يقول " إبراهيم ناصر": "وإلى الآن هو متمسك بكماله. قد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب؟ وهذه شطحة أخرى من شطحات الكاتب. فالله يهتاج كما يهتاج البشر، وهي صفة بشريَّة مكروهة. من شدة هيجانه يكاد أن يبتلع الذي أهاجه، اصطلاح قلما يستعمله حتى البشر لبشاعته"(1).
ويقول " د. محمد علي البَار": "وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب. أعوذ بالله كيف يمكن أن يتصوَّر إنسان له ذرة من إيمان أن يقول الرب مثل هذا الكلام؟! كيف يستطيع الشيطان أن يهيّج الرب على أتقى عبد من عباده في ذلك الزمان؟!! ولماذا هذا الرب يلعب به الشيطان ويوجهه حيثما أراد؟! إنها صورة فظيعة حقيرة قميئة للرب -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وبينما الرب ندمان على ما فعل بأيوب، يهيّجه الشيطان مرّة أخرى على أيوب، فيسمح له الرب بأن يبسط يده عليه ويمس عظمه ولحمه، فخرج الشيطان مبتهجًا وضرب أيوب بقرحٍ رديء من باطن قدمه إلى هامته"(2).
وتطاول بعض النُقَّاد على الله تبارك اسمه، حتى أنهم قالوا:
* " إن الإله، بوصفه الله أو الرب، يحمل في داخله شيطانًا خفيًا، حية، وحسن عماء، آلهة دمار تنينية. وكاتب سفر أيوب يُجسِّد ذلك الصراع الداخلي بتقديمه الله كضحية إغواء من قِبل شيطان فعلي منفصل عن الله"(3).
* " {كما الذباب لدى الصبية العابثين، كذلك نحن لدى الآلهة، تقتلنا لكي تتسلى} هذا ما قاله الملك الوثني " لير " في مسرحية شكسبير. والمقامرة نوع من اللهو والتسلية، والرب أغواه الرهان مع عدو الإنسان... وتتيح اللعبة للشيطان أن يقتل كل أبناء أيوب، وبناته، وعبيده. غير أن أيوب لا يجدف على الله، ويحسب الله أنه قد كسب الرهان. لكن لا، فالشيطان يواصل العبث معه... فالعالم الذي يتصوَّر فيه آلام أيوب هو عالم يحكمه إله يلهو ويعبث مع شيطان يتلاعب به ويسيطر عليه... أم أن قتل الله العابث كل عائلة أيوب مجرد مثال معزول لهذا السلوك لديه؟ ما الذي يمنع هذا السلوك من أن يكون نمطيًا؟ كيف يمكن لنا أن نعرف؟"(4).
* " فقد عرَّض (الله) رَجُلًا مستقيمًا (أيوب) للعذاب نزوة... فهو ينزل إلى مستوى التعذيب الوحشي للأشخاص، الأمر الذي لم يفعله حين دمَّر العالم (بالطوفان)"(5).
* " ففي موافقته على رهان وحشي وهمجي مع الشيطان يرسم الرب شخصيته بفعله هو... فأيوب سوف تكون له عائلة جديدة، لكن العائلة التي فقدها في رهان الله والشيطان لن تعود ثانية من بين الأموات، ولن يعود أيضًا عبيده الذي أبادهم الشيطان. وكذا براءة الله التي لن تعود أيضًا"(6).
ج: 1- عاد الشيطان يتراءى أمام الله وهو يجر أذيال الخيبة والعار، ولكنه لن يكف عن محاولاته السمجة لاصطياد النفوس الأمينة السائرة في درب الملكوت " فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ" (أي 2: 3).
وفي " الطبعة اليسوعية": "فقال الرب للشيطان: "أمِلتَ بالكَ إلى عبدي أيوب؟ فأنه ليس له مثيل في الأرض. أنه رجل كامل مستقيم يتَّقي الله ويُجانب الشَّرّ، وإلى الآن مُتمسّك بكماله، وقد حرضتني على ابتلاعه بدون سبب" (أي 2: 3).
وفي " طبعة كتاب الحياة": "فقال الرب للشيطان: هل راقبت عبدي أيوب؟ فأنه لا نظير له في الأرض، فهو رجل كامل صالح، يتَّقي الله ويحيد عن الشر، وحتى مع أنك أثرتني عليه لأهلكه من غير داعٍ" (أي 2: 3).
وفي " الترجمة العربية
المشتركة: "فقال له الربُّ: هل استرعى انتباهك
عبدي أيوب؟ فهو لا
مثيل له في الأرض لأنه رجل نزيه مستقيم يخاف الله ويحيد عن الشَّرّ، وإلى الآن
هو مُتمسّك بنزاهته. مع أنك حرضتني عليه من دون سبب "
(أي 2: 3).
وكلمة " هَيَّجْتَنِي " في الأصل العبري طبقًا لقاموس برون تعني: تحريض على، تحريض على ارتكاب، إغراء تحريض... كما تُستخدم أيضًا بمعنى حصول شخص على تنازل أو موافقة على شيء من ناحية إيجابية أو محايدة، فالمعنى الدقيق لكلمة "هيجتني" المستخدمة هنا تعني: "طلبت أن تحصل مني على موافقة ضده"، فالكلمة لا تحمل أي إساءة للذات الإلهيَّة، بل أنها تُستخدم بمعنى مجازي وتؤكد أن الشيطان طلب موافقة من الله لكي يجرب أيوب(8).
