منذ عامين تقريبًا اشتقت أن أكتب عن "الإفخارستيا" وإذ دخلت بعض المكتبات في الخارج وجدت أمامي مئات الكتب تتحدث عن سرّ الإفخارستيا، من دراسات تاريخية وأخرى طقسية وثالثة دراسات مقارنة ورابعة تحمل المفاهيم اللاهوتية لليتورچية. لكن ما حوته هذه الأبحاث، أقول في غير مبالغة، يعيشه كثير من الأقباط في بساطة الإيمان، بل ويدركون أعظم منه على صعيد الروح. فالقبطي المؤمن بحق يعيش في كنيسته يتذوق التوبة بغير انقطاع، ويدخل إلى المائدة السماوية لكي يتقبل من الرب نفسه غذاء النفس، فيأكل ويشبع دون أن يشغل ذهنه بالبحث عن الأصول التاريخية والتقليدية ولا يطلب تفسيرًا مفصلًا عن كل طقس من طقوسه، إنما يكفيه أن يتذوق فيه الخلاص المسيح الذي يتممه في كنيسته ويقدمه له شخصيًا.
هذا ما دفعني للوقوف كثيرًا قبل الكتابة عن "الطقوس القبطية"، إذ يصعب دراستها في وحدات مجزأة وهي حياة واحدة تلمسها النفس وتنظرها البصيرة الداخلية. لكن أمرًا هامًا استرعى انتباهي ألا وهي التجربة المرّة التي عاشتها الكنيسة الغربية في حياتها الليتورچية، والتي دامت عدة قرون وانتهت بما يسمونه اليوم بـ"الحركة الليتورچية"، غايتها الدخول إلى فهم أعمق لليتورچيا بصفة عامة على أساس رسولي آبائي.
وإذ أمامي عشرات المجلدات تتحدث عن تفاصيل هذه الحركة في بلدان الغرب وضعت في نفسي ألاَّ أخرج عن الخط الروحي في هذا الكتاب، إذ لا أريد أن أعرف إلاَّ يسوع المسيح وإياه ذبيحة حية محيية... فاكتفيت بتسجيل التجربة باختصار كدرس روحي عملي يمكن أن ينتفع منه كل إنسان، كاهنًا أو من الشعب، في حياته الكنسية اليومية.
في القرون الأولى، كانت الليتورچيات، خاصة ليتورچيا الإفخارستيا، تمثل مركز حياة الكنيسة وصلب عبادتها، لكنها لا تقدمها إلاَّ للمؤمنين. أما غير المؤمنين فتعلن لهم أخبار الخلاص المفرحة، وتحدثهم عن الله الحقيقي والرب يسوع المسيح ابنه فادي البشرية ومخلصها.
يتركز عمل الكنيسة في دعوة العالم للإيمان والرجوع الآن طريقهم بالتوبة، وإذ تأتي بهم إلى عتبة بابها تفتح لهم ليتورچياتها، فينعمون بالميلاد الثاني الروحي، ويقبلون الروح القدس، ويشتركون في الوليمة السمائية.
هذا عن الموعوظين، أما المؤمنون فكانوا يتطلعون إلى ليتورچيا الإفخارستيا أنها الغذاء الرئيسي لحياتهم الروحية...
هي الحياة الفائقة التي تتدفق في سهولة ويسر عبر مجاري النفس العميقة...!
هي الطريق الإلهي الذي يعمق مسيحيتهم!
هذه الخبرة الروحية لممارسة الحياة الليتورچية خلقت في الكنيسة فهمًا روحيًا سليمًا للحياة مع الرب، جاء من نتائجها:
أ. الكنيسة في القرون الأولى لم تكن تحتاج إلى دراسات في تاريخ الليتورچيات أو علم الليتورچيات، أو علم الطقوس (الليتورچية). أو علم الكنسيات (اككلسيولوچي)، إنما كانت الخبرة الحية فيها كل الشبع.
ب. كانت ليتورچيا الإفخارستيا مصدرًا لحياة التقوى، تمتد فاعليتها في حياة المؤمن في كل جوانبها
فهي التي تعلمه أن ينسى ذاته، متقدًا بالغيرة نحو انتشار ملكوت السموات، ملتهبًا قلبه بالفكر الكرازي.
وهي التي تقوده أيضًا إلى مخدعه ليصلي لإلهه خفية، بكونه عضوًا حيًا في الكنيسة الجامعة.
