· كان لقاء الرب مع يهوذا الخائن لقاءً قاسيًا.
· وكانت خيانة البشرية للمُخلِّص الآتي لفدائِها قاسية.
· وجاء حِقْد حنان وقيافا الجالسَين على كرسي رئاسة الكهنوت العليا أمرًا غريبًا وقاسيًا.
· أما الأكثر قسوة وأشد غرابة، فهو ما فعله قديس العهد الجديد مار بطرس الرسول مع معلمه، وهو تلميذٌ محبوبٌ مختارٌ قريبٌ من الرب. ففي الوقت العصيب، بينما كان الرب يُحاكَم تلك المحاكمة الظالمة أمام قيافا ومجمع السنهدريم، كان تلميذه، أحد أعمدة الكنيسة الثلاثة، ينكره إنكارًا ثلاثيًا كاملًا، ولا يتراجع، بل بالأحرى ينمو في إنكاره.
فخارج أبواب بُستان جثسيماني، حيث قُبض على الرب، كانت خيانة التلاميذ؛ إذ تركوا سيِّدَهم وهربوا. أما القديسان بطرس ويوحنا فتبعا الرب من بعيد. وخجلَا من الهروب، وذهبا إلى دار حنان يتابعان الأحداث.
وإذ كان يوحنا «مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ.» (يو18: 15) حيث يُحاكم الرب، وعاش خُطوةً خُطوة مع سيِّدِه، حتى الصليب. وتحت الصليب وقف وحده، كالرسول الوحيد في ذلك الوقت، والكاهن الوحيد من البشر الذي ينوب عنا.
أما مار بطرس فقد أنكر سيده ثلاث مرات حتى صاح الديك مرتين:
متى |
مرقس |
لوقا |
يوحنا |
|
صياح الديك |
(مت 69:26-70) (مت 71:26-72) (مت 73:26-74) (مت 74:26-75) |
(مر 66:14-68) (مر 69:14-70) (مر 70:14-72) (مر 72:14) |
(لو 55:22-57) (لو 58:22) (لو 59:22-60) (لو 59:22-60) |
(يو 17:18) (يو 25:18) (يو 26:18-27)
|
خارجًا في العراء في دار رئيس الكهنة، قُرب الفجر، ومع الذين يَصطلون، وقف بطرس الرسول يستدفئ (مرقس14: 67)، مختبئًا بينهم لعل أحدًا لا يعرفه. وفي شجاعة غير كاملة، دخل بقدميه عرين الأسد. في الفناء المكشوف الذي تُحيطه حجرات دار رئيس الكهنة، حيث يدخل ويخرج رئيس الكهنة والكهنة والكتبة وشيوخ الشعب المتآمرون على الرب يسوع، والجنود وكثير من الشعب الخائن. وتحقق كلام الرب لمار بطرس: «قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» (مرقس14: 30)
فقد صَاحَ الدِّيكُ بعد الإنكار الأول، وبعد الإنكار الثالث.
الإنكار الأوَّل: أمام الجارية. التي قالت لبطرس وهو يستدفئ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!»
فأنكر قائلًا: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» «فَصَاحَ الدِّيكُ.»
الإنكار الثاني: أمام الجارية. التي قالت للحاضرين: «إنَّ هذَا مِنْهُمْ»، «فأَنْكَرَ أَيْضًا». والخَدَم الذين عرفوا صِلَة مار بطرس بالمسيح من جارية أُخرى كانت بوابة على الباب الخارجي المؤدي إلى الدهليز، فَقَالُوا لَهُ: «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ؟» (يو25:18).
وعلى الرغم من ذلك صَمَد مار بطرس دون هرُوب، وحاول الاختفاء، فوقف يصطلي بين الناس.
الإنكار الثالث: أمام الحاضرين. الذين قالوا: «"حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!" فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: "إنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ". فَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً».
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(مت69:26) |
(مر66:14-67) |
(لو56:22) |
(يو17:18) |
أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: "وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ"! |
وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ، جَاءَتْ إحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إلَيْهِ وَقَالَتْ: "وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ". |
فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِسًا عِنْدَ النَّارِ. فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ: "وَهَذَا كَانَ مَعَهُ". |
فقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ "أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِ هذَا الإنْسَانِ"؟ |
هذا الإنكار الأول: أمام الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ، وهي إحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، [اتفقت فيه الأناجيل في أُمُوره الجوهرية. فكتب البشيرون كُلٌّ مُستقلٌّ عن الآخَر، مما يُثبت صِدق الرواية. فذكروا أمورًا يُكَمِّل كلٌّ منهم الآخَر. فالإنكار حدث قُرب النار في الفِناء وسط الدار، دار رئيس الكهنة، حيث سألته الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ، وفي هذا يتفق البشيرون.][214]
أراد مار بطرس أن يَحسِبه الناس واحدًا من الذين أتَوْا بيسوع إلى دار الولاية، ولا يُعرَف كتلميذِ الناصري. بينما سُمِح لمار يوحنا المعروف باسمه وَصِفتِه أن يدخل معه إلى قاعة المحاكمة.
