يقول " ليوتاكسل": "ولكن المؤلف المقدَّس لم يقل لنا كلمة واحدة عن سخط اليهود على مستعبديهم الفلسطينيين، كما لم يشر إلى سبب الحرب، أو المنطقة التي يقطنها اليهود. فقد أقتصر بيانه على أن اليهود خسروا ثلاثين ألف قتيل، على الرغم من وجود " تابوت العهد " بينهم. ويلاحظ " فولتير " قائلًا: {كيف يمكننا أن نصدق بأن شعبًا مستعبدًا خسر تلك الخسائر كلها، ثم عاد ونهض بتلك السرعة}.. ويضيف " فولتير " ساخرًا: {لاشك أن الله وجه كلمته إلى صموئيل بعد أن أصبح نبيًا، وأنه غدا منذ طفولته أكثر أهمية بكثير من الثلاثين ألف قتيل الذين لم يحصل لهم شرف سماع صوت الله قط، وقد يكون هذا هو سبب اهتمام "الكتاب المقدَّس" بالحديث مفصلًا عن الأنبياء اليهود، وليس عن الناس اليهود}.. لم يجد يهوه طريقة أفضل من وقوعه في قبضة الفلسطينيين، وهو قابع في " تابوت العهد " الشهير، ومع أن حفنى وفينحاس دافعا عن التابوت، أي عن يهوه نفسه وقُتلا في سبيل ذلك، إلاَّ أن العجوز أراد أن يميتهما مع ثلاثين ألف يهودي آخر لم يُنزِل أي منهم أي منشال في قدره في أي يوم. وأخيرًا، ألم يُسقِط يهوه نفسه في مستنقع التجديف على ذاته الإلهية عندما سلَّم نفسه للوثنيين؟"(1).
ويقول " الخوري بولس الفغالي": "ذهب الله إلى المنفى خارج أرضه، وهناك أظهر قوته التي أخفاها حين أراد بنو إسرائيل أن يستخدموها... فالله المخلص هو هو يضرب شعبه وسائر الشعوب ليردهم إليه، وسيعود الفلسطينيون إلى يهوه، فيقدمون له تقدمه، ويردونه إلى أرضه"(2).
ج: 1- جاء الفلسطينيون من جزيرة كريت واستوطنوا ساحل البحر المتوسط بأرض كنعان، وكانوا دائمًا يغيرون على بني إسرائيل فيسلبون منهم ما يسلبون ويقتلون من يقتلون ويأسرون من يأسرون، ولذلك كانت حروبهم مع بني إسرائيل ممتدة، وفي الفترة التي عاش فيها عالي الكاهن عاش فيها أيضًا شمشون الجبار قاضي إسرائيل، فاستطاع بمفرده أن يصد اعتداءات الفلسطينيين على شعبه، وأن يوقف زحفهم، وعندما انحرف بنو إسرائيل عن إيمانهم القويم، وعبدوا آلهة الأمم تخلى الله عنهم، وقهرهم الفلسطينيون أكثر من مرة وسلبوا منهم تابوت العهد وأذلوهم، وعندما قاد صموئيل النبي الشعب في طريق التوبة وأصعد محرقة للرب، منحهم الرب النصرة على الفلسطينيين، وعندما صار داود ملكًا وضع حدًا لمطامع هؤلاء المعتدين.
2- ليس الكتاب المقدَّس كتاب تاريخ، وإن كان يهتم بتاريخ بني إسرائيل، والقصد من التاريخ في الكتاب المقدَّس توضيح علاقة الله بشعبه، واستخلاص العبرة الروحية من الحدث، ولذلك لم يخض الكتاب في تفصيلات الحرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل التي حدثت نحو 1080 ق. م. واكتفى بذكر نتائج الحرب، ففي الجولة الأولى سقط أربعة آلاف وفي الثانية سقط ثلاثين ألف قتيل من بني إسرائيل، أما التابوت الذي سلبوه فكان مصدر نقمة وتأديب لهم، فضربهم إله إسرائيل بضربات لا شفاء منها، حتى اضطروا إلى إعادته لموضعه بإكرام عظيم ومهابة كاملة، وبعد هذا الحدث لم يرتدع الفلسطينيون بل تقدموا ليحاربوا بني إسرائيل، ولكن الفرصة لم تواتيهم بالنصرة... لماذا..؟ لأن صموئيل النبي قاد الشعب إلى توبة قوية، فنزعوا الآلهة الغريبة من بينهم، وصرخوا للرب " فأرعد الرب بصوت عظيم في ذلك اليوم على الفلسطينيين وأزعجهم فانكسروا أمام إسرائيل" (1صم 7: 10) وهنا رد واضح على تساؤل فولتير وهو كيف نهض هذا الشعب بعد هذه الهزيمة بتلك السرعة؟ فواضح أنهم لم ينهضوا من ذواتهم، بل أن معونة إلهيَّة أدركتهم.
3- لم يهتم الله بالأنبياء أكثر من الشعب كقول فولتير، إنما اهتم الله بالأنبياء من جانب لأمانتهم، ومن جانب آخر لكيما يرعوا شعبه ويهتموا بالقطيع، أي من جوانب اهتمام الله بشعبه اختياره وإرساله للأنبياء الأمناء لكيما يهتموا بالشعب ويفضحوا خطاياه المستترة وعباداته الغريبة.
