س 1699: هل كان داود يؤمن بخلود الحيوان مثله مثل الإنسان، حتى أنه قال: "النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يا رب" (مز 36: 6)..؟ أليس قول داود هذا يؤكد عقيدة حشر الناس والبهائم؟ وهل للكبرياء رِجْل: "لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ" (مز 36: 11)؟
ج: 1ـ خلق الله الحيوان ثم الإنسان في اليوم السادس، وهناك فـرق شاسع بينهما، فالحيوان خُلِق عندما " قَالَ اللهُ لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا. وَكَانَ كَذلِكَ" (تك 1: 24) فالحيوان خُلِق بكلمة كن فكان، من تراب الأرض، ولم يحمل نفخة إلهيَّة، فهو ليس له روح خالدة، وحياته قاصرة على هذه الأرض، أما الإنسان فخُلق بطريقة مختلفة عن جميع المخلوقات المادية، إذ جبله الله على صورته ومثاله في الخلود والتفكير والابتكار: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً" (تك 2: 7)، فواضح أن الإنسان تمتع بنفخة إلهيَّة لم يحصل عليها الحيوان، وقد خُلق الحيوان من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الحيوان، ومع هذا فإن الله اهتم بخلق الحيوانات بأنواعها، وحفظها من الفناء بالطوفان إذ أوصى نوح أن يحتفظ بأنواعها في الفُلك، وبعد الطوفان حلَّل الله أكل لحوم الحيوانات: "كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَامًا. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ" (تك 9: 3)، لكنه حرم أكل لحم الحيوان بدمه " غَيْرَ أَنَّ لَحْمًا بِحَيَاتِهِ دَمِهِ لاَ تَأْكُلُوهُ" (تك 9: 4).. " وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ الْغُرَبَاءِ النَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَمًا أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ النَّفْسِ الآكِلَةِ الدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا. لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ" (لا 17: 10، 11).
وقال داود النبي: "عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ اللهِ وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ" (مز 36: 6).
وفي "الترجمة القبطي: "عدلك مثل جبال الله. أحكامك مثل العمقَ العظيم. الناس والبهائم تُخلّصهم يا رب".
وفي "ترجمة كتاب الحياة": "عدلك ثابت مثل الجبال الشامخة. وأحكامك كالعمق السحيق. وأنت يا رب تحفظ الناس والبهائم جميعًا".
فقد أراد داود أن يعبر عن مدى عناية ورعاية الله التي تشمل جميع مخلوقاته، لذلك قال " النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ" أو " الناس والبهائم تُخلّصهم يا رب" أو " أنت يا رب تحفظ الناس والبهائم جميعًا".. أي ينجو الناس وتنجو البهائم من الأخطار، قال الرب لأيوب: "مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ إِذْ تَنْعَبُ فِرَاخُهُ إِلَى اللهِ وَتَتَرَدَّدُ لِعَدَمِ الْقُوتِ" (أي 38: 41) كما قال المُرنّم: "اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي. تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ. تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمْأَهَا. فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا. السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ. الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْضِ" (مز 104: 10 - 14)، وقال المُرنّم أيضًا عن الحيوانات والطيور، صغارها وكبارها: "كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ. تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْرًا" (مز 104: 27، 28)، وقال داود النبي: "الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ" (مز 145: 9)، وقال المُرنّم: "الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا، لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ" (مز 147: 9) وقال السيد المسيح له المجد: "اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ. إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ. وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا" (مت 6: 26).
واهتم الله بالحيوانات فأمر الإنسان بأن يمنحها راحة أسبوعية: "سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ. وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ" (خر 20: 9، 10)، وعاتب الله يونان قائلًا له: "أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ... وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ" (يون 4: 11)، والكنيسة تُصلِّي من أجل الدواب والحيوان، فمثلًا في أوشية المياه يقول الشماس: "أطلبوا عن صعود مياه الأنهار في هذه السنة لكي يباركها المسيح إلهنا ويصعدها كمقدارها ويُفرّح وجه الأرض، ويعولنا نحن البشر ويُعطي النجاة للبهائم ويغفر لنا خطايانا".
2- جاءت عقيدة حشر الناس والبهائم في القرآن في ثلاث سور:
- " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام 6: 38).
- " وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" (التكوير 81: 5).
- " وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ" (الشورى 42: 29).
وأيدت الأحاديث والتفاسير هذه العقيدة، فقيل أن الحيوانات تُحشر وتُعامل كما يُعامل الأطفال والمجانين وتُحاسب ثم تعود إلى ترابها، فيقول الكافـر حينئذ: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا" (النبأ 78: 40)، ومن قال أنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ، بل هو ضال وكافر.
