س 1694: كيف كتب داود مزموره الرائع (مز 34) وهو يهرب من جت وهو بين الحياة والموت؟! وهل غيَّر داود عقله أمام "أبيمالك" أم أمام "أخيش"؟ وهل قول داود عن الرجل الصديق أن الرب: "يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ" (مز 34: 20) يعني أن الشهداء الذين طُحنت عظامهم بأنياب الوحوش ليسوا من الصديقين؟
قال "س. ر. درايفر" في كتابة "مقدمة في آداب العهد القديم" أنه يُعتقد أن (مز 34) غير مناسب لوقت هروب داود من ملك جت (راجع ديريك كيدنر - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس جـ 1 ص 53، 54).
ويقول "د. حسن الباش" عن عنوان المزمور (34): "فتقول مقدمته أن داود قاله عندما تظاهر بالجنون أمام أبيمالك فطرده وانصرف. فالتظاهر بالجنون لا يليق بمقام النبوة وهذه إحدى التلفيقات التوراتية" (278).
ويقول "علاء أبو بكر": "أيدعي نبي الله الجنون؟ ما هذه المسرحية الرخيصة؟ وأين تبقى عصمة الأنبياء؟ وكيف سيصدقه أتباعه طالما ثبت عليه الكذب والجنون" (279).
ج: 1- جاء في عنوان المزمور (34): "لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَانْطَلَقَ"، فعندما شدَّد شاول الخناق على داود هرب إلى مدينة جت بأرض فلسطين، ففوجئ بأن أهلها مازالوا يذكرونه وقالوا أليس هذا داود ملك الأرض، وأخذوه إلى ملكهم أخيش: "فَوَضَعَ دَاوُدُ هذَا الْكَلاَمَ فِي قَلْبِهِ وَخَافَ جِدًّا مِنْ أَخِيشَ مَلِكِ جَتَّ. فَغَيَّرَ عَقْلَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ وَتَظَاهَرَ بِالْجُنُونِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَخَذَ يُخَرْبِشُ عَلَى مَصَارِيعِ الْبَابِ وَيُسِيلُ رِيقَهُ عَلَــى لِحْيَتِهِ" (1صم 21: 12، 13)، فقال أخيش: "أَلَعَلِّي مُحْتَاجٌ إِلَى مَجَانِينَ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِهذَا لِيَتَجَنَّنَ عَلَيَّ أَهذَا يَدْخُلُ بَيْتِي" (1صم 21: 15) ونجا داود من مـوت محقَّق، فأنشد مزموره هذا، سواء عقب نجاته مباشرة، أو بعد نجاته بفترة أعاد فيها توازنــه، فقال: "أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ... 4طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ فَاسْتَجَابَ لِي وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي" (مز 34: 1، 4)، وواضح أن مخاوف داود هيَ التي انتابته عندما وقف أمام أخيش، وكانت حياته في خطر شديد، ولكن الرب أنقذه، ولا نستعجب من روعة أسلوب داود بالرغم من الظروف المأسوية التي مرَّ بها، وهذا يرجع إلى أن داود كان يُمثّل موهبة شعرية فذة، وكتب ما كتب بوحي من الروح القدس، فاستطاع أن يترجم مشاعره إلى كلمات بليغة توضح مدى عناية الله بخائفيه، فهو الذي يفديهم من المخاطر... لقد ولدت كلمات المزمور من ذهن مستقر هادئ يتغنى بأعمال الله العجيبة مع الإنسان، حتى لو أخطأ هذا الإنسان التصرف كما حدث معه.
2ــ جاء في مقدمة المزمور اسم " أَبِيمَالِكَ" مـع أن داود غيَّر عقلــه أمام " أخيش" ملك جت، واسم " أَبِيمَالِكَ" هو الاسم العام الذي يُطلق على ملوك الفلسطينيين، مثل فرعون ملك مصر، واسم " أخيش" هو اسمه الشخصي، ولا ننسى أنه في أيام إبراهيم أب الآباء كان ملك جرار يُدعى " أَبِيمَالِكَ" (تك 20: 2)، وبعد مرور سنوات طويلة كان ملك جرار يُدعى أيضًا " أَبِيمَالِكَ" مع تغيَّر الأشخاص: "فَذَهَبَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِيمَالِكَ مَلِكِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ إِلَى جَرَارَ" (تك 26: 1). (راجع القس وليم مارش - السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 87، والكتاب المقدَّس الدراسي ص 1315).
3ـ تعرَّض داود لهجوم شديد لأنه هرب إلى أرض الأعداء ليختفي من أمام أعين شاول، وإذ به يُوقِع نفسه في فخ، حتى اضطر أن يغيّر عقله ويتظاهر بالجنون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقال النُقَّاد أن هذا لا يليق بمقام النبوة، ومرجع هذا النقد أن هؤلاء النُقَّاد يعتقدون بالعصمة الكاملة الشاملة للأنبياء، بينما الحقيقة أن العصمة الكاملة لله وحده الكامل، ولو كان الإنسان معصومًا فهو لا يستطيع أن يخطئ، فعلام يكافئ..؟ يكافئ من يكون أمامه اختيارين الخير أو الشر، وبموجب حرية إرادته يستطيع أن يختار هذا أو ذاك، فإذا اختار طريق الخير يحيا، وإذا اختار طريق الشر فأنه يهلك إلى الأبد... لقد كان هؤلاء الأنبياء من نفس عجينة البشرية يعيشون على ذات الكوكب الذي نعيش عليه، وجميعهم تحت الآلام مثلنا " كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا" (يع 5: 17)، فالأنبياء كانت لهم ضعفاتهم وسهواتهم وأخطاءهم وخطاياهم، ولا عصمة لنبي أو رسول إلاَّ في حالة واحدة، وهيَ حالة تسجيله للأسفار المقدَّسة، ولذلك لا عجب إذ رأينا داود الذي واجه الأسد والدُب وجليات الجبار عندما كان متمسكًا بإيمانه القوي بإلهه، ولكن عندما يضعف إيمانه يهرب إلى أرض الأعداء، وهناك يخاف ويتظاهر بالجنون أمام أخيش، وما يجب أن نركز عليه هو نهاية حياة هؤلاء الأبطال: "انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" (عب 13: 7).
