يقول " علاء أبو بكر": "هل خان داود بني إسرائيل؟ أم كذب على أخيش وغدر به وحاربه بعد أن حماه وأوآه..؟ فبالإضافة إلى وصف كتاب دائرة المعارف الكتابية عمل نبي الله داود هذا بالطيش وضعف الإيمان، كما تصفه بالكذب وخداع ملك جت (أخيش) حيث أقنعه بالكذب أن الحروب التي قام بها إنما كانت لمحاربة أعداء الفلسطينيين، وتصفه أيضًا بأنه همَّ بمحاربة نبي الله شاول، ولم يعترض على ذهابه للحرب إلاَّ الفلسطينيون الذين لم يثقوا أنه سيحارب في صفوفهم. تقول دائرة المعارف الكتابية {كان لجوء داود إلى أخيش ملك جت عملًا يتصف بعدم الروية، بل نتج عنه ضعف إيمان..} وتقول أيضًا {واقتربت حياة داود في المنفى من نهايتها، إذ يبدو أنه كان قد مل الحياة طريدًا، وفي يأسه ألقى بنفسه تحت رحمة العدو التقليدي، وهو أخيش ملك جت، ولكنه في هذه المرة لم يأتِ إلى أخيش كطريد هارب بل كقائد لجماعة كبيرة مرهوبة الجانب تصحبهم زوجاتهم وأولادهم (1صم 27: 3، 4).. نجح داود في إقناع أخيش بأنه في الغزوات التي كان يقوم بها بين الحين والآخر، إنما كان يحارب أعداء الفلسطينيين، بينما كان في الواقع وبصورة أساسية يمهد الطريق لحكمه هو كملك عن طريق استئصال أعداء إسرائيل، ولعل داود - في كل هذه الأعمال - لجأ إلى أساليب المُكر والخداع (1صم 27: 8 - 12) فقد كان يحارب أعداء يهوذا طوال الوقت متظاهرًا أمام أخيش بأنه يحارب يهوذا..} فأحكم بالله عليك: هل هؤلاء أناس احترموا أنبياءهم؟ هل أحسنوا الظن بأنبيائهم؟ هل النبي الذي يقولون عنه أنه كذب وخادع ولم يكن على درجة عالية من الإيمان تجاه ربه يصلح أن يكون قدوة لهم..؟ والعجيب أنك ترى أسفارًا في كتابهم تُنسب لداود على أنها أسفارًا مقدَّسة! فكيف تقدسون كتب كذَّاب، مخادع، زاني، قاتل لجاره ولجزء من جيشه؟ أين القدوة والفضيلة التي تعلمونها أبناءكم وبناتكم من هذه الشخصيات التي يرفضها بقلبه وبعقله كل إنسان محترم منكم؟ هل تقبل رجلًا هذه صفاته لو تقدم للزواج من ابنتك أو أختك؟ هل تقبل مثل هذه الشخصية إذا أراد أن يسكن في بيتك ويكون جارًا لك؟ هل تقبل أن تصادق رجلًا بهذه الشخصية..؟"(1).
ويقول " محمد قاسم محمد": "كاتب القصة يفترض افتراضات لا أساس لها من الصحة:
- فقد أفترض أن هذه القبائل كل منها منعزل تمامًا عن الآخر.
- وأنه لن يستطيع أي فرد منها أن يهرب.
- وأن أخيش ملك ساذج أو مختل العقل بحيث يطمئن إلى رجل قتل بطلهم " جليات " وتعرَّف عليه رجاله وقالوا له: "أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلات لقد ضرب شاول ألوفه وداود ربواته " وبالتالي فلا يرسل جواسيسه للتأكد من أن داود قد ضرب إسرائيل وحلفاءها.
والأدهى من ذلك أن يُقال أن هذه كانت عادته طوال مدة إقامته في فلسطين أي سنة وأربعة شهور، وأخيش نائم على أذنه"(2).
ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "صار الشعب يتجمع حول داود... فيهم المغامرون، والهاربون، والخارجون على القانون، وفيهم الفقراء... وفيهم الشباب الحالمون بصنع مجد عسكري، فشكل داود من ذلك الخليط البشري فصيلًا عسكريًا نظاميًا قوامه ست مائة جزار ينهب ويدمر... اضطر داود إلى القيام بعمل حقير ومشين، فقد عرض خدماته على أخيش ملك مدينة جت الفلسطينية... وكانت أوامر أخيش لداود أن يهاجم هذه الأراضي الإسرائيلية وينهبها، غير أن داود... صار ينهب أراضي العماليق، أعداء الإسرائيليين التقليديين، وفي كل هجوم كان يقتل كل السكان، كي لا يُبقي شهود على عمله، ثم يعطي الغنائم لأخيش زاعمًا له أنها نُهبت من الإسرائيليين، فكان الملك الفلسطيني يصدقه ويردّد في نفسه بسعادة {قد صار مكروهًا لدى شعبه إسرائيل وسيكون لي عبدًا إلى الأبد}"(3).
ويقول " ليوتاكسل": "ما رأيكم بهذا المسيح المقدَّس، أعظم أجداد يسوع المسيح وحبيب يهوه؟ يعيد النُقَّاد إلى الأذهان، أن داود تظاهر بالجنون أمام الملك الفلسطيني... ويضيف النُقَّاد: أن الطريقة التي خدم داود بها الملك أكثر غرابة، يرغمه على الثقة بأنه ينهب اليهود، بينما هو ينهب حلفاءه ويذبحهم، أنه يبيد كل شيء، ولا يرحم حتى الأطفال خوفًا أن يعرف الملك حقيقة ما يحصل. ولكن كيف حصل ألاَّ يعرف أخيش بشيء مما وقع على امتداد ستة عشر شهرًا؟ لا ريب أنه كان في تلك الأثناء أكثر جنونًا من داود عندما جاءه في أول مرة. أما اللاهوتيون فلا يستاؤون من سلوك هذا " المسيح " ويؤكدون أنه لا خير البتة من أن يبيد داود حلفاءه ويسحقهم، لأنهم كانوا وثنيين. بل أنهم يرون في داود معبّرًا عن الغضب الإلهي، ويحلونه من آثامه ويسبّحون بقداسته"(4).
ويقول " جوناثان كيرتش": "كلنا يعرف داود كراعٍ شاب وسيم كان يعزف على القيثارة ليهدئ الملك شاول المضطرب (1صم 16: 22، 23) والولد الشجاع المحارب الذي قتل جليات بحجر واحد بالمقلاع (1صم 17: 48، 49) ولكن ليس عدد كبير منا مُطلعون على أن هجمات داود لفصل مئتي فلسطيني عن غلفاتهم كانت ثمنًا للعروس ميكال (1صم 18: 27) أو أن داود ورجاله وضعوا أنفسهم في خدمة ملك عدو كجيش قاطع طريق يسلب وينهب الريف ساعة يشاء ويقتل كل شخص يراه {لئلا يخبروا عنه} (1صم 27: 11).. ووصف داود نفسه {الرجل في العلاء، مُسبّح إله يعقوب} (2صم 23: 1) وبالرغم من الخلل في شخصه وضعفه أمام النساء، وتعطشه لسفك الدماء وسلوكه تجاه أصدقائه، فقد ظهر داود في الرواية التوراتية كحامل للنعمة الإلهيَّة، ونموذجًا للملوك فوق الأرض، والرجل الذي انحدر من صلبه المسيح"(5).
