أتسمت طقوس ليتورچيات الكنائس المختلفة -قبل نيقية- أي ليتورچيات الإسكندرية وكنيسة أنطاكية وكنيسة أورشليم وكنيسة روما... بما لها من تكوين واحد، ونمط واحد، وروح واحد، وغاية واحدة، بل وأحيانًا تستخدم عبارات مشتركة فيما بينا. أما من جهة النص ذاته، فلم يكن هناك أصل ثابت إنما خضعت الصلوات الليتورچية للتطور المستمر، الأمر الذي أوجد خلافًا في النص من كنيسة إلى أخرى، ومن فترة إلى أخرى في ذات الكنيسة.
غير أن الشرق بصورة عامة -وكنيسة مصر على وجه الخصوص- بقي محافظًا على روح الليتورچيا الرسولية الآبائية. أما النص فلم يحدث فيه تغيير يذكر منذ القرن الخامس، الأمر الذي أعطى لدراسة الليتورچيا المصرية أهمية خاصة. يقول الأب جنجمان في كتابه "The Early Liturgy "[205]: "في التكوين العام للقداس إحتفظت الطقوس الشرقية بكثير من الملامح الأولى التي اختفت في الطقس الروماني... فبينما يتغير قداسنا من يوم إلى آخر، إذا بالشرق يكرر ذات الطقس بلا تغيير...". ويقول الراهب الانجليكاني دكس[206]: "بلغت الخطوط الرئيسية لكل تقليد شرقي قمته في القرن الرابع، وكل تقدم بعد هذا لا يزيد عن كونه تعديل أو تكميل في التفاصيل. وفي القرن الخامس لم تدخل عناصر جديدة كما حدث في الغرب".
في وقتنا الحاضر تستخدم الكنيسة القبطية ثلاث ليتورچيات للإفخارستيا هي:
1. ليتورچيا القديس باسيليوس الكبير: تختلف عن الليتورچيا البيزنطية التي تحمل ذات الاسم، وتمثل هذه الليتورچيا الخدمة العامة، حيث تُستخدم كثيرًا.
2. ليتورچيا القديس غريغوريوس (الثيؤلوغوس): غالبا ما تُستخدم في المناسبات والأعياد، غير أن بعض الآباء يستخدمونها خلال العام. صلوات هذه الليتورچيا تخاطب أقنوم "الابن". وهي ليست فريدة في هذا، بل توجد ليتورچيات أخرى على غرارها مثل ليتورچيات مصرية أخرى، وثلاث ليتورچيات أثيوبية، وليتورچيا القديسين آداي وماري السريانية، وليتورچيا القديس يعقوب السريانية.
3. ليتورچيا القديس كيرلس (مار مرقس): سجلها القديس كيرلس السكندري وكمل عليها، فحملت اسمه، وهي أقل انتشارًا من السابقتين.
الآن نبدأ بمشيئة الرب في دراسة هيكل الليتورچيا الباسيلية، التي لا تختلف كثيرًا عن الاغريغورية، محاولًا التحدث عن أنافورا القديس كيرلس في كتاب مستقل بكونها ليتورچية إسكندرانية أصيلة سلمت إلينا من القديس مار مرقس.
توجد ليتورچيات مصرية أخرى عرفت في العصور الأولى، لكنها لم تعد تستخدم في الوقت الحاضر، نذكر منها على سبيل المثال:
1. خولاجي (خولاجيوم) الأسقف سرابيون[208]: نذكر تاريخه ونصه في الكتاب القادم إن شاء الرب.
2. خولاجي دير بالوزة Der Baluze: وهو دير بالقرب من أسيوط. نذكر تاريخ الخولاجي ونصه في الكتاب التالي.
3. أنافورا القديس متى[209]: قام انجليكس كروب بطبع النص القبطي مع ترجمة ألمانية في مجموعة Oriens Christiansus.
4. مقتطفات متفرقة لأنافورا غير معروفة، قام بطبعها هيفرنت[210]، وصبحي بك[211]، ولان[212].
يتكون الهيكل الرئيسي لليتورچيا القبطية من:
تسمى في لغة الليتورچيا الغربية "الخدمة الإلهية". وتدعى أيضًا "ليتورچيا الزمن [213]The Liturgy of Time"، إذ تقدم العبادة على أربع حلقات (دوائر) زمنية:
3. دائرة أو حلقة يومية مثل رفع بخور عشية وباكر، وصلوات (تسابيح) السواعي.
4. دائرة أسبوعية مثل التسبحة التي تقدم على مدار الأسبوع بمادة ولحن يختلفان من يومٍ إلى آخر، وهي تشمل مزامير وتسابيح كتابية وترانيم كنسية وذكصوولوچيات[214] وثيؤوتوكيات[215] إلخ.
