فيرى بعض النُقَّاد أن سفر التثنية يعد أقل أهمية من سفري اللاويين والعدد لأنه تكرار لما جاء فيهما، فيقول ليوتاكسل " يمثل سفر التثنية، وهو الكتاب الخامس والأخير من كتب موسى الخمسة، أهمية أقل من تلك التي كانت لسفري اللاويين والعدد"(1).
ج: 1- بينما فنى الجيل الذي خرج من أرض مصر والذي يزيد عمره عن عشرين سنة في صحراء سيناء بسبب تذمراتهم العديدة، ونشأ جيل جديد كان متأهبًا للدخول إلى أرض كنعان، كان من المفيد جدًا لهذا الجيل أن يسمع عرضًا لعجائب الله مع شعبه، وأن يسمع هذا من فم القائد وشاهد العيان ورئيس الأنبياء موسى.
2- يعكس سفر التثنية عظم محبة موسى لشعبه، فقد وضع نفسه عن شعبه، حتى قال لله " والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32) ومن محبة موسى اهتمامه بالأجيال الجديدة، فهو المعلم الناجح الذي يربو عمره عن المائة عام واستطاع أن يتعامل مع الأجيال الجديدة بسهولة ويسر، دون أن يكون هناك فجوة بينهم، وهي ما يدعونها الفجوة بين الأجيال.
3- الأمور التي أعاد سفر التثنية عرضها كانت لازمة وضرورية ومهمة كأساس يقوم عليه المجتمع عندما يدخل أرض الموعد، ويصف "بيدرسون" الغرض من سفر التثنية قائلًا " أن الهدف الرئيسي لهذا السفر في شكله الحالي، هو أن يحمي المجتمع الإسرائيلي من النفوذ الكنعاني"(2)(3).
4- من جهة يحتاج الإنسان في حياته دائمًا لمن يذكره بعمل الله من أجله حتى قبل أن يولد، فهذه التذكرة تمثل له حافزًا وقوة دافعة نحو طريق الملكوت، ومن جهة أخرى يلتزم القائد الروحي أن ينهض شعبه من غفوته ويذكّره بالمواعيد الإلهية، وهذا ما أوضحه معلمنا بطرس الرسول عندما قال " لذلك لا أهمل أن أذكركم دائمًا بهذه الأمور وإن كنتم عالمين ومثبَّتين في الحق الحاضر. ولكني أحسبه حقًا مادمت في هذا المسكن أن أنهضكم بالتذكرة" (2 بط 1: 12، 13).
5- يُعد سفر التثنية شاهدًا على عمل الله مع موسى النبي، فمثلًا:
أ - أراد موسى النبي في البداية أن يستعفي من أداء الرسالة لأنه ثقيل الفم واللسان، وفي نهاية حياته نجده خطيبًا مفوَّهًا يلقي على الشعب ثلاث عظات تغطي معظم سفر التثنية، والأمر العجيب أن الكتاب المقدَّس لم يسجل عظات وداعية لنبي من أنبياء العهد القديم أو رسول من رسل العهد الجديد مثلما سجل هذا الكم الهائل لموسى النبي.
ب - تلمس في السفر حياة الفرح والنصرة التي عاشها موسى حتى في أيامه الأخيرة، فلا عجب أن نراه يشدو بنشيده في الإصحاح الثاني والثلاثين داعيًا السموات لتصغى له ومنهضًا الأرض لتسمع أقوال فمه وهو يعظم الله " إنصتي أيتها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي... أعطوا عظمة لإلهنا... إن قسم الرب هو شعبه. يعقوب حبل نصيبه... أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة العين حدقة... أركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلًا من حجرٍ وزيتًا من صوان الصخر... ودم العنب شربته خمرًا.." (تث 32).
جـ- طريقة الموت العجيب التي خص به الله عبده موسى، فقد أخبره بخبر موته وطلب منه أن يصعد إلى جبل نبو ليموت هناك، ولا يصحب معه أي إنسان، ولا أحد من أولاده يراه. وصعد موسى في همة ونشاط، فعيناه لم تكل ولا ذهبت نضارة وجهه. وقد دعى الآباء موت موسى بموت القُبلة، لأنهم تصوَّروا أن الله حضر مع ملائكته حفل رقاده، وقد قبَّله الله قبل رقاده، فهكذا عزيز في عيني الرب موت الأبرار، ودُفن موسى بطريقة عجيبة بواسطة الله أو ملائكته في أرض موآب على الجبل، بعيدًا عن أعين بني إسرائيل لئلا يستخرجوا جسده ويعبدوه من شدة محبتهم له.