ج: يمكن تحديد نقاط الاعتراض على (1صم 27: 8 - 12) في التساؤلات الآتية:
س (2): كيف انضم داود إلى جيش أخيش وكان على وشك محاربة بني إسرائيل لولا اعتراض بعض قادة الفلسطينيين؟
س (3): كيف تُدعىَ الكتب التي كتبها داود كتب مقدَّسة؟ وكيف يتم تقديم كتب كذاب مخادع زاني قاتل لجاره؟
س (4): (أ) كيف لا توجد صلة بين القبائل التي كان يهاجمها داود وبين أخيش ملك جت؟
(ب) ألم يتمكن أي إنسان من الإفلات من مذابح داود ليخبر أخيش بما يجري؟
(ج) هل أخيش ملك ساذج مختل العقل ليطمئن لرجل قتل بطلهم " جليات " ولم يرسل جواسيس ليتأكد من صحة أقواله وأفعاله؟
س (6): كيف يكون داود الضعيف أمام النساء، المتعطش للدماء، حاملًا للنعمة الإلهيَّة وجدًا للمسيح؟
س (1): كيف خدع داود "أخيش" الذي أواه وحماه من شاول، وأقنعه بأنه يحارب بني إسرائيل، بينما كان يغزو القبائل ويقضي عليها قضاءًا مبرمًا؟
ج: قال الكتاب: "وصعد داود ورجاله وغزوا الجشوريين والجرزيين والعمالقة لأن هؤلاء من قديم سكان الأرض من عند شور إلى أرض مصر. وضرب داود الأرض ولم يستبق رجلًا ولا امرأة وأخذ غنمًا وبقرًا وحميرًا وجمالًا وثيابًا ورجع وجاء إلى أخيش. فقال أخيش إذًا لم تغزوا اليوم. فقال داود بلى على جنوبي يهوذا وجنوبي الرحميئيليين وجنوبي القينيين. فلم يستق داود رجلًا ولا امرأة حتى يأتي إلى جت إذ قال لئلا يخبروا عنا قائلين هكذا فعل داود. وهكذا عادته كل أيام إقامته في بلاد الفلسطينيين" (1صم 27: 8 - 12)، وللتعليق على هذا نقول:
أ - اضطر داود للالتجاء إلى أخيش هربًا من شاول الذي كان يبذل قصارى جهده لصيد نفس داود: "وقال داود في قلبه إني سأهلك يومًا بيد شاول فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول مني فلا يفتش عليَّ بعد... فأنجو من يده" (1صم 27: 1) فكان داود في حالة يأس شديدة، فذهب إلى بلاد الأعداء، لا ليتحالف معهم على شاول، ولا من قبيل خيانة وطنه، ولكن بهدف أن ينجو بحياته من شاول، وطلب داود من " أخيش " قرية ليسكن فيها، بهدف البُعد عن مراقبة جنود أخيش له، وأيضًا للبعد عن مدينة جت مركز العبادات الوثنية، وحتى ينأى بنفسه ورجاله عن المجاملات في الأعياد الوثنية، وبينما كان داود يتظاهر بالعمل لصالح أخيش، فإنه كان يسعى لغزو أعداء بلاده، ومع هذا فإننا لا ننسى أن لجوء داود إلى بلاد الفلسطينيين كان نتيجة لضعف إيمانه واهتزازه في وعد الله الذي أعدَّه ليملك على إسرائيل، وقد سمع تأكيدًا لهذا الوعد من أبيجايل (1صم 25: 28، 29) ومن يوناثان (1صم 20: 14، 15) ومن شاول نفسه (1صم 24: 20 - 22) أما داود في هروبه إلى جت فقد سلك طريقًا دون استشارة الله، طريق يتطلب منه الغش والخداع وسفك الدماء.
ب - غزا داود الجشوريين والجرزيين والعمالقة من سكان الأرض الذين حكم الله عليهم بالموت لتعاظم شرورهم، إذ صاروا كالوباء، ووصلوا إلى مرحلة اللاعودة، فعندما شاخ يشوع " قال له الرب أنتَ قد شخت. تقدمت في الأيام. وقد بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك. هذه هي الأرض الباقية. كل دائرة الفلسطينيين وكل الجشوريين" (يش 13: 1، 2) ومثل أرض الجشوريين أرض الجرزيين سكان مدنية جازر، فقيل عن بني أفرايم: "لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر. فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم" (يش 16: 10) وأيضًا العمالقة " قال الرب لموسى... إني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء" (خر 17: 14).
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "إقامة داود ورجاله بعائلاتهم بعيدًا عن جت أعطى الفرصة لداود أن يقودهم في شيء من الحرية ويقوم بتنظيمهم، لذا بدأ يمارس بعض حملات غزو ضد الوثنيين من جشوريين وجرزيين وعمالقة، عُرِفوا بالحياة العنيفة واللصوصية بجانب الفساد والرجاسات. كانت فرصة لتطهير الأرض حتى لا يتسلل الفساد في أبشع صورة إلى الشعب المقدَّس ويفسدوا الخميرة النقية. ربما كان الجشوريون والجرزيون فروعًا من العمالقة الذين كانوا أشبه بجماعات من اللصوص لا عمل لهم إلاَّ السلب والنهب مع ممارسة الرجاسات"(6)(7).
