ج: مع أن الضربات العشر مثَّلت عقوبات لفرعون الذي أغلظ قلبه، وشعبه الذي سانده وتمادى في استعباد شعب الله، لكن كان للضربات أهداف أخرى نذكر منها:
1- أن يعرف المصريون، بل تعرف كل الأرض، الإله الحقيقي " فيعرف المصريون إني أنا الرب حينما أمد يدي على مصر وأُخرج بني إسرائيل من بينهم" (خر 7: 5) وكان من الممكن أن يرسل الله وباء ليبيد فرعون وجيشه ولكنه قال له " لأنه هذه المرة أرسل جميع ضرباتي إلى قلبك وعلى عبيدك وشعبك لكي تعرف أن ليس مثلي في كل الأرض فأنه الآن لو كنت أمدُّ يدي وأضربك وشعبك بالوباء لكنت تباد من الأرض. ولكن لأجل هذا أقمتك لكي أريك قوتي ولكي يُخبر باسمي في كل الأرض" (خر 9: 14-16).
2- وُجهت الضربات ضد آلهة المصريين لإظهار بطلان العبادات المصرية وكشف عجز هذه الآلهة عن خلاص الإنسان، وأن هذه الآلهة ليست حقيقية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لذلك وُجهت كل ضربة من الضربات التسع الأولى إلى إله أو أكثر من الآلهة المصرية.
الضربة الأولى (تحويل الماء إلى دم)
الضربة الثانية (ضربة الضفادع)
الضربة الثالثة (ضربة البعوض)
الضربة الرابعة (ضربة الذبان)
الضربة الخامسة (موت المواشي)
الضربة السادسة (ضربة الدمامل)
الضربة السابعة (ضربة البَرَد)
الضربة الثامنة (ضربة الجراد)
الضربة التاسعة (ضربة الظلام)
الضربة العاشرة (موت الأبكار)
وُجهت هذه الضربة لمياه النيل "حابي" المعبود الأعظم لقدماء المصريين، فهو أصل الخير والرجاء، وكان المصريون يحتفلون به في كل عام، ويقدمون له القرابين والتسابيح فقد ذهب فرعون وحاشيته إلى النهر فوجد موسى وهارون في انتظاره، وأخبراه بقضاء الله " الرب إله العبرانيين أرسلني إليك قائلًا أطلق شعبي ليعبدوني في البرية وهوذا حتى الآن لم تسمع. هكذا يقول الرب بهذا تعرف إني أنا الرب" (خر 7: 16، 17) وعندما ضرب هرون الماء بالعصي تغير لون الماء في لحظة، وليس اللون فقط بل وطبيعة الماء أيضًا تغيرت، إذ تحوَّل الماء إلى دم فعلًا، فنفقت الأسماك وتصاعدت رائحة النتانة حتى أفسدت الهواء أيضًا، فخزى المصريون وشملتهم الحيرة والخجل لعجز إلههم (حابي) في حماية نفسه... لقد أغرقوا أطفال العبرانيين في مياه النيل، فتحولت هذه المياه إلى دم يعلن بشاعة خطيتهم وسفكهم للدماء البريئة، وكما فعل هرون وموسى فعل السحرة أيضًا، فالشيطان دائمًا يحاول أن يقلد الأعمال الإلهيَّة ليجذب الأنظار إليه مدعيًا إنه إله.
وجاء في كتاب السنن القويم عن المصريين " فأنهم كانوا يؤلهون النيل ويعبدونه فأفسده موسى. وما قيمة إله يفسد ؟ وما حال عبدَّته إذا رأوه كذلك؟ وأنهم في أشد الحاجة إلى النيل لحياتهم وحياة بهائمهم وزروعاتهم وسائر نباتاتهم، وإن النهر الذي اتخذوه وسيلة إهلاك لأبناء الإسرائيليين صار وسيلة أهلاكٍ لهم، فكان الجزاء من جنس العمل. وأنهم كانوا يغتذون بسمكه ففسد السمك وأنتن، وكانوا يترنمون له بالأناشيد فأصبحوا ينوحون عليه"(1).
قدَّس المصريون الضفادع، فكانوا يعتقدون أن انتفاخ الضفادع يعتبر وحيًا إلهيًا، وارتبطت الضفادع بإله النيل (حابي) والإلهة الضفدعة (هكت) وزوجها (خنوم) العظيم، وترمز الضفادع للإخصاب، وكان يستحيل على المصري الذي يقدسها أن يبيدها، ولذلك صرخ فرعون لموسى ليخلصه من هذه الضربة، وقد انتشرت الضفادع في معاجنهم ومخادعهم وكل مكان.