ولما أشرق نور الصباح، كان بطرس عِنْدَ الْبَابِ خارجًا في الدار، فاصطادته «الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ» (يو18: 17) ورأته «فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ» (لوقا22: 56) «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ» (مر67:14) «الْجَلِيلِيِّ!» (مت69:26)، لذلك اتجهت إليه الأنظار.
(متى70:26) |
(مر68:14) |
(لو57:22) |
(يو17:18) |
فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلًا: "لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ"! |
فَأَنْكَرَ قَائِلًا: لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ! |
فَأَنْكَرَهُ قَائِلًا: "لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ! |
قَالَ ذَاكَ: "لَسْتُ أَنَا"! |
أما الجارية البوابة، وباليونانية παιδίσκη :
وتعني [امرأة خادمة. وفي الترجمة السريانية والحبشية الفتاة الخادمة ابنة البواب.][215]
«فقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: "أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِ هذَا الإنْسَانِ"؟» (يو18: 17).
ولم يَفِر مار بطرس هاربًا في جُنح الظلام بعد هذا الموقف، بل كانت تتنازعه الشجاعة والخوف،
تتصارعان معًا داخله بشدة. فمحبته العميقة للرب تُبقِيه في ميدان الصراع، وقد غلب وبقِيَ دون أن يهرب؛ ليتابع ما يحدث للمسيح. ولكنه ضعف وخاف وأنكر قائلًا:
«لَسْتُ أَنَا!» (يو17:18): [وباليونانية οὐκ εἰμί وهو إنكار قاطع، ضد عبارة المسيح: أنا هوἘγώ εἰμι. فبينما يعترف المسيح مُعلِنًا عن شخصه، ينكره بطرس تمامًا. وعلى أي حال، يظل إنكار مار بطرس شهادة لرغبته الحارة في أن يبقى مع المسيح.][216]
فماذا تعني عبارة: «أَنَا هُوَἐγώ εἰμι, »؟
المعنى الأَوَّل: أنه أعلن لمن جاءوا للقبض عليه أنه «يَسُوع النَّاصِرِيّ»، فعرَّفهم هُوِيَّتَه البشرية.
والمعنى الثاني: الأكثر عُمقًا أنه أعلن عن هُوِيَّته اللاهوتية، لهم ولنا. [فالتعبير «أَنَا هُوَ» له مدلوله القوي
وقد عَرَّف به الله نفسه في العهد القديم مُعلنًا عن أُلوهيته، ويعنى:"أَنَا هُوَ الكائن الدائم"، وأدرك اليهود هذا فرَجَعُوا إلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ (يو6:18).][217]
وشرح الرب أهمية هذه العبارة ليس فقط لتأكيد ألوهيته بل لحياة المؤمنين باسمه. إذ قال «إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا «أَنِّي أَنَا هُوَ» تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يوحنا8: 24)، فيُظهِر أن عبارة «أَنَا هُوَ» هي موضوع إيماننا. ولذلك قال القديس كيرلس الكبير: [ كلمات المسيح ظهر منها جلال أُلوهيته. فإذ أظهر نفسه للذين يطلبونه، قال لهم: «أَنَا هُوَ» فسقطوا على الأرض؛ لِكَيْ يتعلموا كيف لا تستطيع المخلوقات أن تحتمل كلمة واحدة منه، حتى إن قيلت بوداعة، فماذا عن التي يقول عنها المزمور «أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟» (مزمور 76: 7).][218] [وكأن العبارة تُصدِر وَميضًا غير مرئي من البَرق صعقهم وأسقطهم على وجوههم؛ فهذا اسم لاهوته غير المدرك.][219] وبعبارةٍ واحدة ترَنَّحت قوة الرومان، وأمست طريحة عند قدميه.
وفي إنكارٍ قال مار بطرس للجارية البوابة: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» (مر68:14). أما هي فكانت قوية مُلِحة في كلامها «وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: "إنَّ هذَا مِنْهُمْ"!» (مر69:14) حتى قال مار بطرس في خوف: «لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ» (لو 57:22).
