ج: 1- لقد رسم الله بسابق علمه البركة ليعقوب، قبل ولادته، وقال لأمه وهي حبلى بابنيها " في بطنك أمَّتان ومن أحشائك يفترق شعبان. شعب يقوى على شعب وكبير يُستعبد لصغير" (تك 25: 23) ولا بُد أن رفقة قد أخبرت زوجها إسحق بهذه الحقيقة، ولكن إذ أراد إسحق أن يسلك المسلك الطبيعي، بالإضافة إلى ميله لعيسو رجل الصيد أراد أن يمنح له البركة، وحدث ما حدث، وعندما عاد عيسو صرخ صرخته المرة، أدرك إسحق إنه قد تمَّم قول الله وإرادته، ولذلك لم يجرؤ أن يتراجع، بل ثبت هذه البركة مرتين.
2- يرى القديس أغسطينوس لو أن الأمور كانت تسير وفقًا للمنطق البشري كان لا بُد أن يلعن إسحق يعقوب، ولكن حدث العكس فيقول " عندما أدرك أنه بارك واحدًا عوضًا عن الآخر: فمن يكون هذا؟ إلاَّ أنه لم يشتكِ من كونه قد خُدع، بل حينما استعلن له السر تحاشى الغضب في أعماق قلبه وأكد البركة... فمن ذا الذي لا يتوقع اللعنة هنا من رجل غاضب إذا كانت هذه الأمور قد جرت مجرى الأحداث الأرضية وليس بإلهام من فوق؟! فيا لها من أمور قد عُملت، ولكنها عُملت بالنبوَّة على الأرض ولكنها سماوية، بواسطة البشر ولكنها إلهية"(1).
3- يقول قداسة البابا شنودة الثالث " إن عيسو لم يكن أمينًا لنفسه. ولا لأخيه، ولا لله:
لم يكن أمينًا لنفسه، لأنه باع بكوريته... وباعها بثمن رخيص، بأكلة عدس (تك 25: 32) وهكذا باع الروحيات، وأخذ بدلًا منها الماديات " وأحتقر البكورية "!
وعندما باع البكورية لم يكن أمينًا لله. ذلك لأن البكورية وقتذاك كانت تحمل في بركاتها الكهنوت... بل كانت تحمل شيئًا أهم، وهو أنه من نسل هذا البكر سيأتي المسيح...
ولم يكن عيسو أمينًا لأخيه أيضًا... إذ كيف ينقض اتفاقه معه. كيف بعد أن باع البكورية، يأتي إلى أبيه ويقول له " أنا بكرك عيسو" (تك 27: 32)؟! ويطالب ببركة هذه البكورية! أما كان الأجدر أن يقول لأبيه: لست أستحق هذه البكورية، لأني بعتها.
وهو لم يبع البكورية فقط، وإنما حلف لأخيه على ذلك (تك 25: 33) أي أشهد على ذلك. لذلك فهو يطالب بحق ليس له"(2).
4- يقول الخوري بولس الفغالي " أما دور إسحق في كل هذا الفصل فهو دور الذي يوجه الله يده فيبارك من يريد الله أن يباركه، والذي يتلفظ فمه بالكلمات التي يوحي بها الله إليه دون أن يستطيع الرجوع عنها... ومع أنه عرف أنه أخطأ الشخص الذي نوى أن يباركه إلاَّ أنه ما قدر أن يرجع عن كلامه"(3).
5- يوضح جوش مكدويل أن العرف حينذاك جرى على أن الذي يعطي وعدًا لا يرجع فيه، فيقول " ويسجل لنا أحد ألواح نوزي قصة لقضية امرأة كانت ستتزوج من أحد الأشخاص، ولكن الغيرة دفعت أخوته إلى مقاومة الأمر، إلاَّ أن الرجل ربح القضية لأن أباه كان قد قدم وعدًا شفهيًا له بأن يزوجه هذه المرأة. كانت التصريحات الشفهية آنذاك تحمل أهمية خاصة وليس كما هو الحال اليوم. لقد أتت نصوص " نوزي " من ثقافة مماثلة لتلك المذكورة في سفر التكوين"(4).
كما يقول جوش مكدويل " يصف " ج. أرشتارايت " هذا الأمر قائلًا: كانت تصريحات البركة الشفهية أو وصايا ما قبل الموت معروفة ومقبولة في نوزي وفي مجتمع الآباء الأولين. وكانت هذه التصريحات ذات أهمية كبيرة حتى أنه لا يمكن الرجعة فيها. ونحن نذكر كيف أن إسحق قد صدَّق على كلمته حتى بعد أن أغتصب يعقوب هذه البركة بأساليب الخداع {فارتعد إسحق ارتعادًا عظيمًا جدًا. وقال فمن هذا الذي اصطاد صيدًا وأتى به إليَّ فأكلت... نعم ويكون مباركًا} (تك 27: 33)"(5).
