وُلدت كنيسة العهد الجديد في عصر يمكن تلقيبه "عصر الفلسفة". كانت كلمة "فلسفة" في القرون الأولى تعادل "التقدم الصناعي" في العصور الوسطى بأوروبا، والتقدم العلمي في القرن العشرين، والتقدم التكنولوجي في عصرنا الحالي. فكان الحكام والقضاة وأصحاب المراكز القيادية يفتخرون بأنهم فلاسفة أو عشاق الفلسفة ورجالها، وأنهم أصحاب ثقافة عالية.
نستطيع القول بأن الفلسفة كانت عصب المجتمعات المتقدمة في ذلك الحين. فما هو موقف كنيسة العهد الجديد من مثل هذه المجتمعات؟
إن كان الرسول بولس قد أوضح أن الصليب عند اليونانيين (الفلاسفة) جهالة (1كو 2: 14)، لكنه أكّد أن ما يظنونه جهالة في حقيقته فلسفة إلهية فائقة. "لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 25). ما يحسبونه جهالة هو بسبب عجز هؤلاء الفلاسفة عن إدراك سرّ حكمة الله وفلسفته.
لم تُسَّفه الكنيسة من الفلسفة، فإن مخلص العالم نفسه، الذي تدور حوله وفيه الحياة المسيحية هو "اللوغوس" (الكلمة العاقل)، وهو الصوفيا (حكمة الآب). وما أكثر ما استخدم الرسل كلمة "يعرف" ومشتقاتها في العهد الجديد! فالمعرفة لا تقف في تضاد مع الإيمان، إنما هما أختان متلازمتان، مادامت المعرفة صادقة (الحق) والإيمان حقيقي غير مزَّيف.
تبقى مدرسة الإسكندرية المسيحية – أول معهد مسيحي علمي في العالم - شاهدًا عمليًا على نظرة الكنيسة الأولى المتسعة نحو الثقافة في المجتمع:
أولًا: يشهد العلامة أوريجينوس (185-254) أن القديس بنتينوس مدير المدرسة (تنيح حوالي عام 190 م.) كسب كثيرًا من الفلاسفة للإيمان المسيحي باستخدامه للفلسفة.
ثانيًا: يعتبر القديس إكليمنضس السكندري (150- 215) أول كاتب مسيحي من الآباء قام بتزويج الإيمان مع الفلسفة، متطلعًا إلى الفلسفة الحقيقية هبة من الله، وإن كان بعض الفلاسفة ادخلوا عليها ما هو باطل. وكان القديس يلبس بلين الفلاسفة وهو يُدرس في مدرسة إسكندرية المسيحية. آمن أن دستور الكنيسة والكتب المقدسة لا تتعارض مع الفلسفة، وأنه لا عداوة بين المسيحية والفلسفة. وتتلخص نظرته إلى الفلسفة في النقاط التالية[19]:
1. أن الفلسفة ليست عملاً من أعمال الظلمة، بل في كل مذهب من مذاهبها يشرق عليها شعاع نور[20] من اللوغوس.. ففي بداية كتابة "المتفرقات Stromata" انتقد القائلين بأن الفلسفة شر، ووعد أنه سيوضح - خلال هذا العمل - أنها من جانب هي "عمل التدبير الإلهي[21]". في رأيه أن غاية الفلاسفة في كل المدارس الفلسفية هي ذات غاية المسيحية، ألا وهي الحياة السامية، ولكن الفارق هو أن الفلاسفة لم يتمتعوا إلا بقبسات من الحق، أما المسيحية فأعلنت الحق كاملًا في المسيح[22]. الفلسفة -في رأيه- أقل من الحق[23]، لكنها ليست بلا قيمة[24]. لهذا فهو يرى الفلاسفة أطفالًا بقوا هكذا حتى جعلهم السيد المسيح رجالًا.
2. خلال هذه النظرة أراد أن يقدم تعريفًا للفلسفة من وجهة نظره، فقال: "أقصد بالفلسفة لا المذهب الرواقي أو الأفلاطوني أو الأبيقوري أو الأرسطاطلي، بل ما قد قيل بحق في كل المذهب منها، حيث يعلم بالبرّ جنبًا إلى جنب مع العلم التقوى. هذا الاختيار الكلى أدعوه "الفلسفة". أما نتائج التعقلات البشرية التي يقطعها البشر ويزيفونها فليست فلسفة[25]".
