«فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ» (يوحنا16:19).
[كانت عادة اليهود أن يسوقوا المحكوم عليهم إلى خارج المدينة لمعاقبتهم. فالذي يذهب ليَحتَطِب في السبت، قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى عنه: «قَتْلًا يُقْتَلُ الرَّجُلُ. يَرْجُمُهُ بِحِجَارَةٍ كُلُّ الْجَمَاعَةِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. فَأَخْرَجَهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ إلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ، فَمَاتَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى.» (عدد36:15). كذلك فعلوا بنابوت اليزرعيلي (1مل13:21)، وباستفانوس (أعمال58:7)، «لِذلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ.» (عب12:13)][300]
لذلك خرج الرب يسوع من باب الولاية، وعلى كتفيه الداميتين حمل صليبًا، يقول التقليد: [إنه لم يستطع حمْلَه إلاَّ إلى باب المدينة، إذ يقول القديس متى: «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ» (مت 32:27). فقد صار الرب فِي حالة إعياءٍ وألمٍ، فمُنذُ الفِصح لم يَقُلِ الكتابُ أنه ذاق شيئًا أو شرب.][301].
(مت31:27) |
(مر25:15) |
(لو26:23) |
(يوحنا16:19) |
وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. |
ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ... وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. |
وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ. |
فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ. |
كان الرب قد تحرك بين حنان وقيافا، ومجمع السنهدريم. كما بين بيلاطس وهيرودس، الذي أعاده ثانيًة إلى بيلاطس، وفي كل هذا انهالت عليه ألْوان السخرية والإهانة والاستهزاء.
و[كان جسده المُتهالك من الحزن، والآلام الروحية والنفسية، من جسامة الخطية التي حملها، والمتهالك من السياط والدم المسفوك، لم يستطِع بطبيعته البشرية أن يحتمل أكثر. فسقط تحت الصليب.][302] [ويُقال إن المسيح سقط ثلاث مرات في هذا الطريق الضيِّق المُمتَد من قلعة أنطونيا عبر الطريق المرتفع، والذي يُقال له: جبَّاثا أي البلاط إلى خارج المدينة. وكان مقرَّرًا أن يعبر في كل الطرق المهمة في المدينة.][303] ولم تستيقظ شفقة الجنود، بل ثارت ثورتهم، فانهالوا عليه رَكْلًا بالأقدام وضَربًا بالسياط. وما نظر لهم يسوع بغضب، بل في صمتٍ قام يحمل صَليبه مُحاوِلًا السير، لكنه سقط وسُمِع صوت أنينه، حتى أدرك الذين حملوا مُهِمَة تنفيذ صلبه أنَّه غيرُ قادرٍ على الاستمرار. فبحثوا عن من يُحَملونّه ذلك العبءَ المُذِل. وهل يَقبل أحدٌ أن يتنجس بحمل الصليب، فيُحرَم من مُمارسة الفِصح؟ كان عَرَقُه يتصبب مُختلطًا بدمه، فرأسه مجروح بالأشواك، وظهره مُنهَكٌ بالجلدات. وهل فتحتِ الأرض فاها وشربت هذه الدماء القدوسة؟!
أين سمعان ابن يونا الآن؟! ألم يقل: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» (مت35:26) لا تمُتْ مَعَه، بل فقطِ احْمِلِ الصليب عنه، ولكن سِمعانًا آخَر، هو سمعان القيرواني ظهر ليَحمِلَه.
(مت 32:27) |
(مرقس20:15) |
(لو26:23) |
وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. |
فَسَخَّرُوا رَجُلًا مُجْتَازًا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. |
وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلًا قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. |
تبِعَت جماهيرُ الشعب الرب يسوع، في طريقه من دار القضاء إلى الجلجثة، فذاع نبأ صلْبه فِي أورشليم كلها. وتقاطرتِ الجماهير من كل الطبقات. وَفِي هذه اللحظات ظهر سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ. فأمسكوه، «وسَخَّرُوهُ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ.»
