ويقول " محمد قاسم": "لاحظ اهتمام كتبة التوراة بمكان دفن الموتى. ورغم أن كاتب قصة يفتاح قد أسهب في سرد تفاصيل المراسلات، وانتقاء المحاربين، وعدد القتلى، حتى احتلت القصة أربع صفحات، إلاَّ أنه لا يعرف مكان دفنه"(2).
ج: 1- عندما كان بنو إسرائيل في عربات موآب قبل دخول أرض كنعان أمر الله موسى وألعازار بن هرون أن يحصوا الجماعة من ابن عشرين سنة فصاعدًا " هذه عشائر بني أفرايم حسب عددهم اثنان وثلاثون ألفًا وخمس مئة" (عد 26: 37) ومر زمن طويل على هذا التعداد نحو مائتين وخمسين سنة، فلك أن تتخيل كم سيتضاعف العدد في هذه المدة الطويلة في أرض تفيض لبنًا وعسلًا، فلا يوجد وجه للمقارنة بين تعداد أُجري أيام موسى وتعداد آخر في أيام يفتاح.
2- الذي رفع عدد قتلى بني أفرايم، أن الذين خرجوا لمقاتلة يفتاح ليس الشباب فقط، بل والرجال المسنين، وأيضًا الشباب الذين يقل عمرهم عن عشرين سنة.
3- أ - استكان بنو أفرايم لعبودية بني عمون، فلم يتحرك منهم رجلًا ليحرر الشعب، وعندما هب يفتاح ليخلص الشعب من قبضة بني عمون، طلب معونة بني أفرايم فلم يلتفتوا إليه، وهذا ما قاله لهم يفتاح "ناديتكم فلم تخلصوني من يدهم" (قض 12: 2).
ب- عندما امتنع بنو أفرايم عن مساعدة يفتاح، ما كان منه إلاَّ أنه خاطر بحياته من أجل نجاة شعبه، فقال " ولما رأيت أنكم لا تخلصون وضعت نفسي في يدي وعبرت إلى بني عمون فدفعهم الرب ليدي" (قض 12: 3).
جـ- صعد بنو أفرايم لا ليعاتبوا يفتاح كما فعلوا من قبل مع جدعون، إنما أرادوا أن يحرقوه وأهل بيته بالنار قائلين " نحرق بيتك عليك بنار" (قض 12: 1) وهو قال لهم " لماذا صعدتم عليَّ اليوم هذا لمحاربتي؟" (قض 12: 13) فقط اتبع معهم أولًا أسلوب الحوار كما فعل مع بني عمون، ولكن هذا الأسلوب لم يجدي مع بني عمون ولا مع بني أفرايم، فلم يجيبوه، بل ردوا عليه بسخرية قائلين " أنتم منفلتوا أفرايم " أي أنكم مجرد حفنة رجال انسلختم من سبط أفرايم، فأنتم المطاريد الهاربين من العدالة، حثالة أفرايم، فكان أهل أفرايم السبب الرئيسي في نشوب القتال.
ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "منفلتوا أفرايم: معناها الظاهر أن يفتاح والجلعاديين هم جماعة الهاربين من سبط أفرايم، ولكن المعنى المقصود أنهم حثالة رجال أفرايم، وفئة من الرعاة المتشردين الأوباش لا مكانة ولا قيمة لهم في المجتمع... إنهم يوجهون القول إلى الجلعاديين، ويقولون لهم: أنكم يا معشر الجلعاديين تظنون أنفسكم شيئًا وقد نسيتم أصلكم، فما أنتم إلاَّ فئة وضيعة من أحقر الناس في سبط أفرايم، وكما كنتم منبوذين ومرذولين من السبط هربتم وأقمتم في هذه البقعة الواقعة بين أراضي أفرايم ومنسى... ولم تجرؤوا لا أن تقيموا في أرض أفرايم ولا في أرض منسى، لأنكم فئة ضائعة منبوذة"(3).
د - إذا كانت نفس يفتاح مرة جدًا بسبب فقدانه لابنته الوحيدة، لم يكن لديه صبر ليمدحهم كما مدحهم جدعون، إنما جمع رجال جلعاد وحاربهم، وجاء في " كتاب السنن القويم": "فلماذا صعدتم عليَّ اليوم هذا لمحاربتي: أي إذ كان الله سرُّ بأن ينصرني دونكم واتخذني آلة لإعلان مجده فما الذي ضركم مني حتى قمتم عليَّ، وأي شيء مني حملكم على محاربتي. وكان لسان حال يفتاح هنا يقول {أيها الظالمون أتيتم لمعاداة الله لا لمعاداتي، وكان لي أن أشكوكم وأذمَّكم لأني استغثتكم وأنتم أخوتي فخذلتموني وأنا سكتُ عن الشكوى وعن الذمة. فكان عليكم أن تندموا على ما فعلتم، وتشكروا الله على نصره للإسرائيليين وأنتم بمعزل عن التعب والخطر. فأنتم أخطأتم إلى الله وإلى أخوتكم وتعدَّيتم وظلمتم. وفوق ذلك تريدون أن تصلوا نار الحرب الأهلية وتقاتلوا الأخوة بدلًا من أن تقاتلوا الأعداء} ولكن بني أفرايم لشرهم وكبريائهم أبوا السلم فاضطر يفتاح إلى قتالهم"(4).