5. دائرة شهرية مثل خدمة عيد الملاك ميخائيل الشهري.
6. دائرة سنوية حيث تقدم العبادات بصلوات مع ألحان تتناسب مع الأعياد والأصوام على مدار السنة.
ويمكن تقسيمها إلى ثلاث خدمات:
أ. تقدمة الحمل.
ب. ليتورچيا (قداس) الموعوظين.
ج. الليتورچيا (قداس) المؤمنين (الأنافورا)[216].
هذه الخدمة في جوهرها هي صلوات تعبدية كنسية عامة، غير الصلوات السرائرية والإفخارستية، خلالها تمارس الكنيسة حياتها الليتورچية طوال اليوم وعلى مدار الأسبوع، فتقدم لله ذبيحة التسبيح، وتكرم قديسيه، متشفعة من أجل خلال العالم كله.
بهذا تتقدس حياتها كلها للرب بالترنم بالمزامير والتسابيح، وتمتعنا بقراءة فصول من الكتب المقدسة والتمتع بعظات الآباء وأقوالهم ونوالنا بركة القديسين... إلخ.
بهذه الخدمة تطلب الكنيسة من العالم كله -المنظور وغير المنظور- بل من الخليقة حتى غير العاقلة أن تسبح خالقها، فيدخل الكاهن مع شعبه في شركة مع العلويين لخدمة الأسرار بفكرٍ مضبوط ونفس مشتاقة طوال الأسبوع للإتحاد مع الله.
في الغرب رافق ظهور الحركة الليتورچية ذات الطابع الروحي اللاهوتي ظهر فكرين متطرفين لمفهوم "الخدمة الإلهية" من حيث علاقتها بالإفخارستيا:
أ. النظرية الأولى هي عبارة عن وجود ميل متزايد نحو قصر حياة الكنيسة الليتورچية على "الإفخارستيا" وحدها، لا بكونها ذروة هذه الحياة الليتورچية أو مركزها أو مصدر وجودها بل بكونها هي وحدها الحاملة لهذه الحياة دون سواها. وهذا الاتجاه يعزل "الخدمة الإلهية" عن "الإفخارستيا" بل ويعمل على تمزيق الحياة الليتورچية عن حياة الكنيسة ككل.
ب. النظرية المتطرفة الثانية تسمى بال "Mysterisnlebere" وهي مرتبطة باسم Casel والمركز الليتورچي البندكتي في ماريا لاش إذ يبدو أن كاسل قد مزج كل شيء في اصطلاحات سرائرية عامة، فلم يقدر أن يضع خطًا واضحًا بين ما هو سرائري وما هو غير سرائري، إنما حسب العبادة كلها كإعلان عن كلمة "سرّ mystery".
يقول الأب شميمان: "أمامنا خطران أحدهما وقف التقليد الليتورچي كله في سرّ واحد مع تجاهل عناصره الأخرى، والآخر توسيع مفهوم "السرّ" ليشمل العبادة جميعها"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لكن كنيستنا الأرثوذكسية - كعادتها لا تميل إلى التطرف فهي تمارس الخدمة الإلهية كعبادة الليتورچية تمهيدًا لتقديس الأسرار، لكنها ليست خدمة سرائرية.
يمتد تاريخ الخدمة الإلهية مع تاريخ الكنيسة نفسه منذ نشأتها، وقد حمل تطورًا خاصًا بظهور "الحركات الرهبانية" في مصر.
يرى البعض مثل الأب دكس عدم ممارسه الخدمة الإلهية في العصر الرسولي، لكن هناك نظريات معارضة تكشف بوضوح هذه الخدمة كامتداد لممارسة الحياة الليتورچية في المجامع في أيام السيد المسيح بعد صبغها بصبغة مسيحية.
وإني أرجو أن يهيئ لي الرب في كتابٍ قادم الحديث عن الخدمة الإلهية وتطورها وطقوسها.
خدمة الافخارستيا في الواقع تمثل عملًا تعبديًا واحدًا فيه تقدم الكنيسة ذبيحة عريسها الفريدة تقدمة للآب، وفي نفس الوقت تنعم بقبول ذات الذبيحة هبة إلهية لها. لكننا نستطيع أن نقول أن هذا العمل التعبدي الغير منقسم إلى أجزاء كان منذ العصر يحوي بين طياته جزئين:
1. ليتورچيا الموعوظين: يغلب عليها الطابع الكرازي والوعظي دون أن تتجاهل الجانب التعبدي. ينصت الموعوظون إلى جزء منها أثناء القراءات والعظة مع بعض الصلوات القليلة التي ترفعها الكنيسة عنهم لكي يهبهم الله فهمًا وحكمة وأيمانًا.