كان هذا القَيْرَوَانِي رَمزًا لِاشتراك الأُمم في صَلِيب المسيح، فلم يكن يهوديًا ولا إسرائيليًا. وكأنه يُمثِّل كنيسة العهد الجديد التي صار لها صَلِيبُ المسيح مجدًا لا عارًا. وبينما كان اليهود ثائرين ضد الرب، كان هذا الغريب خادمًا للمسيح يذوق شركة آلامه.
حَمِلَ الرب صَلِيبَهُ ليُذبَح كحَمَلٍ بلا عيب، لا في الهيكل الذي سيَنْشقُّ حِجابُه بعد قليل، وتَبطُل العبادة فيه، ولا في المدينة التي حَكم عليها ربُّ المجد بالدمار بسبب شَرِّها، بل خارج أسوار أورشليم، «لِذلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إذَنْ إلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ» (عب12:13).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
يقول مار يوحنا الحبيب: «فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ» وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ «جُلْجُثَةُ» حَيْثُ صَلَبُوهُ» (يوحنا19: 17،16).
بينما يقول مار لوقا: «أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلًا قَيْرَوَانِيًّا... وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ». (لو26:23). [خَرَجَ الرب وَهُوَ «حَامِلٌ صَلِيبَهُ» إلَى «مَوْضِع الْجُمْجُمَةِ» ليُصلَب هناك. ولعله من تَعَبِه سقط تحت ثِقَل الصليب. وإذ صادفوا في الطريق سِمْعَان القَيْرَوَانِي سَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.][304] على نحو ما يقول القديس كيرلس الإسكندري. ثُم يُكمل العلامة أوريجينوس: [ كان مناسبًا أن لا يَحمِل المُخَلِّص صليبه وحده، بل نحمله نحن أيضًا معه مُؤَدِّين خدمة إلزامية لأجل خلاصنا.][305]
كان سِمْعَان القَيْرَوَانِي، الوحيد الذي شارك سَيِّدَه حمْلَ الصليب، وصار نائب البشرية كلِّها في شركة آلامه. حَمَل العرش كالكروبيم، ومشى خلف المُخَلِّص، حمل مذبح المُحرقة المُقدَّس.
مُتممًا كلمته: «مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (مت27:14).
كان حَمْلُ الصليب عارًا؛ فالمصلوب دائمًا هو حامل صليبه لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غل3: 13). فليس أحدٌ يَقبَل حمْل الصليب مختارًا. لذلك أسرع الجنود وأمسكوا سمعان هذا الذي كان مُجتازًا وسَخَّروه (مت32:27).
أما سمعان الذي بدأ رافضًا ومُجبَرا، فحَمَلَ صليب رب المجد وتلامس معه وتَقدَّس بِدَمِه، وفَرِحَ بِحَمْلِه. ثُم [صار تلميذًا للمعلم الأعظم. وصار معروفًا لدى القديس مرقس الرسول، فحدَّد اسمَه وبَلَده واسمَي ابنيه، وذكر كل هذا][306]: «سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ»، لأنه يعرف أن الذين كَتَب لهم إنجيله يعرفونه أيضًا، فقد صار معروفًا بين المؤمنين. وذكر مار بولس في رسالته إلى رومية أحد ابنيه «سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ» (رُومِيَةَ13:16).
ظن العسكر الذين سَخَّروا سمعان أنهم حَمَّلوه عارًا، ولم يعلموا أنهم منحوه مجدًا وفخارًا.
ولم يعلم سمعان القيرواني الآتي من حقله مجتازًا فِي الطريق، أنه دخل التاريخ المجيد من أَوسع أبوابه، والتصق اسمه باسم المُخَلِّص فِي أهم ساعات تجسُّده وآلامه. وسُجِّل اسمُه بأحرفٍ من نور فِي سِجِل الخالدين. فمِنَ الآن طوباك يا سمعان؛ لأنك ستُرافق رب المجد فِي أصعب وأقدس وأمجد الساعات. [ كان سمعان القيرواني غريبًا، سُخِّر لخدمة المُخَلِّص في أمرٍ مُهِينٍ إذ حمَل عارَه، فدخل إلى البُنوة الروحية.][307] ، وكان ينبغي أن تحمل هذا الصليب البشرية الخاطئة كلُّها، طالبةً الفداء. وأنتَ اشتركتَ فِي حمْلِه نيابةً عنا فطوباك. ولْتُطَوِّبْك البشريةُ بأسْرِها.
«وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: "يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ! حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا! لأَنَّهُ إنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ"؟» (لو27:23-31).
استمر المَوكب الذي بدأ من دار الولاية إلى الجلجثة. والرب يسوع محاطًا بالجنود، خلْفُه سمعان القيرواني حاملًا صليبه. وحولهم وخلفهم جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ أكثرهم من المستهزئين. وقليلٌ من الباكين ألمًا. وبينهم سارت جماعة من:
«النِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ» (لو27:23).
وفي اللحظات المؤلمة، اِستمَعَ الرب، لصوتِ بُكاء النِّسوة ومشاعر حُبِّهن. فجنس حواء الذي لامَهُ الكثيرون، بَرهَن على أنه الأكثر شجاعة، [وبينما هرب التلاميذ، بَقِيَتِ النساءُ، وتَبعنَهُ حتى الصليب. ويُظهِر مار لوقا أن الأمور التي من أجلها ينوح البعض، تجعل آخَرين يسعدون؛ فمشاعرهم لا تتحرك بالشفقة.][308]. أما الرب فتجاوب معهن وقال:
«يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ.» (لو28:23)
في الوقت الذي تَوارَى فيه أعظمُ الرجال، خرجت النسوة تُعَبِّرن عن محبتهن، وألَمَهن لَطمًا ونُوَاحًا. ولم يهتم اليهود بكلمات المسيح عندما قال: «بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ».
كان الرب مشغولًا بهم، وبشعبِه المختار والآلام التي ستَحِل بهم. لقد سلَّم الشعبُ اليهودي للرومان أعظمَ مَن عندهم، طالبين قتْلَه. وفرِحَ الرومان، فبعدما يَصلِبون عظيمهم، ما أسهل أن يُنَكِّلوا بهم. وهذا ما حدث فعلًا، فما هي إلا ستة وثلاثين سنة حتى هَدَمَ تيطسُ الروماني هيكلهم وشرَّد أبناءهم وقَتَلَهم.
_____
[300]الأرشيدياكون بانوب عبده، موسوعة كنوز النعمة: ج5، طبعة ثالثة 1962م، ص498.
[301]الأب متى المسكين، المسيح: حياته، أعماله، دير القديس أنبا مقار، طبعة ثانية 2008م، ص423.
[302]Matthäus-Kommentare aus der griechischen Kirche, Edited by Joseph Reuss, Berlin Akademie-Verlag, 1957, vol.38/2: p.262 – 63.
[303]يوسيفوس المؤرخ اليهودي، Complete works of Josephus: Antiquities of the Jews, vol. xx. p.6.
[304]Matthäus-Kommentare aus der griechischen Kirche, Edited by Joseph Reuss, Berlin Akademie-Verlag, 1957, vol.38/2: p.262 – 63.
[305]العَلَّامَة أورِيجِينُوس Die griechischen christlichen Schriftsteller der ersten Jahrhunderte, Berlin Akademie, Verlag 1897-, vol.38/2 : p.26.
[306]القس غوردن بري، أسبوع الآلام، كاتدرائية سانت جورج بالقدس، جمعية نشر المعارف المسيحية، ص42.
[307]H. de Lubac, J. Daniélou et al, Sources Chrétiennes, Paris, Editions du Cerf, 1941- vol.74: p.59; NPNF Series 2: vol.12: p.172.
[308]القديس يوحنا ذهبي الفم، الآلام المُحيية، ترجمة د. سعيد حكيم من النص اليوناني لمجموعة (ΕΠΕ) الصادرة في تسالونيكي 1973م، مجلد 12، ص319-365، مؤسسة القديس أنطونيوس، مارس 2008م، ص25،24.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/trials-of-jesus/carry-cross.html
تقصير الرابط:
tak.la/9gzknsk