يقول " جيمس هنري برستيد" James Henry Breasted: "وبهذه المناسبة تُذكَر تلك الكلمات السامية التي وجهها ذلك الملك الأهناسي المجهول الاسم إلى ابنه "مريكارع " قبل عهد موسى عليه السلام بألف سنة، وهي: "أن فضيلة الرجل المستقيم أكثر قبولًا من نور الرجل الذي يرتكب الظلم". على أن ما أظهره ذلك الفرعون المُسن من قوة البصيرة في تعمقه الخلقي لم يكن أثره بالبداهة قاصرًا على مصر، ولا بد أن لفافة البردي التي كانت تشمل على نصائحه الحكيمة الموجهة إلى ابنه قد وجدت سبيلًا لها إلى فلسطين لأن نفس هذه المعاني، مكتوبة بكلمات مشابهة جدًا للكلمات السابقة، قد ظهرت في أوائل التطور الخلقي العبراني بالنص الآتي:
" أنظر إلى الطاعة أفضل من التضحية. والإصغاء أفضل من الكبش السمين" (1 صم 15: 22) وهذا الحث على حسن الإصغاء يتردد صداه في الأذان كأنه صدى نصائح "بتاح حتب" الذي نصح بها ابنه منذ أكثر من 1500 سنة قبل عهد صموئيل وبيَّن له فيها قيمة الإصغاء"(1).
ج: 1- قال صموئيل النبي لشاول: "هل مسرَّة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب. هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" (1صم 15: 22) وهذا القول لم يقتبسه صموئيل النبي من الحضارة المصرية القديمة، لأنه كان ينظر لتلك الشعوب على أنها شعوب وثنية قد أغضبت الرب بشرورها، وهي محكوم عليها من قبل العدل الإلهي، فكيف يقتبس من هذه الشعوب التي ضلت عن طريق الحق..؟! ولماذا يقتبس منها وهو يخاطب شاول الرجل اليهودي وليس المصري..؟! عندما خاطب صموئيل شاول بهذه العبارة كان أمام عينيه وصية موصى لشعبه: "فأحبب الرب إلهك وأحفظ حقوقه وفرائضه وأحكامه ووصاياه كل الأيام" (تث 11: 1) وفيما بعد قال سليمان الحكيم: "فعل العدل والحق أفضل عند الرب من الذبيحة" (أم 21: 3) ثم قال أرميا النبي: "هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. ضمُّوا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا. لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة. بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلًا أسمعوا صوتي فأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبًا" (أر 7: 21 - 23) (راجع أيضًا أش 1: 11، مي 6: 6 - 8).
2- عندما قال الملك المصري الحكيم: "أن فضيلة الرجل المستقيم أكثر قبولًا من نور الرجل الذي يرتكب الظلم " فإنه كان يقارن بين الرجل المستقيم والرجل الظالم، وهذا المعنى بعيد عما قصده صموئيل عندما فضل الاستماع لصوت الرب وطاعة وصاياه عن تقديم الذبائح والمحرقات، وعندما تكلم "بتاح حتب" عن الإصغاء لم يقارن بين الإصغاء وتقديم الذبائح، إذًا التشابه ليس وثيقًا بين ما قاله صموئيل وما جاء في الحضارة المصرية القديمة.
3- حتى لو تمشينا مع الناقد بأن الكاتب قد أقتبس عبارة أو أكثر من الحضارات البشرية فأن هذا لا يلغي دور الوحي الإلهي، فالروح القدس كان يرشد الكاتب ويوحي له ويترك له الحرية في اختيار الأسلوب الذي يكتب به، والاستعانة بالمصادر التي يراها مناسبة، فأتاح للكاتب الحفاظ على شخصيته وأسلوبه وفكره وفلسفته ومشاعره، وفي هذا كان يعصمه من الخطأ، فليس لدينا أية مشكلة في هذه الاقتباسات لأنها لا تتعارض مع الحق الإلهي.
4- عندما قال صموئيل النبي أن الاستماع لصوت الله وطاعة وصاياه أفضل من تقديم الذبائح لم يقصد أن يستهين بالذبائح والطقوس والممارسات الدينية، إنما أراد أن يؤكد أن كل الممارسات الروحية متى مُورست بدون روح من أناس عصاة أشرار، فلا قيمة لها على الإطلاق، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى... ما فائدة تقديم الفروض والطقوس بدون الطاعة، وما فائدة تقديم الذبائح لإنسان يصر على تحطيم الوصايا الإلهيَّة..؟! عندما ركز صموئيل النبي على الطاعة أمام شاول الذي فشل في امتحان الطاعة، لم يقصد قط الحط من طقوس العبادة ولا كرامة الذبائح، إنما قصد إظهار عظم طاعة الأوامر الإلهيَّة... عندما يقدم الإنسان بالذبائح فإن هذا أمر سهل لأنه يقدم شيئًا غريبًا عنه، ولكن عندما يطيع الله فهو يقدم إرادته وجسده ذبيحة حية لله " فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة مرضيَّة عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1).
5- قال الكتاب: "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته" (1صم 15: 35) أي أن صموئيل وضع في نفسه أن لا يرى شاول ثانية، وفعلًا صموئيل لم يذهب ليرى شاول، وما حدث في الرامة Rama أن شاول نفسه هو الذي جاء إلى صموئيل بهدف القبض على داود " فذهب هو أيضًا إلى الرامة... فذهب إلى هناك إلى نايوت في الرامة.." (1صم 19: 22 - 24) وقد انقطعت أواصر العلاقة تمامًا بين الله وشاول، فلم يعد الله يكلم شاول عن طريق صموئيل، إنما تركه لهواه، ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "كان صموئيل معتادًا أن يأتي إليه للاطمئنان عليه وافتقاده والتفاهم معه في أمور المملكة وتوجيهه وغالبًا لتبليغه أقوال الرب إلهه، ولكن إذ رأى صموئيل أن الرب قد رفضه من المُلك، وأن شاول قد اختار لنفسه طريق العصيان للرب والاستغناء عن مشورة صموئيل، وبذلك قد انقطع الخيط الذي بينهما ولم تعد بينهما أية مصالح متبادلة، لذلك " لم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته " ومعنى النص أنه لم يعد يأتي إليه لرؤيته، بل كفَّ عن المجيء إليه إلى أن انتقل صموئيل من هذا العالم. والترجمة الإنجليزية تفيد هذا المعنى (Samuel came no more to see Saul) (وإقرأ أيضًا ص 19: 24)"(2).
6- المعنى أيضًا يحمل الرؤية البصرية، كما يحمل معنى الرؤية النبوية، وقد دُعي صموئيل النبي بالرائي فالآية "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول" تعني أن الرب لم يعد يكلم شاول بواسطة صموئيل النبي، وبالطبع لم يكلم الرب شاول من خلال صموئيل إلى يوم وفاته وهذا أيضًا صحيح...
_____
(1) فجر الضمير ص 382.
(2) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 153.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1120.html
تقصير الرابط:
tak.la/qqg2h6y