ومع كلٍ فإنه يجب أن نتذكَّر أن داود ربما لم يقم بهذه الغزوات تنفيذًا للحكم الإلهي بقدر ما قام بتنفيذه لاحتياجه الشديد إلى قوت يومه هو ورجاله، ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "وقعت على داود مسئولية عظيمة نحو رفقاءه إذ كان عليه أن يعول نفسه وامرأتاه ورجاله ونساءهم وأطفالهم... وظن الفلسطينيون أنه ليس أمام داود ليفي باحتياجات من معه سوى أن يغير على أرض إسرائيل، ولكن هذا الأمر كان مستحيلًا أن يقوم به داود ليقع في خيانة شعبه. وهنا لعب داود لعبة خطرة إذ تظاهر بغزو إسرائيل وحلفائها، وهو في الواقع صعد ومعه رجاله لغزو الجشوريين والجرزيين والعمالقة (1صم 27: 8) والجشوريون هم جيران الفلسطينيين ويقيمون بالقرب من الشاطئ الجنوبي الغربي، والجرزيون والعمالقة شعوب عربية، وقام داود بغزوات أخرى في عمق النقب منتهزًا فرصة انشغال رجال أخيش في الاستعداد للحرب مع شاول وعدم متابعتهم لداود. وكانت غزوات داود دامية وغير إنسانية إذ كان يمحو مدنهم، وقتل جميع الأسرى فقد أراد أن يخفي كل أثر لغزواته ولم يترك شخصًا يفشي أسراره، وعندما طلب منه أخيش تقريرًا عن حروبه أجابه بمراوغة وخدعة... قضى داود سنة وأربعة أشهر في أرض الفلسطينيين وهي فترة سيئة في حياته، وإن كان في الظاهر قد استراح من مطاردة شاول وقد نجح في غزواته ولكن سلوكه في حروبه وجرائمه كزعيم عصابة كان مسيئًا فقد استباح لنفسه سفك دماء لا مبرر لها، فقد كان من أساسيات الحرب الشريفة الإبقاء على الأسرى أحياء... وكان من المفروض أن يكون وسط شعبه في هذه الأيام التي تلوح فيها بوادر حرب شرسة مع الفلسطينيين. ومن النتائج أيضًا أنه قدم إلى أعدائه من غنائم غزواته مما كان يشدد دون رغبته أيدي أعدائه الفلسطينيين وانتهى به الأمر أنه صار حارسًا شخصيًا لأخيش... لقد أخطأ داود بالتجائه إلى أرض الفلسطينيين فقد أهان الله بعمله هذا وجلب على نفسه تجربة شديدة"(8).
جـ- عندما سأل أخيش داود " إذًا لم تغزو اليوم " أجاب داود بالصدق قائلًا: بلى، أي أننا قمنا بالغزو اليوم، وكانت الغزوات من الأمور العادية حينذاك، لذلك تجد " أخيش " يسأل داود عما إذا كان هناك غزو اليوم من عدمه؟ فإنه إن لم يغزو اليوم فإنه سيغزو غدًا أو بعد غد، فالغزوات هي وسيلة الحياة، وكان " أخيش " متأكد أن داود يغزو بني إسرائيل، ولذلك فهو يشجعه على هذا. ثم أكمل داود الإجابة على تساؤلات أخيش، فقال " على جنوبي يهوذا وجنوبي اليرحمئيليين وجنوبي القينيين " وفهم أخيش أن داود غزا سبط يهوذا، بينما غزا داود الجشوريين والجرزيين والعمالقة، فقد قصد داود أن يخدع أخيش.
ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "وإجابة داود جوابًا فيه شيء من الدهاء والتمويه والكذب المقنع، حيث قال: "بلى " أي نعم قد غزونا جنوبي يهوذا وجنوبي اليرحمئيليين وجنوبي القينيين، و" يهوذا " هو السبط الذي منه داود نفسه من أسباط إسرائيل، و" اليرحمئيليون " هم نسل " يرحمئيل " أحد أحفاد يهوذا (1أي 2: 4 - 9)، كما أن " القينيين " هم الشعب الذي كان منه يثرون حمو موسى (قض 1: 16) وقد إنتسبوا للمديانيين لأنهم سكنوا في مديان، وقد انتسب بعضهم إلى سبط يهوذا وسكنوا معهم في أرض الموعد (قض 1: 16، 4: 11، 17، 1أي 2: 55) ووجه التمويه في كلام داود أن قوله " بلى على جنوبي يهوذا وجنوبي اليرحمئيليين وجنوبي القينيين " يجعل السامع (أخيش) يظن أنه غزا جنوب أراضي هؤلاء فعلًا، أي أنه غزا بعض أراضي إسرائيل وحلفائهم، مع أنه في الحقيقة لم يغزو إلاَّ (الجشوريين والجرزيين والعمالقة) الذين كانوا يسكنون إلى الجنوب من يهوذا واليرحمئيليين والقينيين... إن الوحي لصدقِه يذكر أيضًا نقطة الضعف هذه في حياة داود"(9).
د - سجل الكتاب المقدَّس الأحداث كما جرت تمامًا بحلوها ومرها، فهو شاهد صادق على هذه الأحداث سواء كانت خيرًا أو شرًّا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لقد ذكر الكتاب ضعفات الأنبياء وسقطاتهم ليس من قبيل مدح الخطية وتشجيعها، بل من قبيل إدانة الخطية والحكم عليها حتى لو كانت صادرة من أنبياء، وذلك لكيما نتعلَّم ونعلَمُ أننا جميعًا تحت الضعف، ونحذر من السقوط، ونحفظ أنفسنا بلا عثرة، ولا يصح أن نُلقي اللوم على الكتاب المقدَّس لأنه لم يدن هذه الأفعال ولم يعلق عليها، لأنه من المفروض أن الكتاب يخاطب أناس ذوي أفهام لهم عقول تدرك الفارق بين الصواب والخطأ، لقد سفك داود دماء لا مبرر لها، وبسبب مثل هذه الأمر منعه الله أن يأخذ بركة بناء بيت الرب، لأن يداه ملطختان بالدماء. وأيضًا كون الكتاب يذكر هذه الأمور السلبية التي صدرت من كبار رجال الكتاب المقدَّس لهو دليل قوي على صدق هذا الكتاب، ولو تعرض الكتاب للتحريف لكان بالأولى حذف أخطاء الأنبياء.
س (2): كيف انضم داود إلى جيش أخيش وكان على وشك محاربة بني إسرائيل لولا اعتراض بعض قادة الفلسطينيين؟
وللتعليق على هذه النقطة الثانية نقول:
أ - لقد صار داود في ورطة عظيمة وموقف لا يُحسد عليه إذ قال أخيش له: "أعلم يقينًا أنك ستخرج معي في الجيش أنت ورجالك" (1صم 28: 1).. لقد صُدم داود من طلب أخيش، إذ كيف يصل به الحال إلى أن يحارب شعبه، ويمد يده لمسيح الرب الذي رفض أكثر من مرة أن يمد يده إليه..؟! ولم يقدر أن يعد أخيش بأنه سيحارب بجانبه بني إسرائيل، فأجلب بطريقة مبهمة: "أنت ستعلم ما يفعل عبدك" (1صم 28: 2) ولا بُد أن داود شعر أنه أدخل نفسه في هذه الضيقة العظيمة لأنه لم يستشر الرب عند احتمائه بأخيش، ولا بُد أنه وهو في طريقه مع أخيش لمحاربة شاول كان يصرخ من عمق قلبه لله القادر أن يخلصه وينقذه من هذه الورطة، واستجاب الرب لصلاته متغاضيًا عن ضعف إيمانه، وإذ ببعض قادة الفلسطينيين يعترضون على تواجده معهم خوفًا من انقلابه ضدهم في المعركة.
ب - جاء في " كتاب السنن القويم": "أنت ستعلم ما يفعل عبدك... في جواب داود التباس مقصود لأنه يودُّ أن ما يفعله يكون مجهولًا أما أن يكون مع الفلسطينيين وإما أن يكون عليهم وفي الآخر يظهر ما سيفعله. وأما أخيش ففهم أن داود سيخرج معه ويفعل ما يفتخر الفلسطينيون به. وهذا جعل داود في حيص بيص لأنه لا يقدر أن يظاهر الفلسطينيين ولا يقدر أن يُظهر لهم أنه مع إسرائيل"(10).
ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "لم يكن جواب داود صريحًا بل كان يحتمل أكثر من معنى، فهو بينه وبين نفسه لا يستطيع أن يخون إلهه وشعبه وينضم للفلسطينيين لمحاربة شعبه، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يجاهر لأخيش بذلك، ولم يشأ أيضًا أن يعطيه وعدًا بمساعدته، فقال له: "لذلك أنت ستعلم ما يفعل عبدك " أي أنك سترى بعينيك ما سوف أعمله عند خروجي معكم إلى الحرب... ورغم أن قول داود لا يتضمن وعدًا بمساعدة الفلسطينيين فإن أخيش لثقته، ظن أن داود سيحارب معهم ولمصلحتهم فعلًا، فقال له: "لذلك أجعلك لرأسي كل الأيام " والمعنى أنه سيجعله من حرسه الخاص، ليحمي حياته، ورأس الملك هنا يعبر عنه مجازيًا عن شخصه وحياته"(11).
جـ- لم يخن داود شعبه، إنما خلصهم من شعوب وثنية كانت تضايقهم، فداود ظل أمينًا لشعبه وإلهه، ويقول " الخوري بولس الفغالي " عن داود " التجأ إلى الفلسطينيين، وقدم خدماته لملك جت (1صم 27) ولكنه حافظ على صداقة مواطنيه، فخلصهم من غزوات بدو الجنوب، ووزع عليهم الأسلاب. وتعلَّم لدى الفلسطينيين مهنة الحرب واستعمال السلاح"(12).
كما يقول "الخوري بولس الفغالي" أيضًا: "وصار داود تابعًا لملك الفلسطينيين، غير أن أخيش لم يستعمل خدماته ضد الملك شاول، بل سلَّمه موقعًا بعيدًا عن مسرح العمليات العسكرية، جعله في صقلغ قرب بئر سبع، وطلب منه أن يراقب قبائل الجنوب التي لا تعرف الهدوء... صار داود ضابطًا لدى أخيش، ملك الفلسطينيين، فقام بغزوات عديدة (1صم 27: 8) وأهمها تلك التي قام بها ضد العماليقيين الذين حاربهم شاول في الماضي. صاروا أقوياء في شرقي يهوذا فاستفادوا من غياب داود ليغزوا صقلغ ويحرقوها ويحملوا معهم الغنائم، ولكن داود استعاد كل شيء، وحارب في الغرب الجشوريين... وأخيرًا حارب الجرزيين... وهكذا لن يكون داود البطل الذي خان بلاده وحارب شعبه... وهكذا بدا داود ذلك المحامي عن أهل يهوذا، وترد في (1صم 30: 27 - 31) لائحة باثنتي عشرة مدينة أو مجموعة أعاد إليها داود قسمًا من الغنيمة بشكل هدية أو بركة"(13).
س (3): كيف تُدعى الكُتب التي كتبها داود كتب مقدَّسة؟ وكيف يتم تقديس كُتب كذاب مخادع زاني قاتل لجاره؟.. للتعليق على هذه النقطة الثالثة نقول:
أ - سبق الحديث عن أخطاء الأنبياء إذ هم غير معصومين في تصرفاتهم الشخصية لأنهم من نفس عجينة البشرية(14).
ب - عصمة الأنبياء في حالة واحدة لا غير وهي خلال تسجيلهم الأسفار المقدَّسة، فمنذ اللحظة الأولى التي يبدأ يخط بها أول كلمة يرافقه روح الله يفتح ذهنه ويرشده ويعصمه من الخطأ ويعرّفه بعض الأمور المخفية عن الآخرين ويساعده في انتقاء الألفاظ، ويضع على فمه بعض النبوءات التي قد يعجز عن إدراك أعماقها، وفي كل هذا لا يلغي شخصية ولا أسلوب ولا تفكير الكاتب، فالأسفار المقدَّسة هي بالحقيقة كلمة الله التي عبرت إلينا من خلال الذهن البشري للكاتب.
جـ- لو اشترط الله أن يكون كتبة الأسفار المقدَّسة رجال كاملون لا يخطئون، فإنه لن يجد إنسان بهذه المواصفات، لأننا كلنا في الموازين إلى فوق، ولكنها نعمة الله هي التي تفاضلت جدًا إذ وهبتنا الكلمة المقدَّسة من خلال آنية ضعيفة بعد أن رافقها روح الله، وهكذا " تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 1: 21).
