي أن نشير إلى ضحايا حروب الردة، فقد قتل خالد بن الوليد من بني حنيفة المرتدين فقط واحد وعشرين ألف رجل(18) وفي موقعة اليرموك قتل خالد بن الوليد مائة وعشرين ألفًا من الجيش البيزنطي(19).. إلخ.
_____
(1) البهريز جـ4 س140.
(2) أساطير التوراة ص 41، 42.
(3) راجع أساطير التوراة ص 40.
(4) التوراة ص 27.
(5) أورده نصحي خليل شنودة - مقالات وتصحيح المفاهيم جـ2 ص 22.
(6) فيرجى الرجوع إلى إجابة س828.
(7) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 422.
(8) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 2 ص 389.
(9) تفسير سفر التثنية ص 408، 409.
(10) مذكرات على سفر التثنية ص 549.
(11) تفسير سفر التثنية ص 397، 398.
(12) أقنعة التوراة ص 190.
(13) المرجع السابق ص 190، 191.
(14) فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ2 من س108 إلى س111 ص 237 - 276، وأيضًا يُرجى الرجوع إلى إجابة السؤال رقم 865.
(15) راجع مدارس النقد جـ 1 س280.
(16) تاريخ الدولة العربية - تاريخ العرب منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الدولة الأموية ص 99.
(17) الحقيقة الغائبة ص 53، 54 .
(18) راجع تاريخ الدولة العربية ص 179.
(19) راجع الطبري جـ 4 ص 34.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/873.html
تقصير الرابط:
tak.la/b24hd35