2- قول الله للشيطان " وقد هيجتني عليه " أو قد حرضتني " أو " إنك أثرتني عليه " يشبه قول الله في نهاية السفر لأليفاز التيماني: "قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ" (أي 42: 7) وهذه تعبيرات اعتدنا عليها كثيرًا في الكتاب المُقدَّس، فعندما عَبَدَ بنو إسرائيل العجل الذهبي، قال الله لموسى: "فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ" (خر 32: 10) وعندما تذمر الشعب: "وَكَانَ الشَّعْبُ كَأَنَّهُمْ يَشْتَكُونَ شَرًّا فِي أُذُنَيِ الرَّبِّ. وَسَمِعَ الرَّبُّ فَحَمِيَ غَضَبُهُ، فَاشْتَعَلَتْ فِيهِمْ نَارُ الرَّبِّ وَأَحْرَقَتْ فِي طَرَفِ الْمَحَلَّةِ" (عد 11: 1) وقال المُرنِّم: "وَدَفَعَ إِلَى السَّيْفِ شَعْبَهُ، وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ" (مز 78: 62)، كما يقول المُرنِّم أيضًا: "إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَغْضَبُ كُلَّ الْغَضَبِ، وَتَتَّقِدُ كَالنَّارِ غَيْرَتُكَ؟" (مز 79: 5)، وقال الله في سفر ميخا النبي: "وَبِغَضَبٍ وَغَيْظٍ أَنْتَقِمُ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا" (مي 5: 15).
فالكتاب المقدَّس هو رسالة الله للبشرية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولذلك فأنه يستخدم التعبيرات البشرية التي يدركها البشر للتعبير عن أحداث إلهيَّة، واستخدام الصفات البشرية في وصف الله منهج يُدعى بمنهج " أنثروبومورفيزم " Anthropmorphism أي تشبيه الله بالإنسان بهدف الوصول للمعاني الإلهيَّة، وعلى ذات الدّرب سار القرآن فنسب لله الأعضاء البشرية مثل العين واليد والجنب... إلخ.، كما نسب له الصفات البشرية مثل الغضب والرضى، ودعى الله بالمؤمن والضار والماكر... إلخ. (وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ5 س411).
إذًا هنا يستخدم الوحي الإلهي اللغة البشرية وهو يقصد فضح نية الشيطان في محاولة القضاء على أيوب الرجل الأمين، فهو يبذل كل وسيلة ويشتكي عليه أمام الله ليقضي عليه، وهو ما قصده الكتاب من قول الله: "وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ"، فأجاب الشيطان قائلًا: "جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" (أي 2: 4، 5)، ويبدو أن عبارة " جِلْدٌ بِجِلْدٍ " كانت مثلًا شائعًا، وقصد بها الشيطان أن أيوب وإن ضحى بكل شيء إلاَّ أنه لا يفرّط في جسده، فهو يفرّط في جِلْد غيره من حيوانات يمتلكها، بل حتى بأولاده ما دام جِلْده هو سليمًا، وقول الشيطان هنا: "جِلْدٌ بِجِلْدٍ وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ " قول صحيح إلى حد ما، فالكثيرون شعارهم: إن جاءك الطوفان فضع ابنك تحت قدميك، ولكن أيوب لم يكن من هذه الفئة، ولو خُيرَّ بين حياته وحياة أولاده، فبلا أدنى شك أن أيوب كان سيختار التضحية بحياته من أجل سلامة أولاده.
3- جاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "مع إنك أثرتني عليه: لا يمكن أن يستفز أحد الله ليعمل أشياء ضد إرادته، إلاَّ أن الكيفية التي يكون بها كل ما يحدث جزءًا من مقاصده الإلهيَّة لا تكون واضحة تمامًا"(7).
أمَّا الصورة السوداوية التي قدمها بعض النُقَّاد عن الله على أنه في داخله شيطان خفي... وإن الله كان ضحية إغواء الشيطان، فهذا يعكس مدى الحقد الشيطاني الذي يحاول دائمًا عن طريق أتباعه تشويه صورة الإله صانع الخيرات مُحب البشر الذي لم يدخر وسعًا في تقديم كل ما هو حسن وما هو جميل وما هو رائع للبشرية، ونظرة إلى صليب ماسياس تبطل كل هذه الشكوك الشيطانية، ولكيما نطلع على القليل من الحكمة الإلهيَّة في السماح للشيطان لتجربة أيوب يُرجى ضرورة الرجوع إلى إجابة س 1503.
_____
(1) التوراة بين الحقيقة والأسطورة والخيال ص 344.
(2) أباطيل التوراة والعهد القديم 2 - الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم ص 484، 485.
(3) جاك مايلز - ترجمة ثائر ديب - سيرة الله -1- إله التوراة بوصفه بطلًا روائيًا ص 401.
(4) المرجع السابق ص 403، 404، 406.
(5) المرجع السابق ص 412، 413.
(6) المرجع السابق ص 424، 426.
(7) الكتاب المُقدَّس الدراسي ص 1194.
(8) راجع موقع هوليبابيلوان.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1520.html
تقصير الرابط:
tak.la/2zpsxnv