د - عجبًا لمن يركز على ضعفات داود وسقطاته ويتغافل عن توبته ودموعه، صلواته ومزاميره، صبره واحتماله، إعفائه من شاول الذي كان يشتاق للقضاء عليه، اشتياقاته لبناء بيت الرب، وصاياه لإبنه سليمان لكيما يحفظ شعائر الرب والسير في طرقه وحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وشهاداته، وباختصار شديد فداود هو الرجل الذي شهد له الله: "وجدتُ داود بن يسَّى رجلًا حسب قلبي" (أع 13: 22) فداود مثله مثل بقية الأنبياء الذين عاشوا حياة الأمانة وأحبوا الرب من كل قلوبهم، ولكن يلذ للنُقَّاد تسليط المجهر على سقطاتهم.
س (4): أ - كيف لا توجد صلة بين القبائل التي كان يهاجمها داود وبين أخيش ملك جت؟
ب- ألم يتمكن أي إنسان من الإفلات من مذابح داود ليخبر أخيش بما يجري؟
ج- هل أخيش ملك ساذج مختل العقل ليطمئن لرجل قتل بطلهم جليات، ولم يرسل جواسيس خلفه ليتأكد من صحة أقواله؟
وللتعليق على هذه النقطة الرابعة باختصار شديد نقول:
أ - في ذلك الزمان كانت القبائل تعيش متباعدة عن بعض، فقد كان داود يغزو قبائل منفردة لا تعيش في مدينة ولا في قرية، إنما كان يختار القبائل التي تعيش في شبه عزله، ومدة إقامته سنة وأربعة أشهر، فلم تتوفر لأخيش أية معلومة عما يفعله داود، وإلاَّ لقضى عليه قضاءًا مبرمًا، وعندما كان يغزو داود قبيلة كان يقضي عليها بالكامل ليتأكد أن أخباره لا تصل إلى أخيش الملك، وأيضًا أخيش كان قد وثق ثقة كبيرة في داود ولاسيما أن مطاردة شاول لداود قد عمت الآفاق، ولذلك لم يرسل خلف داود جواسيس لأنه لم يشك فيه أصلًا.
ب - كان أخيش في تلك الأحداث شابًا تنقصه الحنكة وخبرة الأيام، وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "ثم لجأ داود مرة أخرى إلى أخيش ملك جت... ولا بُد أن أخيش كان شابًا في ذلك الوقت، لأنه كان مازال عائشًا بعد أربعين سنة من بداية مُلك سليمان (1 مل 2: 9)"(15).
س (5): هل بلغت القسوة بداود إلى إبادة كل شيء حتى قتل الأطفال خوفًا من أن يعرف أخيش حقيقة ما يجري؟ وهل يحق للاهوتيين أن يبرروا داود الذي قتل هؤلاء المسالمين لأنهم وثنيين؟
وللتعليق على هذه النقطة الخامسة نقول:
أ - لقد حكم الله على هذه الشعوب بالفناء لأنها توغلت في الشر والسحر والعرافة ومخاطبة الأرواح، ومزجت العبادات الوثنية بالعهر المقدَّس، وقدموا أطفالهم ذبائح، وفُقد كل أمل في عودتهم فصاروا كالأعشاب الضارة التي يجب اقتلاعها من الأرض ولذلك استباح داود دمائهم.
ب - هذه الشعوب طالما هاجمت شعب الله والشعوب المحيطة بهم، فاعتدت على الأرواح والأعراض والممتلكات، فالقضاء على هؤلاء الأشرار كان يعتبر تطهيرًا للأرض منهم.
جـ- مع أن السفر لم يذكر قتل الأطفال، وذكر فقط قتل الرجال والنساء، ولكن هؤلاء الأطفال لو تركهم يشوع أو داود فأن مصيرهم كان سيؤول إلى أمر من أمرين، أولهما: أن يُقدموا ذبائح للأوثان، شويًا بالنار على حِجر مولك النحاسي الملتهب نارًا، وثانيهما: أن ينجوا من هذه المأساة فيعيشون ويتوغلون في الشر، وبذلك تكون نهايتهم العذاب الأبدي، بينما موتهم وهم أطفال فإن حالتهم ستكون أفضل كثيرًا لأنهم لا يعذَّبون ولا يتنعمون، لا يعذبون لأنهم لم يفعلوا خطية إذ أن إرادتهم قاصرة، ولا يتنعمون لأنهم لم يكن لهم الإيمان الصحيح.