الرب يسوع يسمع:
[ كانت محاكمة الرب يسوع أمام حنان في حُجرة قريبة من حُجرة قيافا داخل دار رئيس الكَهنة؛
لذلك سمع الرب يَسوع الحَديث الذي دار حَول النار، بَينما هو يتحرك من حُجرة إلى أُخرى.وسَمع صوت الإنكار، والتَفت إلى بُطرس بنظرةٍ هَزَّتهُ.][220]
«فَصَاحَ الدِّيكُ»: بعدما أَنْكَر مار بطرس إنكاره الأول، أمام الْجَارِيَة الْبَوَّابَة.
«وخَرَجَ خَارِجًا إلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ (مر68:14)، وكانت هذه هي الصيحة الأولى.
عاد مار بطرس؛ ليتابع المحاكمة أمام قيافا، في نفس المكان. فوَجد الناس لا يزالون يجلسون حول النار المشتعلة يستدفئون. فاِختبَأ بينهم، لا ليستدفئ جسديًا فحسب، بل ليُخفِي بُرودة محبتِه التي عاتَبه من أجلها ربُّ المجد فيما بعد (يو21: 15-17).
وإذْ خَرَجَ إلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ البوابة الأُخْرَى فرفعت صوتها قائلة: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» (مت71:26). وَانْهار مار بطرس، الجبلُ العالي وانكشف خَوفه وكَذِبه وإنكاره، بل وقَسَمه وأجاب: «لَسْتُ أَنَا!» (يو25:18).
(مت 72،71:26) |
(مر68:14-70) |
(لو58:22) |
(يو25:18) |
ثُمَّ إذْ خَرَجَ إلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: "وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ"! فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: "إنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ"! |
وَخَرَجَ خَارِجًا إلَى الدِّهْلِيزِ،... فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: "إنَّ هذَا مِنْهُمْ". فأَنْكَرَ أَيْضًا. |
وَبَعْدَ قَلِيل رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: "وَأَنْتَ مِنْهُمْ"! فَقَالَ بُطْرُسُ: "يَا إنْسَانُ لَسْتُ أَنَا". |
وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفًا يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: "أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ"؟ فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: "لَسْتُ أَنَا!". |
تعود بنا هذه الأعداد إلى (يو18:18) حيث يقول: «وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفًا مَعَهُمْ يَصْطَلِي.» ومنها نستنتج أن المحاكمتَين أمام حنان، وأمام قيافا كانتا في مِنطَقة واحدة يَفصِلهما فِناءٌ فسيح.
ونستنتج أن الثلاث مرات التي أنكر فيها مار بطرس سَيدَه مُتقاربة في الزمان والمكان، بل وأمام ذات الأشخاص مع فارق بسيط في المناسبة، ويُؤيد هذا الأب متى المسكين فيقول: [يبدو أن قصر حنان كان مكان اجتماع رِئَاسة الْكَهَنَةِ، خاصة وأنه تَوَلى رِئاسة الْكَهَنَةِ أولاده من بَعدِه. وقيافا أيضًا وقد تَزوج بنت حنان، فقد كان من الطبيعي أن يَبقى مَقر اجتماع رِئَاسة الْكَهَنَةِ كما هو في دار حنان حَمِيِّه. وهذا يوضح كيف تمت المحاكمتان الأولى والثانية دون أن ينتقل المسيح خارج الدار. كما يتضح لنا بالأكثر كيف أن بطرس بقِيَ في موضعه في الطابق السُّفلِي، حتى أكمل إنكاره ثلاث مرات، دون أن ينتقل خارج الدار][221].
مشكلة: حول المكان الذي كان فيه بطرس وقت الإنكار:
يتفق البشيرون الأربعة في أن الإنكار الثاني حدث في الدار حيث كانوا يستدفئون.
ويتفق متى ومرقس أن مار بطرس خرج إلى الدهليز حيث أنكر مرة ثانية، أما لوقا ويوحنا فلم يذكرا المكان، ولكنهما يتفقان بذكر الإنكار الثاني ولو لم يُعَيِّنا مكانه.
وإذ أشار القديس مرقس إلى أن جارية سألت مار بطرس، والقديس متى يتكلم عن جارية أخرى (مت71:26). والقديس لوقا يقول «رَآهُ آخَرُ» (لو58:22)، فمار يوحنا يُجْمِلُ هذا كله قائلًا: «فَقَالُوا لَهُ» (يو25:18).
