يقول " ليوتاكسل": "من الواضح أن أكثر النُقَّاد اعتدالًا، لا يستطيع أن يتحدث عن هذا النص " المقدَّس " إلاَّ باشمئزاز ورُعب، وقد قال فيه " بولينغبروك": {كيف ؟ أيُرغَم خالق الكون على النزول إلى زاوية ما من زوايا الكرة الأرضية، وليس له هدف سوى أن يقول ليهوده: آه... لقد تذكرت الآن ! فمنذ ألف وخمس مائة عام مضت، كان هناك شعب صغير رفض السماح لأجدادكم بالعبور من أرضه؟0 تريدون محاربة مستعبديكم الفلسطينيين ؟ حسن! ولكن أتركوا هذه المعركة القاسية الآن، وأعدُّوا حملة ضد ذلك الشعب الصغير، الذي تصدى لأجدادكم في غابر الأيام، ومنعهم من تخريب أملاكه. أبيدوا هناك المواشي والقطعان، الجمال والحمير، لأنه من الضروري جدًا ألاَّ يكون عندكم مواشي وأغنام تستفيدوا من لحومها، في حربكم المقبلة مع الفلسطينيين الأقوياء، وألاَّ يكون عندكم جمال وحمير تحمل أمتعتكم إلى المعركة}"(1).
ويعلق "أحمد ديدات" على قول الله " فالآن أذهب وأضرب عماليق وحرموا ماله ولا تعف عنهم بل أقتل رجلًا وامرأة وطفلًا ورضيعًا. بقرًا وغنمًا جمالًا وحميرًا" (1صم 15: 3) قائلًا: "ويُلاحظ أن المترجم مُتحرّج أشد التحرج، يحاول التخفيف من قسوة الله، وبدل أن يقول: أقتل كل رجل وكل امرأة، تجد المترجم يقول: أقتل رجلًا وامرأة، وما أشد هول الفارق بين " أقتل رجلًا" و"أقتل كل رجل".."(2).
ج: يتساءل البعض: هل يتصوَّر عاقل صدور هذا القضاء المريع من الله الرحيم بطئ الغضب وكثير الإحسان..؟ دعنا نلخص الإجابة في نقاط محددة(3):
أ - الله رحوم بطئ الغضب كثير الإحسان وهو أيضًا عادل، لا يبرئ المذنب ولا يُذنّب البريء.
ب - عندما قطع الله عهدًا مع إبراهيم أخبره بأن نسله سيتغرب لمدة أربعمائة سنة ويستعبد لأمة غريبة، ثم يُخرجه الله بيد قوية وذراع رفيعة ويورثه أرض كنعان، وقال له " لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملًا" (تك 15: 16) والأموريون كناية عن شعوب كنعان، فهؤلاء كانوا أشرار مذنبين، ولكن حتى وقت حديث الله مع إبراهيم لم يكن ذنبهم قد أكتمل بعد، ولذلك أطال الله أناته عليهم مئات السنين حتى أكتمل مكيالهم، فأرسل الله يشوع حاملًا سيف العدل الإلهي موصيًّا إياه بتحريم هذه الشعوب التي توغلت في الشر ووصلت إلى مرحلة اللاعودة.