6- يقول أبونا أغسطينوس الأنبا بولا " لقد ارتعد إسحق ارتعادًا عظيمًا (تك 27: 33) ليس بسبب الخداع فقط، ولكن لأنه كان يحب عيسو ويعرف أنه باع البكورية، وكان يريد أن يعطيه البركة على الرغم من أنه كان يعرف ما سيحدث لأن الله قال قبل أن يولد " كبير يُستعبد لصغير" (تك 25: 23) فعلى الرغم من رغبة إسحق في أن يبارك عيسو، فقد تحقق كلام الرب وها هو قد بارك يعقوب، فكان يرى ما يتم في حينه. فهل في موقف كهذا ينشغل بالتأنيب والتأديب؟!"(6).
7- يقول أحد الآباء الرهبان بدير مار مينا العامر " كان إسحق يعلم بأن عيسو تنازل عن البكورية ليعقوب، وأيضًا يعلم ما قاله الرب بأن الكبير يُستعبد للصغير أي عيسو ليعقوب، وعندما أخذ يعقوب البركة من أبيه بمكر كان هذا بسماح من الرب ولذلك ارتعد إسحاق لأنه علم أن نيته في إعطاء البركة لعيسو مخالفة لإرادة الرب وأن ما حدث كان بسماح من الرب، لذلك لم يلم رفقة ولا يعقوب، بل قال: نعم ويكون مباركًا، أي نعم هذه إرادة الرب.
وقبل أن يموت إسحق كان يقوم بإجراء طقس يُسمى "البركة" حيث يسلم رسميًا البكورية للوارث الحقيقي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ومع أن الابن البكر كان له حق البكورية بحكم مولده، إلاَّ أنه لم يكن يملك هذا الحق إلاَّ بعد أن ينطق أبوه بالبركة، فقبل إعطاء البركة يستطيع الأب أن يأخذ حق البكورية من الابن الأكبر ويعطيه لمن هو أكثر استحقاقًا، ولكن بعد منح البركة لم يكن ممكنًا سحب هذا الحق، ولهذا كان الآباء ينتظرون إلى وقت متأخر في الحياة لإعطاء هذه البركة التي لا يمكن أن تتغير بعد ذلك، ومع أن يعقوب كان قد أخذ حق البكورية من أخيه الأكبر منذ سنوات عديدة إلاَّ أنه كان يحتاج إلى بركة أبيه ليجعل هذا الحق ثابتًا له "(7).
8- يقول الدكتور ملاك شوقي إسكاروس " لقد شرع إسحق في إعطاء البركة لعيسو بطريقة تحقق غرضه:
أولًا: استدعى عيسو إلى الاحتفال، وتعمد أن لا يدعو يعقوب.
ثانيًا: حاول أن يضفي السرية على أمر كان يجب توافر الشهود لكي يصبح معروفًا.
ثالثًا: تجاهل النبوءة التي قيلت لرفقة بأن كبير يُستعبد لصغير.
غير أن إسحق لم ينجح في إبقاء الأمر سرًا، لأن رفقة كانت تدرك تمامًا تحيز زوجها لعيسو، فدبرت خطة مضادة لخطة زوجها، وأشركت ابنها يعقوب في خداع زوجها، وتم تنفيذ الخطة، وخدع يعقوب أباه وتلقى البركة التي تتضمن صلاة قوية لازدهار الزراعة، والسيادة في العائلة، وفي الشئون الدولية، وكانت للبركة آثارها العديدة، حتى أنها لم تترك شيئًا يذكر للأخ الآخر، وهذا هو السبب في أن عودة عيسو كانت مثيرة لمشاعر إسحق جدًا، وكانت البركة تُعطى مرة واحدة، ولا تعاد لأنها مؤيدة من الرب، فبالرغم من أنها من إنسان (إسحق) لإنسان (يعقوب) ولو بخدعة فإنها أخذت مفهومًا نبويًا، وكأن الله هو الناطق على فم إسحق، فلم يستطع إسحق التراجع عن موقفه بل أكد على هذه البركة التي نالها يعقوب مرتين "(8).
_____
(1) تفسير سفر التكوين - دير القديس أنبا مقار ص 337.
(2) تأملات في حياة يعقوب ويوسف ص 23.
(3) المجموعة الكتابية - سفر التكوين ص 315، 316.
(4) برهان يتطلب قرارًا ص 140.
(5) المرجع السابق ص 140.
(6) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
(7) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
(8) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/502.html
تقصير الرابط:
tak.la/8aqn3hv