ويقول "القس أنطونيوس فكري": "وكان هروب داود إلى جت من أمام وجه شاول هو خطأ غير مبرَّر. خطأ إيماني، فإن كان الله يحميه في يهوذا، وقد رأى عنايته وحمايته مرارًا فلماذا الهرب، والله وعده بالمُلك. فكيف يقتله شاول قبل أن يملُك؟! وهذا أدى به إلى أن يتظاهر بالجنون، وهذا ضد الصراحة والحق، وهذا كله لا يليق برجل الله. وليس معنى أن داود أخطأ أن الله يتخلى عنه. أبدًا فالله يعرف ضعف البشر وينجيهم من المؤامرات التي تُحاق ضدهم من أشرار هذا العالم. وينجيهم أيضًا من نتائج أخطائهم الشخصية. وداود حين نجا لم ينسب نجاته لقدرته في التظاهر بالجنون أو لذكائه، إنما نسب نجاته ليد الله التي أنقذته" (من شبكة الإنترنت).
4- قال داود النبي: "كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِر" (مز 34: 19، 20)، والعظام تشير للإيمان، فحتى لو سقط الصديق فأنه سريعًا ما ينهض من سقطته: "لأَنَّ الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ" (أم 24: 16).. " لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي" (مي 7: 8)، فداود هنا يتحدث عن حفظ الله للصديق ولا يتحدث عن آلام الشهداء، وبالطبع أن هؤلاء الشهداء حتى لو طُحنت عظامهم بين أنياب الوحـوش فإن إيمانهم (عظامهم) ثابت، وقد شهدوا لله أعظم شهادة بالفم والعمل والدم.
ويقول "أنسيموس" أسقف أورشليم: "لكن إن قلت يا هذا أن كثيرين من الشهداء القديسين قد تكسَّرت عظامهم وتقطَّعت لحومهم واحترقت أجسادهم فكيف يقول النبي لا تنكسر عظامهم؟. نأتي بالجواب قائلين أن قولته ليست في عظام الجسد، فإذا تشدَّدت الأفكار فلا تهتم النفس كيف تخلص من الحزن لكنها تهتم كيف تحتمله لكي تنال الأجر من الله لأجل صبرها" (280).
ويقـول "القديس باسيليوس": "إن عظام الأبرار هيَ قوتهم وثباتهم بين الشدائد والاضطهادات لأن الله يشددهم ويثبتهم لكي لا يتزعزعوا عن ثبات عزمهم كما أن العظام الجسدية تشدَّد الأجساد، وأيضًا عظامًا تُقال عن آراء النفس بعناية الله. وحسن تدبيره بالعالم بإحكام لا تُدرك. فالذي تشدّده آراءه لا ينكسر أي لا يختل من أفكاره فلا يُشكَّك في إيمانه بالله عند أحزانه" (281).
ويقول "القديس أُغسطينوس": "لا يليق أيها الأخوة الأحباء أن نأخذ هذه الكلمات (مز 34: 20) بمعناها الحرفي، لأن عظام الصديق إنما تشير إلى أساسات إيمانه، أي الصبر واحتمال الشدائد" (282).
ويقول "القمص بيشوي كامل": "بالنسبة للمؤمنين لأنه لا يقصد المعنى المباشر، أنه لا يقصد بالعظام هذه العظام المادية وإلاَّ لحكمنا على إنسان قطع الطبيب رجله أو كُسرت في حادثة أنه شرير، كذلك الشهداء الذين عُذبوا بكسر عظامهم. أنه هنا يتكلم عن عظام أخرى، أنها أعمدة الإيمان التي تُعطي صلابة للمؤمن، هذه الأعمدة هيَ الصبر وقوة الاحتمال في جميع التجارب.
تأملوا معي اللصين اللذين صُلبا مع رب المجد، الأثنين كُسرت عظامهم، وواحد بعد ذلك حُكم عليه بالموت الأبدي، والآخر قال له الرب: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لو 23: 42). الأثنين كُسرت عظامهم، الذي ذهب للنعيم كالذي ذهب للجحيم. إن الرب حفظ إيمان اللص اليمين قويًا، أنها عظام حياته الروحية التي لم يقدروا أن يكسروها عند كسر ساقيه" (283).
5ــ هذه الآيـة: "يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِر" (مز 34: 20) حملت بُعدًا نبويًّا، إذ انطبقت على السيد المسيح وهو مُعلق على عود الصليب، ولكي لا تبقى الأجساد للسبت كسروا ساقي المصلوبين معه: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ... لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ" (يو 19: 33، 36)، ولا ننسى أنه قيل عن خروف الفصح، وهو رمز للمسيح المصلـوب " وَعَظْمًا لاَ تَكْسِرُوا مِنْهُ" (خر 12: 46).
_____
(278) الكتاب والتوراة - عندما باع الحاخامات موسى عليه السلام ص 102.
(281) إعداد راهب من دير المحرق - تفسير سفر المزامير جـ 1 ص 487، 488.
(282) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير المزامير جـ 4 ص 576.
(283) تأملات في المزامير لأباء الكنيسة (مز 1 - 53) ص 40، 41.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1694.html
تقصير الرابط:
tak.la/ahqzm9t