جـ- شعب عماليق شعب همجي كان يجول بين شمال اليهودية والحدود المصرية يهاجم القبائل في رحلاتها، فهو كان يقوم بعمل قطَّاع الطرق والغزاة، وعندما كان شعب الله خارجًا من أرض مصر منهكًا ضعيفًا، وبينما كان الشعب يعبر مضايق جبل سيناء هاجم عماليق مؤخرة الشعب، فتصدى له موسى بالصلاة، ويشوع بالحرب في رفيديم " فقال الرب لموسى أكتب هذا تذكارًا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء... للرب حرب مع عماليق من دورٍ إلى دورٍ" (خر 17: 14، 15) وأدرك موسى القصد الإلهي، ولذلك قبل أن يودّع موسى شعبه قال: "أذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر. كيف لاقاك في الطريق وقطع من مؤخَّرتك كل المستضعفين وراءك وأنت كليل ومتعب ولم يخف الله. فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا لكي تمتلكها تمحو ذكر عماليق من تحت السماء. لا تنس" (تث 25: 17 - 19) وفي أيام القضاة هاجم العمالقة مع المديانيين بني إسرائيل فكانوا يتلفون غلة الأرض " ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا" (قض 6: 4) فبالرغم من أن شعب عماليق قد سمعوا بما فعله الله مع المصريين من الضربات العشر، ومع ذلك فإنهم عاندوا وأصروا على محاربة شعب الله، فكان هذا تحدي للرب إله إسرائيل، فكان لا بُد من معاقبة عماليق على جرائمه القديمة والحديثة لأنه صار كالوباء في المنطقة، وكان لا بُد لسيف العدل الإلهي أن يتخذ مجراه، وإن كانت النفس التي تخطئ تموت، فأيضًا الشعب الذي يخطئ يهلك ولذلك جاء الأمر الإلهي: "هكذا يقول رب الجنود. إني أفتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالآن أذهب وأضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعفِ عنهم بل أقتل رجلًا وامرأة. طفلًا ورضيعًا. بقرًا وغنمًا. جملًا وحمارًا" (1صم 15: 2، 3).
د - لقد امتلأ كأس الشعب العماليقي الهمجي، وتوغلوا في الشر، ونشروا الشر حولهم، ووصلوا إلى مرحلة اللاعودة، وبدلًا أن يبيد الله هذا الشعب بوباء أو كارثة طبيعية فإنه شاءت حكمته أن يتم تنفيذ هذا الأمر بيد شعبه تحت قيادة الملك الأول شاول، لكيما يعلم ويوقن أن نهاية الخطية الفناء، وكان الله قد استخدم هذا الأسلوب من قبل مع شعوب كنعان إذ أمر يشوع وشعبه أن يبيدوا تلك الشعوب، ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "ولم يكن الرب ظالمًا أو متجنيًا على هذا الشعب الدنيء القاسي وأمثاله ممن قضى بإهلاكهم، لأنهم كانوا في غاية الخطورة على العالم وعلى شعبه، لتوغلهم في عبادة الأصنام وتحديهم المستمر للرب وأعمال القتل والتخريب والنهب التي يمارسونها مع الشعوب. ولقد سبق الرب فأعلن أن عماليق رفع يده ضد كرسي الله (خر 17: 16) أي أنه ثار وتمرد على الرب كمثل رجل طاغٍ يثور ضد حاكم أو ملك عادل، ومن ثم فقد أعلن الرب أن هناك (حربًا للرب مع عماليق من دورٍ إلى دورٍ. خر 17: 16) ورغم مرور نحو أربعمائة سنة من هذا التمرد من عماليق ومن إعلان الرب فإن هذا الشعب لم يتب، ولذلك كان لا بُد من استئصاله.
فالحكم كان من محكمة السماء من الرب القاضي العادل والمتسلط على جميع الشعوب، وكان في إمكان الرب أن ينفذ فيه الحكم بنفسه ويبيده بوبأ أو بسيل أو يأتي بأي شيء ولكنه رأى بحكمته أن يقوم شعبه بتنفيذ حكم الله فيه، ليكونوا أداة لعقابه كما كان عماليق قديمًا أداة للاعتداء على هذا الشعب"(4).. كان لا بُد من القضاء على عماليق بهدف حماية الشعوب الأخرى، وأيضًا حماية شعب إسرائيل الذي سيأتي منه المسيا المنتظر.