ويقول ف. ب. ماير " اكتظت الأرض بالضفادع فجأة. خرجت من النهر ربوات ربوات حتى خيل أن الأرض تتحرك بسببها، وكان من المستحيل أن يسير المرء خطوة دون أن يسحق بقدميه عشرات منها. ضفادع في البيوت وضفادع في الفراش والأَسرة، وضفادع تُخبز مع الخبز في التنور، وضفادع في المعاجن تختلط بالعجين. ضفادع بأصواتها المزعجة المملة، ضفادع في كل مكان بجلدها البارز القذر. ضفادع من الصباح إلى الليل، ومن الليل إلى الصباح. ومما زاد من شناعة الضربة أن الضفدعة كانت رمز آلهة الإخصاب ولذلك كان مُحرمًا إبادتها"(2) ومن هذه الضربة بدأ فرعون يشعر بقوة إله العبرانيين، وقال لموسى وهارون " صليا إلى الرب ليرفع الضفادع عني وعن شعبي فأطلق الشعب ليذبحوا للرب" (خر 8: 8) ورغم أن السحرة قلدوا هذه الضربة، لكنهم عجزوا عن صرف هذه الضفادع ومعالجة الأمر.
هي ضربة البعوض أو القمل، وكان المصريون يعملون للقمل ألف حساب، فكان كهنتهم يحلقون شعور رؤوسهم حتى لا يسكنها الهوام، وكان يحرصون على الاغتسال مرات عديدة في اليوم، ويحرصون على نظافة أجسادهم، لهذا تأذوا جدًا من انتشار هذا الوباء وتأثيره على الإنسان والحيوان وقد وُجهت هذه الضربة ضد أجساد المصريين المترفهة.
وقد وُجهت هذه الضربة للجُعل المصري المقدَّس الذي له شكل الذبابة ذات الرأس الكبير، كما عبد المصريون بعض الآلهة التي اعتقدوا أنها تملك القدرة على طرد الذبان، مثلما كان بعلزبوب إله عقرون (2 مل 1: 2) إله الذبان، فأهانت هذه الضربة آلهة المصريين، ويقول أحد الآباء الرهبان بدير القديس أنبا مقار " ولم تكن الضربة مجرد ذباب، بل أن الكلمة العبرية التي تُرجمت بالذباب تدل على أنه كان أسرابًا ضخمة من حشرات متنوعة، يقال عنها ذباب الكلب، وهو نوع خطير من الذباب ومؤلم للغاية، لأنه يسارع في مهاجمة الأجزاء العارية من الجسم وخاصة الجفون وأركان العيون وفتحة الأنف وتسبب لدغاتها التهابًا وتقيحًا... فقد أُلهبت أجسادهم كما لو كانت تأكل لحمهم، ولعلها تشير إلى عذاب الأشرار في الجحيم حيث النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت"(3) وقد ميز الله في هذه الضربة بين أرض جاسان وبقية أرض مصر.
وقد وُجهت هذه الضربة ضد عبادة الحيوانات عامة، فقد عبد المصريون العجل "أبيس" معتقدين أن روح إلههم " أوسيرس " تسكن هذا العجل المقدَّس، كما عبدوا البقرة المقدَّسة " حتحور" ، وعبدوا "أنوبيس" في هيئة الكلب ، و" جوبيتر هامرن " في هيئة الكبش، ولذلك جاء موت المواشي ضربة ضد هذه الآلهة مجتمعة التي عجزت عن حماية نفسها.
ويقول ف. ب. ماير " حلَّت ضربة المواشي... المواشي التي كانت ترعى في مراعي النيل الخضراء، خيول الأثرياء التي اشتهرت بها مصر، حمير الفقراء، الجمال التي كانت تحمل بضائع مصر إلى مسافات بعيدة بالمبادلة بالكثيراء والبلسان واللاذن (تك 37: 25) الثيران التي تحرث الأرض، الغنم التي تعتبر جزءًا من ثروتهم. بهذه كلها حلَّت الضربة، امتلأت الأرض بالموت. أفتقر جدًا أصحاب الأراضي، واشتدت فاقة الفقراء، وأصبح ألوف الرعاة عاطلين، وتوقفت حركة مواصلات الأعمال التجارية، وهكذا ظهرت خطورة هذه الضربة. وفي نفس الوقت سيج الله بعنايته حول شعبه في أرض جاسان"(4).
وقد وُجهت هذه الضربة ضد آلهة الطب والشفاء المصرية التي عبدها المصريون، وقدموا لها الذبائح، وكانوا يذرون رمادها في الهواء لكي تحمل لهم هذه الذرات البركات، فنبعت هذه الضربة من رماد أتون ذبائحهم.
قال الله لموسى وهرون " خذا ملء أيديكما من رماد الآتون وليذره موسى نحو السماء أمام عيني فرعون. فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل" (خر 9: 8، 9) وانتهز موس فرصة وجود فرعون وحاشيته في الهواء الطلق، وأخذ حفنة رماد وذراها لأعلى، فانتشرت الدمامل بين الناس والبهائم، وجاءت هذه الضربة ضد السحرة والعرافين أيضًا.