س (6): كيف يكون داود الضعيف أمام النساء، المتعطش للدماء، حاملًا للنعمة الإلهيَّة وجدًا للمسيح؟
للإجابة على هذه النقطة السادسة والأخيرة من هذا السؤال نقول:
أ - ضعف داود أمام بثشبع زوجة أوريا الحثي، فسقط معها، وقتل زوجها، وهذه الخطية كلَّفت داود الثمن الباهظ، إذ قُتل ابنه أمنون ثم أبشالوم، وأصيبت ابنته ثامار بلوثة... أي كسرة قلب هذه ..؟! أما في حياة داود العادية فقد كان معتدلًا مستقيمًا، فقد كان في إمكانه أن يتزوج من العشرات والمئات ولكنه لم يفعل هكذا، بل كان داود يهتم بحياته الروحية منذ صغره، وما أعظم إيمانه أمام جليات الجبار، وكان يهتم بصلواته حتى أنه كان يصلي في اليوم سبع مرات: "سبع مرات في النهار سبَّحتك على أحكامك" (مز 119: 164) بل قال: "أما أنا فصلاة" (مز 109: 4) وكان مداومًا أيضًا على الأصوام، وكان عادلًا في مُلكه.
ب - لم يكن داود متعطشًا للدماء، بل عاش بحسب سمة عصره، حيث كان الغزوات والحروب تكاد تكون مشروعة، فلم يكن لداود ورجاله مصدرًا للزرق، فكان داود ورجاله يغزون بعض القبائل، وهم أيضًا في صقلغ تعرضوا للغزو وحرق ممتلكاتهم من قِبل العمالقة، وكان داود يصرخ في أعماقه " نجني من الدماء يا الله إله خلاصي" (مز 51: 14).
جـ- العبرة بالنهاية، وقد ختم داود حياته بتوبة قوية " أعترف لك بخطيتي ولا أكتم أثمي" (مز 32: 5).. " أغسلني كثيراُ من إثمي ومن خطيتي طهرني. لأني أنا عارف بمعاصيَّ وخطيتي أمامي دائمًا. إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت" (مز 51: 2 - 4) ولا بُد أن الرب غفر له خطاياه وقبله إليه، فإن كان الله ذاته قد غفر له خطاياه، وهو تغنَّى بهذه المغفرة: "طوبى للذي غُفر إثمه وسترت خطيته" (مز 32: 1).. فهل بعد هذا يجرؤ إنسان على إدانة من حكم الله ببراءته؟!
د - ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران، وحيثما كثر الإثم تفاضلت نعمة الله جدًا، هذه النعمة الغافرة عملت مع داود فصيَّرته إنسانًا جديدًا، هذا من جانب ومن جانب آخر لم يكن جميع أسلاف السيد المسيح قديسين... لماذا؟
(1) لأنه لو كانت حياة القداسة والكمال ممكنة بدون الصليب والفداء، ما كان هناك داعيًا للتجسد والفداء.
(2) جاء السيد المسيح لكيما يطهر البشرية من ضعفاتها ويغسلها من آثامها بدمه. لقد أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له، حمل آثامنا وخطايانا في جسده على الصليب وأعطانا بره "متبرّرين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رو 3: 24).
_____
(1) البهريز في الكلام اللي يغيظ س395 ص 277 - 279.
(2) التناقض في تواريخ وأحداث التوراة ص 377.
(3) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 239، 243.
(4) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 326.
(5) ترجمة نذير جزماتي - حكايا محرَّمة في التوراة ص 325.
(6) راجع أيضًا مدارس النقد جـ 8 إجابة س 910.
(7) تفسير سفر صموئيل الأول ص 189، 190.
(8) دراسة في سفر صموئيل الأول ص 187، 188.
(9) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 267.
(10) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 4 (أ) ص 127، 128.
(11) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 269.
(12) تعرَّف إلى العهد القديم مع الآباء والأنبياء ص 112.
(13) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 317، 318.
(14) فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ 5 إجابة س 434.
(15) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 132.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1157.html
تقصير الرابط:
tak.la/qd6gr4t