2- لم يكن الهدف من الحرب مع عماليق نشر الدين اليهودي بينهم، وأيضًا لم يكن هدف الحرب هو السلب والنهب وفرض الجزية، إنما كانت هذه الحرب هي بمثابة تنفيذ الأحكام الإلهيَّة على هذا الشعب الذي تجاسر وتحدى شعب إسرائيل وإله إسرائيل، كما أن مثل هذه الحروب كانت تعتبر أمورًا استثنائية، أما في الأمور العادية فأن الكتاب أوصى الشعب بحسن معاملة الغير وحسن الجوار، وتلاحظ أن الأحكام الإلهيَّة لم توجه ضد القينيين، ولذلك طلب منهم شاول الملك الهروب من وسط العمالقة: "وقال شاول للقينيين أذهبوا صيدوا أنزلوا من وسط العمالقة لئلا أهلككم معهم وأنتم قد فعلتم معروفًا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر" (1صم 15: 6).
3- أراد الله أن يعلم شعبه رفض الخطية وكل ما يحوم حولها ويتعلق بها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولذلك أمرهم بتحريم حتى الحيوانات التي ارتبطت بهؤلاء الخطاة، وعندما عفى شاول عن خيار الغنم والبقر غضب عليه الرب، ويقول " القمص تادرس يعقوب " عن طلب الله من شاول: "لقد طلب منه أن يحارب عماليق ويحرم كل ماله، لأن النصرة التي ينالها ليست من ذاته بل هي هبة من الله الذي سبق فأعلنها منذ حوالي 400 عام " للرب حرب مع عماليق من دورٍ إلى دورٍ" (خر 17: 8 - 16). إنه لن ينسى وعوده، إنما يحققها في الوقت المناسب. منح الله شاول هذه النصرة، طالبًا منه تحريم كل ما لعماليق... قد يبدو أن في التحريم نوعًا من القسوة على الإنسان وتبديدًا للممتلكات والموارد، لكن عماليق كان قد فسد تمامًا، إذ كانوا جماعة لصوص متوحشين، يرتكبون الجرائم ويمارسون الرجاسات... سيموت كل البشر وسينحل العالم كله، عندئذ تدرك أن موت الجسد وإبادة الممتلكات والموارد أمور وقتية بجوار خلود الإنسان وتمتعه بشركة الأمجاد السماوية"(5).
4- لم يكن المترجم متحرّجًا أشد التحرج من ترجمة كلمة الله كقول " أحمد ديدات"، إنما المترجم ترجم النص بكل أمانة وإخلاص، وأن الترجمة مطابقة للأصل العبري روحًا ونصًا ومعنى، وجاء في " التفسير التطبيقي": "لماذا أمر الله بمثل هذا القضاء التام؟ كان العمالقة عصابة من الإرهابيين، وكانوا يعيشون على مهاجمة الأمم الأخرى ونهب ثرواتهم وسبي عائلاتهم. وكانوا أول من هاجم بني إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر. وظلوا يغيرون على معسكرات بني إسرائيل في كل فرصة. وكان الله يعلم أنه لا يمكن لبني إسرائيل أن يعيشوا في سلام في أرض الموعد طالما كان هناك العمالقة. كما أنه كان يعلم أن ممارساتهم الدينية الوثنية الفاسدة، تهدد علاقة بني إسرائيل به وكان السبيل الوحيد لحماية أجساد ونفوس بني إسرائيل، هو القضاء التام على شعب هذه الأمة الشريرة وكل ممتلكاتهم بما فيها أوثانهم... كل شيء يحرّمه الله كان يجب القضاء عليه تمامًا (تث 20: 16 - 18) وكان كسر هذه الشريعة معادلًا لعبادة الأوثان، وكان عقابه الموت (يش 7) إذ كان يدل على عدم الاحترام والوقار لله، لأنه كسر مباشر لأمره"(6).
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 291، 292.
(2) ترجمة علي الجوهري - عتاد الجهاد ص 26.
(3) ومَنْ يريد التوسع له أن يرجع إلى مدارس النقد جـ 8 س 910 حيث تم مناقشة الموضوع بالتفصيل.
(4) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 143.
(5) تفسير سفر صموئيل ص 103.
(6) التفسير التطبيقي ص 594.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1118.html
تقصير الرابط:
tak.la/5yg3ym4