وقد وُجهت هذه الضربة ضد الإله "رشبو" إله العواصف والرياح، ويقول ف. ب. ماير " وهكذا هبت العاصفة، فإنه حالما رفع موسى عصاه صعدت من البحر سحب كثيرة جدًا، وكثيفة جدًا، محملة بالرعد، وغطت الأرض، وصبت محتوياتها في رعد وبرد ونار العواصف -في أي نوع من أنواعها- نادرة جدًا في مصر، أما البَرَد والنار المتواصلة هذه فكانت {شيئًا عظيمًا جدًا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة}.. نحن نستطيع أن نستمع إلى قصف الرعد، ونتبيَّن الخراب الذي أحدثه البَرَد في المزامير. وفي فترات قصف الرعد، التي فيها أعطى القدير صوته، نستطيع أن نستمع إلى أصوات نزول البَرَد وانفجار جمر النار (مز 18: 12، 13) لقد هلكت الكروم بالبَرَد، والجميز بالصقيع، وتحطمت أشجار الغابات، والكتان والشعير ضُربا وتلفا بالكلية، أما المواشي والرعاة الذين بقوا في الحقل في العراء، تحديا للإنذار الذي أُعطي، فقد قتلتهم حجارة البَرَد التي من السماء ثقيلة كالمطر... أما أرض جاسان فقد نجت من هذه كلها"(5).
وقد وُجهت هذه الضربة ضد الإلهة " ست " المسئولة عن خصوبة الأرض ووفرة المحاصيل، ويكثر الجراد في أفريقيا، حتى أنه يمكن أن يغطي مساحة مائة ميل، وفي ليلة واحدة يقضى على كل ما هو أخضر فيها، وبين مساء وصباح عم الجراد أرض مصر فلم يترك الأرض الخضراء إلاَّ جرداء، وهنا قدم فرعون اعتذاره قائلًا "أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما" (خر 10: 16).
وقد وُجهت هذه الضربة للإله " نوت " إله السماء الذي رتب الكواكب في أبراجها، وضد " رع " إله الشمس والذي منه أُشتق اسم ملك مصر "فرعون" وأيضًا ضد الآلهة "آمون" و"توم" و"حورس" والإلهة "سخمت" إلهة النار والضوء المقدَّس. وقال الشاعر اليوناني "أورفيوس" يصف هذه الضربة في إحدى قصائده " أرتل للليل أبي الآلهة والناس، الذي هو أصل كل الأشياء، فغشيتهم حينئذ ظلمة كئيبة تُكاد تُلمس، ولم تقدر آلهتهم على كشفها. وفضلًا عن ذلك كانوا يتعذبون بالجسد حين رأوا النور في جميع منازل الإسرائيليين"(6).
ويقول ف. ب. ماير " شُلَّت كل حركة في الأرض، وارتعبت أقسى القلوب، وبدأ كأن إلههم الأعظم قد هجرهم فجأة ونبذ قضيتهم، ولعلهم اعتقدوا بأنهم سوف لا يرون النور مرة أخرى. لقد كان اختبارًا أليمًا في تلك الأرض التي تشرق فيها الشمس ساطعة بصفة مستمرة. التحفت بالظلام الهياكل نفسها، حتى عجز الكهنة عن رؤية البهائم المقدَّسة، بل عجزوا عن إتمام واجباتهم الدينية العادية. ولأول مرة منذ أجيال عدة لم يُحيي تمثال آمون أشعة شمس الصباح بالموسيقى"(7) وبينما عم أرض مصر الظلام الدامس كانت أرض جاسان تنعم بالنور، وكانت هذه بمثابة فرصة لبني إسرائيل لإعداد العدة للخروج، وغضب فرعون وهدَّد موسى قائلًا " أذهب عني. أحترز. لا ترَ وجهي أيضًا. إنك يوم ترى وجهي تموت" (خر 10: 28) وجاوبه موسى النبي حسب جهله قائلًا " نعمًّا قلت أنا لا أعود أرى وجهك أيضًا" (خر 10: 29).
وفيها تحقق قول الله لفرعون " هكذا يقول الرب. إسرائيل ابني البكر. فقلت لك أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه. ها أنا أقتل ابنك البكر" (خر 4: 22، 23).
_____
(1) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 1 ص 331.
(2) تعريف القمص مرقس داود - حياة موسى ص 63.
(3) شرح سفر الخروج ص 198، 199.
(4) تعريف القمص مرقس داود - حياة موسى ص 66.
(5) تعريف القمص مرقس داود - حياة موسى ص 68، 69.
(6) مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدَّس الثمين ص 75.
(7) تعريف القمص مرقس داود - حياة موسى ص 71.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/604.html
تقصير الرابط:
tak.la/3r7y56y