6- لو وضعنا مبدأ الاستغناء عن كل ما نتصوَّر أنه تكرار في الكتاب المقدَّس، لاستغنينا عن كل ما نتصوره أنه تكرار لمعجزات السيد المسيح وأحاديثه، ولا سيما أحداث الآلام والقيامة، والحقيقة أن ما نتصوَّره تكرارًا عندما نتمعن فيه نجد أوجه أخرى تستكمل الصورة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فسفر التثنية يمثل عهدًا جديدًا قطعه الله مع شعبه في أرض موآب " هذه هي كلمات العهد الذي أمر الرب موسى أن يقطعه مع بني إسرائيل في أرض موآب فضلًا عن العهد الذي قطعه معهم في حوريب" (تث 29: 1).
7- يقول " تشارلس هنري ماكنتوش": "نخطئ جدًا إن كنا نظن أن هذا السفر كما يُستفاد من اسمه وعنوانه هو عبارة عن مجرد تكرار لما جاء في الأسفار التي سبقته... كلما تتبعنا إلهنا في صحائف الكتاب المقدَّس أو في دائرة أعمال الخليقة الواسعة لا نجد سوى الملء الإلهي أو التنوع الذي لا حد له والصوُّر التي تختلف كل منها عن الأخرى، وعلى قدر ما تنضج روحانية أذهاننا على قدر ما نستطيع أن نميز ونُقدّر هذه الأشياء... ما أضعف فكر الإنسان الذي يتصوَّر ولو لحظة واحدة أن السفر الخامس من أسفار موسى ما هو إلاَّ مجرد تكرار فاصل لما جاء في سفر الخروج واللاويين والعدد. مثل هذا الشخص فقير جدًا وغير مدرك للمعنى المقصود من الوحي"(4).
8- تقول الأخت الإكليريكية شيرين صابر كامل - إكليريكية دمنهور " من المؤكد أن كل كلمة في الكتاب المقدَّس لها فائدتها، ونستطيع أن نلمح تمايزًا بين سفر التثنية وما سبقه من أسفار:
أ - سفري اللاويين والعدد مُوجَّهان بالأكثر للكهنة واللاويين لأنهما احتويا الشرائع وطقوس العبادة والأحكام، أما سفر التثنية فهو مُوجَّه بالأكثر للشعب، لأنه احتوى على الكثير من الإيضاحات والشروحات والتفسيرات والحث على الالتزام بالوصايا.
ب- بعد أن عاش موسى الوصايا وتذوَّقها، لم يشاء أن يغادر العالم دون أن ينقل لشعبه طعم العشرة مع الله وحلاوة تنفيذ وصاياه، فليست الوصية جامدة ولا الطقس، بل يفيضان بالحب المتبادل بين الله والإنسان، ولهذا ألقى عظاته الوداعية هذه من خلال هذا السفر.
جـ- موسى الخادم الأمين مثله مثل بولس الرسول الملتهب غيرة نحو خلاص شعبه، وكتب لأهل فيلبي يقول " كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليَّ ثقيلة وأما لكم فهي مُؤمّنة" (في 3: 1).
د - لم يكرر موسى الكلام باطلًا بلا داعٍ، فإن سفر التثنية هو سفر التذكرة لوصية الله والارتباط بها " وأربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك" (تث 6: 8، 9).
هـ- نغمة هذا السفر هي الطاعة القائمة على الحب، وقد لخص السيد المسيح الوصايا " وقال تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك" (لو 10: 27) فالسفر دعوة للطاعة والحب لكيما يكون لشعب الله راحة واستقرار وثبات في أرض الموعد.
و - حوى السفر نبوءات صريحة عن مجيء السيد المسيح بالجسد (تث 18: 15، 18) ولأول مرة نسمع عن لعنة الصلب (تث 21: 23)"(5).
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 200.
(2) Pederson, ILC , 27.
(3) برهان يتطلب قرارًا ص 416.
(4) مذكرات على سفر التثنية ص 7.
(5) من أبحاث النقد الكتابي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/839.html
تقصير الرابط:
tak.la/2z4438j