ونحن لا نرى خِلافًا؛ [لأن مار بطرس تَجَمَّعَ علَيْهِ مجموعة من الناس، الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ، وجارية أُخْرَى ونساءٌ ورجال، وكل واحد منهم قال إن مار بطرس كان مع يسوع. والأناجيل سجلت بعض هذه المواجهات، ورد فعل مار بطرس مع كل من وَاجَهَه.][222]
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(مت 73:26-74) |
(مر70:14-71) |
(لو59:22-60) |
(يو 26:18-27) |
وَبَعْدَ قَلِيل جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: "حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ"! فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: "إنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ". |
وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: "حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ"! فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ "إنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ". |
وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلًا: "بِالْحَقِّ إنَّ هذَا أَيْضًا كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا"! فَقَالَ بُطْرُسُ: "يَا إنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ"!. |
قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ: "أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ"؟ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضًا. |
«وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» (لو59:22)، وَفِي نفس الدار، فجأةً! انْبَرَى لِبطرس رَجُلٌ تَابَعَه في البستان، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ ملخُس الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ قائلًا: «أمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ؟» (يو26:18). والحاضرون قالوا: «حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ» (مت73:26) لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُم» (مر70:14).
[ فمَرَتان أُخرَيان يُمنَح بطرس فرصة تعريف نفسه كأحد أتباع يسوع ويرفض مجددًا، مستوفيًا تنبؤات يسوع في هذا الجزء من القصة.][223]
كانت هذه فرصة لمار بطرس، بعد أن قَاسَى عذابًا داخلِيًا من ثورة الضمير والشعور بخطئه المتكرر، ليرجع إلى نفسه، ويُصَحِّح مسيرته. ويَمسَح إنكاره ويعترف بسَيدِه، وهو الآن أمام رجُل صنع الرب مع قريبه معجزة، وعمل رحمة ومحبة. وَقد سبق أن قال مار بطرس: «َإنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا». (متى33:26) «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» (متى35:26).
أنكر مرتين، ونبَّهه مُعلِّمُه: ستنكرني ثلاث مرات. فليستيقظِ الآن، ويُوقِف نزيف الخطية، لكن مار بطرس بكل أَسفٍ كان يتدرَّج في سقوطه، حتى صَاحَ الدِّيكُ للمرة الثالثة.
وسقط مار بطرس وكان سقوطه عظيمًا، وقال: «يَا إنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ» (لو60:22) «وابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ ويقول: "إنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ (مت74:26) الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ"!» (مرقس71:14).
وعندما قالوا له: «لُغَتُكَ تُظْهِرُكَ»[224] غَيَّرَ لُغَتَهُ[225]. وَبَدلًا من أن يُبارِك، حلَف ولَعَن.
وفي هذه اللحظات، خرج الرب من مُحاكمته الثالثة أمام مجمع السنهدريم. وجاء وسط الجنود، وهبط إلى الفِناء المكشوف، وكان قريبًا من دار رَئِيسِ الْكَهَنَةِ؛ حيث أمكن للسيد المسيح أن ينظر إليه «فَالْتَفَتَ الرَّبُّ
وَنَظَرَ إلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ.» (لو61:22).
ماذا فعل مار بطرس أمام عيني المسيح الناريتين اللتَين تخترقان أستار الظلام، المملوءتين حُبًّا وحُنوًا، مع هيبةٍ ورهبة. نارُهُما تُرعب، وحُنُوُّهُما يُرعِب أكثر. ماذا عن اللعن والقَسَم الذي لا يزال في فمه. والإنكار والكذب؛ هل تجمَّدتِ الكلماتُ في فمه؟!
مشكلة: مَن وَجَّهَ الاتهام لمار بطرس أنه من أتباع يسوع؟:
يُشير القديس إيرينيموس لهذه المشكلة فيقول: [تختلف بيانات الكنيسة فيما بينها ومع يوحنا، وربَط الإنكار بظروف واستبيانات مختلفة. الاختلافات هي كما هو مُتوقَّع في النَّقل الشفهي للأحداث؛ من غير المُحتَمل أن يكون أي من الإنجيليين كان شاهد عيان على ما تم تسجيله في هذا الجزء الخاص من الإنجيل.][226]
في الإنكار الثالث اتفق البشيرون. فقال مار متى: «جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ» (مت73:26)، وقال مار مرقس: «قَالَ الْحَاضِرُونَ» (مر7:14)، ومار لوقا قال: «وَأَكَّدَ آخَرٌ» (لو59:22).
أما مار يوحنا فيُحدِّده «وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ» (يو26:18). وهكذا [يبدو أن البشيرين مع أنهم يشيرون إلى أشخاص مختلفين، إلا أنهم لا يتناقضون! فإذا افترضنا وجود عِدة أشخاص، وكلٌّ منهم سأل بطرس تزول الصعوبة.][227] فالْقِيَامُ عند القديس متى هم الْحَاضِرُونَ عند مار مرقس، و«الآخَرٌ» عند مار لوقا وهو «الواحِد مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ» عند مار يوحنا، فهو ضِمن الحاضرين.