3. يرى القديس إكليمنضس أن عناية الله لم تتجاهل أي شعب مطلقًا. ففي رأيه كما أن الله قد أعد العبرانيين بالناموس ليقودهم للسيد المسيح، هكذا استخدم الفلاسفة بالنسبة لليونانيين للبلوغ بهم إلى ذات الهدف، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. في هذا يقول:
[قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية لليونانيين للبرّ، وأما الآن فقد أصبحت موصلًا للتقوى، بكونها نوعًا من التدريب الإعدادي للذين ينالون الإيمان خلال البرهان.. لقد أعطيت الفلسفة اليونانية مباشرة، وبطريقة بدائية إلى أن يدعوهم الرب. وكما يقود الناموس العبرانيين للمسيح (غل 24:3)، هكذا كانت الفلسفة إعدادًا، تهيئ الطريق الذين يتكملون في المسيح[26]".]
[الله الواحد الحقيقي هو المصدر لكل جمال، سواء الجمال الهيليني أو الجمال الخاص بنا[27].]
[كأن الفلسفة اليونانية تطهر النفس وتعدها لقبول الإيمان، الذي عليه يبنى الحق (المسيح) صرح المعرفة[28].]
4. أكد القديس بأمثلة عديدة أن اليونانيين قد استعاروا الكثير من العهد القديم[29]. قال إن أفلاطون انتحل آراء موسى والأنبياء، ولو أنه لم يقدمها بطريقة صادقة. كما شبه الفلسفة اليونانية بالشريعة الموسوية، ومع ذلك فكثيرًا ما أكد أن الإيمان هو أساس كل المعرفة[30]، أعظم منها وهو الحكم عليها[31]، كما دافع عن الإيمان ضد الفلاسفة[32].
5. إذ عرف القديس العالم بجانبيه الوثني والمسيحي، عرف الكتابات اليونانية الكلاسيكية واللاهوت المسيحي. لهذا اعتقد أنه ليس من واجب الكنيسة أن تثبط همة الموعوظين عن متابعة دراستهم الفلسفية، إنما تستطيع الكنيسة أن تعطى مسحة مسيحية للفلسفة بثقافتها وتعليمها.
ثالثًا: قيل في القرن الثاني وبدء الثالث صار الفلاسفة مسيحيين، والمسيحيون فلاسفة، حيث كان الفلاسفة على علاقة وثيقة بعمداء مدرسة إسكندرية المسيحية وأساتذتها[33].
رابعًا: لا نعجب أن مدرسة الإسكندرية منذ بدء نشأتها منهجها لا يقف عند الدراسات الدينية، بل تدرس علومًا كثيرة encyclopedic.
هذا الموقف المشرف من قادة الفكر المسيحي في الكنيسة الأولى يكشف كيف واجهت الكنيسة المجتمع بثقافاته وقدراته وإمكانياته، لا لتأخذ موقف المواجهة ضد المجتمع، بل تقديس ونمو وتطور كل ما هو للبنيان.
_____
[19] راجع للمؤلف: آباء مدرسة الإسكندرية الأولون، 2001، ص 69-72.
[20] Stromata, 1:13.
[21] Stromata, 1:4.
[22] W. Fairweather: Origen & Greek Patristic Theology, Edinburgh 1901, p. 15.
[23] Stromata, 1:98.
[24] Stromata, 1:15.
[25] Stromata 1:7.
[26] Stromata 1:5 (A.N. Frs, vol 2, P 305).
[27] Hans von Campenhausen, P 30, Stromata 1:28.
[28] Stromata, 7:3. ANF, vol 2, p. 528.
[29] Stromata, 2:5.
[30] Stromata, 2:4.
[31] Stromata, 2:4:5.
[32] Stromata, 2:2:8.
[33] Cf. Fr. Tadros Malaty: The School of Alexandria, chapters 4, 5.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/philosophy.html
تقصير الرابط:
tak.la/52ttsqx