هـ- لم يخرج بنو أفرايم للحرب بالرغم من دعوة يفتاح لهم بالمشاركة، مما أثار غضب الجلعاديين الذين لم يغفروا لهم هذا التقصير واحتقروهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعندما خاض بنو أفرايم الحرب ضد الجلعاديين، وتصدى لهم يفتاح وألحق بهم هزيمة نكراء وشتت جنودهم، وقف أهل جلعاد عند معابر الأردن، أي الأماكن التي يعبرون منها الأردن بسبب انخفاض مستوى المياه ولذلك دُعيت بالمخاوض، وكلما جاء واحد من بني أفرايم الشاردين من المعركة يسألونه عن سبطه فإن أنكر أنه من سبط أفرايم كانوا يقولون له قل " شبولت " أي " سنبلة " أو " مجرى" (أش 27: 12) ولأن بني أفرايم ينطقون الشين سين، لذلك لا يتحفظون ويقولون "سبولت" فيذبحونه، فهذه المذبحة التي ارتكبها الجلعاديون على مخاوض الأردن، ربما جرت بعيدًا عن أعين يفتاح " فأخذ الجلعاديون مخاوض الأردن لأفرايم... فسقط في ذلك الوقت من أفرايم إثنان وأربعون ألفًا (قض 11: 5، 6) وإن كان أحد لا يقدر أن يعفي يفتاح من المسئولية، ونعود ونقول أن يفتاح ليس معصومًا من الخطأ، والكتاب المقدَّس سجل الأحداث كما جرت، ولأن الجريمة واضحة وبشعة فهي محكوم عليها من ذاتها، ولم نحتاج لحكم الكتاب المقدَّس عليها.
4- اعتبر بولس الرسول يفتاح بطلًا من أبطال الإيمان ليس لأنه قدم ابنته ذبيحة بشرية، وليس لأنه اشتبك في قتال مع أفرايم وذبح منهم 42 ألف رجل (مع أن بني أفرايم هم الذين شرعوا في قتاله أولًا) ولكن بولس الرسول دعى يفتاح بطلًا، لأنه وهو مطرود من أخوته، وقد حرموه من ميراث أبيه، عندما التجأوا إليه ليخلص الشعب لم يتقاعس ولم يتردد. وأيضًا كان إيمان يفتاح بالله عظيمًا، فقد عرض المشكلة أمام الله، وهو يدرك جيدًا أن النصرة هي من عنده، لذلك قال " إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي.." (قض 11: 9) فهو يرجع النصرة لله. كما أن " يفتاح " لم يتسرع في دق طبول الحرب، بل أرسل رسلًا ليتفاوض مع ملك عمون ويحل المشكلة سلميًا... إلخ من أجل كل هذه الأمور الحسنة وغيرها التي توفرت في يفتاح لذلك احتسبه بولس الرسول بحق أنه بطل من أبطال الإيمان.
5- جاء في سفر القضاة " وقضى يفتاح لإسرائيل ست سنوات. ومات يفتاح الجلعادي ودُفن في إحدى مدن جلعاد" (قض 12: 7) إذًا لم يغفل السفر إغفالًا تامًا مكان دفن يفتاح، فقال " ودُفن في إحدى مدن جلعاد " وإن كان لم يحدد بدقة أي مدينة دُفن فيها، وفي الغالب دُفن في مدينته (مصفاة جلعاد). ولسنا نظن أن مكان دفن يفتاح بالضبط أمرًا خطيرًا، كان لا يجب التغاضي عنه، ولا يمكن أن يكون هذا سببًا للتشكيك في مصداقية القصة بكل أحداثها المثيرة والتي ذكرها الكتاب بكل تفصيلاتها.
_____
(1) البهريز جـ 1 س 373.
(2) التناقض في تواريخ وأحداث التوراة ص 318.
(3) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر القضاة ص 180، 181.
(4) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 3 ص 336.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1022.html
تقصير الرابط:
tak.la/n46dz7s