2. ليتورچيا المؤمنين، أو الإفخارستيا أو الأنافورا وهي عمل تعبدي، لكنها تحمل أيضًا اتجاهًا تعليميًا غير مباشر، فيها ترتفع الكنيسة بالروح القدس إلى السماء في حضرة الله في المسيح يسوع.
يرى جريجوري دكس أن الليتورچيا الأولى في جوهرها تنقسم إلى قسمين:
1. السيناكسز synaxis، وهي كلمة يونانية تعني "اجتماع" وقد قصد بها ما نعنيه نحن بليتورچيا الموعوظين إلاَّ أن بعض المؤرخين يوردون هذه الكلمة على خدمة السرّ كله.
2. الإفخارستيا أي ليتورچيا المؤمنين
وفي رأيه أن هذه القسمين كانا في البداية منفصلين، يمكن ممارسة أحدهما دون الآخر، بل -وفي رأيه- أنه غالبًا ما كان يحدث هذا.
وقد ذلك على ذلك بأن القديس يوستين في كتابه "الدفاع" وصف الإفخارستيا مرتين، أحدهما[218] يسبقها الـsynaxis والوصف الثاني يسبقه نوال سرّ العماد[219]. والشاهد الثاني القديس هيبوليتس في كتابه "التقليد الرسولي" حيث وصف الإفخارستيا مرتين، تارة يسبقها سيامة أسقف وأخرى يسبقها نوال العماد والميرون "المسحة"... وفي الوصفين لم يذكر شيئًا عن السيناكسز.
غير أن عدم ذكر السيناكسز لا يعني عدم ممارستها قبل الإفخارستيا فربما بدأ وصفه للخدمة بعد خروج الموعوظين حيث لا يحق لهم حضورها أو الاشتراك فيها وهذا ليس بالأمر الغريب فإن الكنيسة القبطية إلى يومنا هذا تتمم رسامة الأسقف أو الكاهن بعد القراءات وقبل بدء "الأنافورا"، ويمكن للكاهن أن يعمد أيضًا في هذه الفترة لينعم المعمد حديثًا بالشركة في التناول في ذات اليوم.
على أي الأحوال يعود الأب جريجوري دكس نفسه فيقول أنه بالرغم من وجود اختلاف في أصل القسمين وغايتهما، لكن في القرن الثاني كانت خدمة "السيناكسز تسبق الإفخارستيا" في جميع الكنائس ومنذ القرن الرابع تلاحم القسمان معًا شيئًا فشيئًا حتى صارا جزأين غير منفصلين لطقس واحد.
كان طقس "تقدمة الحمل"جزء من ليتورچيا المؤمنين، لكن منذ قبل القرن الخامس صار هذا الطقس يُمارَس في بداية الليتورچيا كلها حتى يتهيأ الشعب لتجديد العهد مع الله خلال سماعهم كلمة الله وتمتعهم بالشركة في الأسرار المقدسة.
لهذا استحسنت أن أتحدث عنه كقسم مستقل قبل الحديث عن الموعوظين وليتورچيا المؤمنين.
_____
[205] P. 211, 221.
[206] Fr. Dix: The Shape of the Liturgy, p 546.
[207] See Khus Burmester: The Egyptian or Coptic Church, Cairo 1967.
[208] “Euchologium” means “a book of prayers”.
[209] Angelicus M. Kropp “Die Koptische Anaphora Des Heiligen Evangelisten Matthaus”, in Oriens Christianus, Dritte Serie, Bd 7, Leipzig. 1973, p 111 – 125.
[210] Hyvernat: Canon – Fragmente Der alkopteschen liturgie” in Roemische Quartalschrift fur Christ Alterthum and Kurchengeschieche, 1, 4, Rome 1988, p 330.
[211] G. Sobhy Bey “Two leaves in the Coptic Dialect of Middle Egypt, in Mélanges Maspero II, Orient Grec, et Byzantin (Mém publiés par les membres de l’Ints. Françe. D’Arch. Orient, Du Caire), Tome LXVII, p 245 – 250, Le Caire, 1934 – 1937.
[212] E. Lanne “le Grand Euchologe Du Monstère Blac”, in Batrologia Orientalis, the XXVIII, fasc 2, 1958.
[213] See Fr. Schemann: Introd. To Liturgical Theology, ch 2, 3.
[214] Doxology ذوكصولوچية أو المجدلة is a prayer of glory to God.
[215] Theotokion ثيؤتوكية is a hymn in honor of the Theotokos (the Mother of God).
[216] Anaphora means “lift up”, for the church is ascended to heaven through the celebration of the Eucharist.
[217] Fr. Schmemann: Introduction to Liturgical Theology, ch 2, 3.
Nevins: the Mary Knoll Catholic Dictionary.
[218] Ch. 67.
[219] Ch. 65.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/jesus-eucharist/coptic-liturgy.html
تقصير الرابط:
tak.la/x3bbgqd