يقول القديس أغسطينوس[37]:
[إن وجه الإنسان يعبر عن شخصه. ويقول الرسول: "إن كان أحدهم يستعبدكم. إن كان أحد يأكلكم. إن كان أحد يرتفع. إن كان أحد يضربكم على وجوهكم" مفسرًا الضرب على الوجه بأنه إهانة واحتقار، إذ يكمل قائلًا: "على سبيل الهوان" (2 كو 20:11، 21).
والرسول يذكر ذلك مبينًا أنه إن كان عليهم أن يحتملوا من أحبهم حتى رغب في أن يُنفق لأجلهم (أنظر 2 كو 15:12).
احتمل الرسول بولس اللطم على الخد الأيمن ثم الأيسر. فقد احتمل ما احتمله التلاميذ من تعيير بسبب اسم المسيح الذي دعي عليهم (أي احتمل اللطم على الخد الأيمن). بعد ذلك قدم الخد الأيسر مضحيًا بأمجاده العالمية (جنسيته الرومانية - أنظر أع 37:16). فعندما أعلن عن جنسيته الرومانية لم يكن يقصد بذلك الافتخار أو الانتقام ممن أساءوا إليه. بل بالعكس كان بولس يعلن عن رومانيته لتتهيأ له فرصة للحديث عن المسيح معلنًا بذلك محبته لخلاص نفوس هؤلاء الذين أكرموه لأجل رومانيته وأهانوه لأجل مسيحيته.
وبالمثل أيضًا عندما ضُرب بأمر رئيس الكهنة فقد رد عليه بمحبة، رغم ما يبدو من إجابته أنه كان غاضبًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إذ قال: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض". فرده هذا يبدو شتيمة، أما حقيقة أمره فهو نبوة. فالحائط المبيض هو الرياء أو التظاهر في مظهر الكهنوت، كما لو كانت هناك قذارة مخبأة في غلاف أبيض. فالرسول احتفظ بالتواضع بصورة عجيبة. فعندما قيل له "أتشتم رئيس كهنة الله؟" أجاب "لم أكن أعرف أيها الاخوة أنه رئيس كهنة لأنه مكتوب رئيس شعبك لا تقل فيه سوءً" (أع 5:23). فإجابته هذه تظهر مدى الهدوء الذي كان يتحدث به، فيما حسب أنه يتكلم بغضب فقد أجاب بسرعة ولطف، الأمر الذي لا يحدث من شخصٍ غاضبٍ أو معتذرٍ (بسبب الشتيمة).. فكأنه قال إنني أعرف رئيس كهنة آخر - المسيح - الذي أحتمل أنا من أجله أتعابًا كهذه، هذا الذي لا يجوز شتمه، وأنتم قد شتمتموه، لأنه لا يوجد في نفسي شيء سوى اسمه الذي تكرهونه.
يلزم للشخص ألا يفتخر بكرامته الزمنية، بل يعد قلبه لاحتمال كل الأشياء حتى يستطيع أن يرتل بفرحٍ مع النبي قائلًا: "قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد" (مز 8:56).
كثيرون تعلموا كيف يقدمون الخد الآخر (أي أن يهانوا في أمجادهم الزمنية) ولكنهم لم يتعلموا كيف يحبون ضاربيهم.
والمسيح رب المجد، واضع الوصية ومنفذها الأول، عندما لُطم على خده بواسطة خادم رئيس الكهنة رد قائلًا: "إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!" (يو 23:18). فهو لم يقدم الآخر، لكن كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع، لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وبصلب جسده كله.
_____
[37] الموعظة على الجبل للقديس أغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، ف 58.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/other-cheek.html
تقصير الرابط:
tak.la/x2f57gz