أمَّا في كتابنا المقدَّس بعهديه فلا توجد أي إشارة لقيامة الحيوانات من بين الأموات وحشرهم ودينونتهم، فالحيوان أعجم لا يتكلم، وهو غير عاقل فلا يعقل الأمور إنما يتصرف بموجب الغريزة التي أودعها الله إياه... فكيف يُحاسَب وهو في أوقات كثيرة يكون مسلوب الإرادة، والإنسان هو الذي يتحكم فيه ويتسلط عليه؟!! ثم ما معنى محاسبته إذا كان سيعود للفناء سواء كان بريئًا أم مدانًا؟! هب أن حمارًا أسقط راكبه، أو أسدًا افترس مدربه... فكيف يُحاسَب؟! وكيف يُعاقب؟! وما هيَ عقوبته؟!!
3ــ قال داود النبي: "لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ وَيَدُ الأَشْــرَارِ لاَ تُزَحْزِحْنِي" (مز 36:11).
وفي "الترجمة القبطي": "لا تجعل رِجْلُ الكبرياءِ تأتيني. لا تدع يد الخطاة تزحزحني".
وفي "الترجمة اليسوعية": "لا تَصِلْ إليَّ قَدَمُ المُتكبّر. ولا تِطرُدني يَدُ الأشرار".
وفي "ترجمة كتاب الحياة": "لا تدّعْ قَدَمُ المُتكبّر تَبْلُعُني. ويد الأشرارِ تُزحزحُني".
وفي "الترجمة العربية المشتركة": "لا قارَبَتْني قَدَمُ المُتكبّر. ولا باعَدَتني عنَكَ يدُ الشرّيرِ".
ورِجْلُ الكبرياء كناية عن خطيَّة الكبرياء التي إذا دخلت إلى قلب إنسان أهلكته، وكما أن رِجْلُ الإنسان تحمله وتقوده إلى حيثما يشأ، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فإن خطية الكبرياء تحمل الإنسان وتقوده إلى طريق الهلاك بعيدًا عن الله، ويقول "القمص بيشوي كامل": "فإن كان كبرياء آدم جرحنا، فتواضع الرب شفانا، فلقد جاء الرب متواضعًا حتى يشفينا بوداعته من جُرح كبريائنا العظيم... لقد جاء الرب يسوع ليُشفي المجنون، فقال له اليهود: "بِكَ شَيْطَانٌ" (يو 8: 48). أما الرب فلم يهتم بكلامهم. فقد كان هدفه شفاء المجنون" (311).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "إذ رأى المُرَتِّل رِجْل الكبرياء ويد الأشرار تقتربان إليه، صرخ إلى الله حتى لا يسقط تحت سلطان الشر (الكبرياء) والأشرار، لئلا يتزعزع، فيهيم في هذه الحياة بلا هدف.
عندما تتجدد قوى إنسان ما فيصير مثمرًا جدًا بإرتشافه من هذا الينبوع، يلزمه أن يحذر لئلا يتكبر، فإن آدم الأول لم يتحصن من هذا الخطر، وإنما على النقيض جاءته رِجْل الكبرياء ويد الأشرار، أي يد الشيطان المتكبرة قد زحزحته... بالكبرياء سقطنا فبلغنا إلى حالة الهلاك المميتة، وحيث جُرحنا من الكبرياء، فالاتضاع هو الذي يشفينا. جاء الله في اتضاع، ليُشفي الإنسان من جراحات الكبرياء الدامية.
ويقول " القديس أُغسطينوس ": {خشى المُرَتِّل من جذر الخطية ورأسها معًا، عندما صلَّى قائلًا: لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ}" (312).
ويقول "د. مراد أمين موسى": "في عدد (11) نجد تعبيرًا مميزًا لكتابات داود. كل مزمور يتكلم عن خطر الأعداء يشير فيه إلى كبريائهم كالمصدر لكل شر. وهذا حق، لقد تعلم داود وكل أبطال الإيمان كيف يكون لهم القلب المتواضع، وعرفوا أنهم بمقدار اتضاعهم هكذا يكون مقدار خلو حياتهم من الشر. ليتنا نسمع دائمًا لصوت سيدنا: "تَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (مت 11: 29).
وَيَدُ الأَشْرَارِ لاَ تُزَحْزِحْنِي: لقد اجتاز داود في ذلك الاختبار المُر، إذ اضطر في أيام ثورة أبشالوم أن يترك أورشليم وكرسيه ويذهب باكيًا إلى جبل الزيتون (2صم 15: 13 - 20)" (313).
_____
(311) تفسير المزامير (31 - 40) ص 70.
(312) تفسير المزامير جـ 4 ص 608.
(313) شرح سفر المزامير ص 301.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1699.html
تقصير الرابط:
tak.la/95dwc5r