يقول القديس بطرس السدمنتي: [إن هدف الإنجيليين في هذا الموضوع، ليس تحديد الأشخاص الذين وجَّهوا الأسئلة إلى القديس بطرس الرسول، بل تسجيل نتيجة هذه الأسئلة. وهذا يتضح من استخدامهم لكلمات لا تدل على شخصيات محددة مثل «القيام»، «آخَر»، «واحد»، «جارية أُخرى»][228]. [فالإنجيليون اهتموا، لا بتحديد الأشخاص الذين سألوا مار بطرس بدقة، بل بإنكار هذا التلميذ المأسَوِي لعلاقته بالرب يسوع، في اللحظة التي كان فيها سيده ومُعلِّمه يعترف أمام المجمع الكبير، بأنه هو المسيا.][229]
كان القديس يوحنا قريبًا من سيده، فلم يَعزِل نفسه عنه، فلم يسقط. قَدَّم نفْسَه على حقيقتها، تابعًا للمسيح، فاستطاع أن يقترب منه طول الطريق. أما بطرس فلم يُرِد أن يَعرِف أحدٌ صِلتَه بالمسيح، فهَوى تدريجيًا إلى الإنكار. كان يظن أنه يمكن أن يخالط الأشرار، ويستدفئ بينهم وينجو، فوضع نفْسَه في طريق الخطاة، ومجلس المستهزئين، فسقط معهم، وكان سقوطه عظيمًا.
حاول مار بطرس أن يُخفِي اهتمامه بمحاكمة سيده، فتعذبت نفسه داخله، وهو يسمع ويرى الإهانات تنهال على سيده: «تَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ.» (مز9:69، رو3:15).
_____
[214]د. موريس تاوضروس، محاضرات على قناة ME Sat.
[215]القديس كِيرِلُّس الإسكندري، آلام المسيح وقيامته في إنجيل القديس يوحنا، ترجمة د. جورج حبيب بباوي، مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة أولى 1977م، ص35.
[216]القديس كِيرِلُّس الإسكندري، آلام المسيح وقيامته في إنجيل القديس يوحنا، ترجمة د. جورج حبيب بباوي، مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة أولى 1977م، ص26.
[217]د. موريس تاوضروس، محاضرات على قناة ME Sat.
[218]القديس كِيرِلُّس الإسكندري، آلام المسيح وقيامته في إنجيل القديس يوحنا، ترجمة د. جورج حبيب بباوي، مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة أولى 1977م، ص14.
[219]ف. و. كروماخر، المخلص المتألم، تعريب فؤاد حبيب، لجنة خلاص النفوس للنشر، طبعة 1962م، ص29.
[220]القس سمعان كلهون، اتفاق البشيرين ودليل المُسترشدين، بيروت 1876م، ص574.
[221]الأب متى المسكين، تفسير إنجيل يوحنا: ج2، دير القديس أنبا مقار، طبعة أولى 1990م، ص1131.
[222]د. موريس تاوضروس، محاضرات على قناة ME Sat.
[223]"Twice again Peter is given the opportunity of identifying himself with Jesus' followers, and twice again he refuses, fulfilling the prediction of Jesus. In this part of the story." Brown, Raymond E., Joseph A. Fitzmyer, and Roland E. Murphy. The Jerome Biblical Commentary, Prentice-Hall 1968, p.458.
[224]المقصود هنا أن لهجته الجليلية تُظهره أنه من أتباع المسيح.
[225]غيَّر لُغَته كخادم المسيح.
[226]"The Synagogue versions vary among themselves and with John, associating the denials with different circumstances and questionnaires. The variations are such as would be expected in oral transmission of events; it is unlikely that any one Evangelists was an eyewitness to what is recorded in this particular part of the Gospel."
Brown, Raymond E., Joseph A. Fitzmyer, and Roland E. Murphy. The Jerome Biblical Commentary, Prentice-Hall 1968, p. 458.
[227]القس سمعان كلهون، اتفاق البشيرين ودليل المُسترشدين، طبعة أولى، بيروت 1876م، ص574.
[228]القديس بطرس السدمنتي، القول الصحيح في آلام المسيح، تنقيح القمص يوحنا المقاري وشنوده عبد السيد، سنة 1926م، ص292 و293.
[229]د. القس صموئيل وهبة، آلام المسيح وقيامته: ج2، مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة، طبعة أولى 2004م، ص107.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/trials-of-jesus/peter-denial.html
تقصير الرابط:
tak.la/4h2wxz4