4- يحتج الناقد على قتل الثلاثين ألفًا في هذه الحرب، مع أنهم لم يخطئوا خطايا حفنى وفينحاس. نعم، ولكن في الحقيقة كان لهم خطاياهم الخاصة مثلهم مثل بقية الشعب الذي ضلَّ وتاه، ولم يكونوا خطاة أكثر من بقية الشعب، وهذا ما نبه له السيد المسيح له المجد عندما قال لليهود عن الجليليين الذي خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم: "أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنون أن هؤلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو 13: 2 - 5).
5- كيف سمح الله بكسرة بني إسرائيل ومعهم تابوت العهد، فيُقتل منهم ثلاثين ألفًا، بل ويسلب منهم التابوت؟
أ - كان التابوت من خشب السنط الذي لا يسوس ومغشي بالذهب " طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف" (خر 25: 10) وله أربع حلقات من الذهب مثبتة في قوائمه الأربعة، يُدخل في كل أثنين منهما عصا خشب سنط مغشي بالذهب لحمل التابوت على الأكتاف، والتابوت له غطاء عليه كروبان مُظلّلان بأجنحتهما على الغطاء، ووجهاهما كل واحد إلى الآخر، وقال الرب لموسى: "وأنا أجتمع بك هناك وأتكلم معك من على الغطاء من بين الكروبين" (خر 25: 22) ولذلك عندما كان يتحرك عمود السحاب والنار ويبدأ الشعب في الرحيل " وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول قم يا رب فلتتبدَّد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك. وعند حلوله كان يقول أرجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل" (عد 10: 35، 36) فكان تابوت العهد رمزًا للحضرة الإلهيَّة ولكنه لم يكن هو الله.
ب- عندما انكسر بنو إسرائيل أمام الفلسطينيين وقُتل منهم أربعة آلاف رجل، تذكَّروا كيف سقطت أسوار أريحا بمجرد طواف الشعب وهم يحملون تابوت العهد حولها، فأسرعوا إلى حمل التابوت من شيلو واندفعوا به إلى أرض المعركة دون أن يستشيروا الله، مع أن في أحداث أريحا كان الله هو الذي أشار عليهم بهذا، ولكنهم في هذه المرة لم يقدموا توبة، ولم يصرخوا لله، وحملوا التابوت وكأنهم يحملون تميمة سرية متشبهين بالأمم الذين يحملون معهم آلهتهم في الحروب، ولم ينتبهوا أن حفنى وفينحاس الذين يحملون التابوت هم " بني بليعال"، ويقول " الخوري بولس الفغالي": "تابوت العهد ليس أداة سحرية، يديرها الإنسان كما يشاء، ويوجهها بحسب رغبات قلبه. في أرض إسرائيل لم يُعطِ التابوت النصر المنتظر، وفي أرض الفلسطينيين وبيت شمس سينشر الدمار والخراب. أن مكان تابوت العهد في أورشليم... في السحاب الكثيف والظلمة (1مل 8: 12) وفي المكان المقدَّس كل التقديس... فالرب هو الإله القدوس... الذي لا يدركه بشر، والذي يطلب من شعبه قداسة وطهارة كاملتين"(3).
جـ- حمل بنو إسرائيل التابوت ونزلوا إلى ساحة المعركة وهتفوا هتافًا عظيمًا حتى ارتجت الأرض وأرتعب الفلسطينيون قائلين: "ويل لنا... ويل لنا من ينقذنا من يد هؤلاء الآلهة القادرين. هؤلاء هم الآلهة الذي ضربوا مصر بجميع الضربات في البرية" (1صم 4: 7، 8)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وللأسف الشديد لم يكن لدى الإسرائيليين هيبة التابوت التي للفلسطينيين، لم يتركوا خطاياهم ونجاسات قلوبهم، ولم يستغيثوا بالسماء، ولذلك سمح الله لهم بهذه الهزيمة النكراء، وسلب الفلسطينيون تابوت العهد وقتلوا حَمَلَته... أسرع رجل بنياميني من ساحة المعركة على بُعد نحو 20 ميلًا، فوصل إلى شيلو والمأساة على محياه، فكانت الصدمة للجميع ولاسيما على رئيس الكهنة الذي عندما سمع بموت ولديه، وبالأكثر أخذ تابوت العهد "سقط عن الكرسي إلى جانب الباب فانكسرت رقبته ومات" (1صم 4: 18) وزوجة ابنه فينحاس فاجأها المخاض فولدت و" دعت الصبي أيخابود قائلة قد زال المجد من إسرائيل" (1صم 4: 21) وظلت هذه المأساة يذكرها الشعب لأجيال طويلة حتى قال المرنم فيما بعد: "سمع الله فغضب ورذل إسرائيل جدًا. ورفض مسكن شيلو. الخيمة التي نصبها بين الناس. وسلَّم للسبي عزَّهُ وجلاله ليد العدو" (مز 78: 59-61) وقال الله على لسان أرميا النبي: "أذهبوا إلى موضعي الذي في شيلو الذي أسكنت فيه اسمي أولًا وانظروا ما صنعت به من أجل شر شعبي إسرائيل" (ار 7: 12).
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 268، 269.
(2) التاريخ الاشتراعي - تفسير أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك ص 256.
(3) تاريخ الاشتراعي - تفسير أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك ص 253، 254.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1084.html
تقصير الرابط:
tak.la/59ycym4