ج. بهذا لم يعرف المؤمن في حياته أنواع العبادات، بل يعرف عملًا واحدًا تعبديًا، يمارسه كعضو في الكنيسة أثناء تقديس سرّ الإفخارستيا، ويشترك مع إخوته أثناء الاجتماعات، لما يختبره في مخدعه كعضو في كنيسة المسيح الممتدة.
هذا العمل التعبدي الواحد، تقدمه الكنيسة الواحدة باسم مسيحها الواحد تحت قيادة روحه القدوس الواحد.
بمعنى آخر، كانت هناك وحدة بين ما نسميه اليوم "العبادة الجمهورية" و "العبادة الفردية". فالجماعة تعيش من أجل كل فرد، والفرد يحيا بروح كنسية ليتورچية، فهي "مسيحي" لأنه آمن بـ"المسيح الكنيسة".
هكذا انعكست الحياة الليتورچية على الكنيسة، فصار كل عضو فيها له روح كنسي يعيش به كما يتعبد به.
فالليتورچيا في العصر الآبائي هي "منهج" يسلكه المؤمن في حياته داخل الكنيسة وفي بيته، وفي عمله، وفي ديره حتى في لحظات استشهاده... الأمر الذي لم يخلق ثنائية بين العبادة الجماعية والفردية، بين الحياة الكنسية والحياة العامة اليومية، وبين الطقوس الليتورچية وفهمها اللاهوتي، وبين الطقوس والروحانية... إنما في بساطة الإيمان يمارس المؤمن عبادته بالروح والحق، ويتفهم أسرار الليتورچيا ويلمس روحها في طقسها، ويسلك بروحانياتها في حياته اليومية.
في هذه الآونة زحفت الكنيسة الغربية تجاه السياسة ودخلت مع الأباطرة في علاقات مبالغ فيها، فاصطبغ الكهنة بصبغة عالمية ونسوا رسالتهم الروحية.
نحن لا ننكر التزام الكنيسة ببث روح الوطنية في أولادها كثمرة طبيعية من ثمار الحب والإيمان، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فهي تهيئ للمجتمع مواطنين صالحين بحق، يحبون بلدهم ويحملون رسالتهم في قوة وإيمان، لا عن خوفٍ وخشوع، إذ تعلمهم الأمانة في العمل والجهاد، وتدربهم على حياة البذل من أجل الغير، والخضوع للسلطات الزمنية، وتحثهم على الصلاة من أجل الرئيس وكل ذوي السلطان، والأمانة في دفع الجزية أو الضريبة...[192] لكن لا يليق بها أن تتدخل فيما ليس هو بعملها!
فالقديس چيروم الذي شهد الآثار المبدئية لهذه الزوجية بين الكنيسة الغربية والإمبراطورية الرومانية أنبأ بما يتم في وقت متأخر بقوله[193]: "إذ ارتبطت الكنيسة بالأمراء المسيحيين اقتنت سلطانًا وغنى، لكنها افتقرت إلى الفضيلة".
علاوة على هذا فقد ظهرت في أوروبا اللغات الحديثة، حيث كانت الشعوب قادرة على التعبير عن إيمانهم وممارسة عبادتهم بلغاتهم الوطنية بينما استمر الكهنة يتحدثون باللغة اللاتينية القديمة ويكتبون ويصلون بها بكونها لغة مقدسة، هذه التي يجهلها الشعب.
هذان العاملان: تدخل الكنيسة في السياسة، وممارستها العبادة بلغة غير مفهومة للعامة، مع عوامل أخرى تضافرت معها في تحطيم الحياة الليتورچية والتأثير على الدراسات الليتورچية، إذ جاء من نتائجها:
أ. كانت الشعوب -إلى فترة طويلة- تتطلع إلى "الليتورچيا" كشيء يتمم، أما عن فهمها ففي أحسن الفروض هو أمر اختياري غير ضروري ليس بذي أهمية، بل وأحيانًا يتطلعون إليه كأمر ممقوت...
ب. ابتداء من القرنين السادس والسابع فقدت الليتورچيا "روحها"، وصار كل ما تعنيه هو سرد عبارات وتتميم طقوس واحتفال بأعياد. فخنقت "المظهرية" روحه، وصارت "الشكليات الخارجية" هدفًا في ذاتها، أما ما تحمله الليتورچيا من حقيقة سرّ المسيح فقد غاب هذا عن أذهان المؤمنين، وهكذا قليلًا قليلًا نسى المؤمنون الأسس اللاهوتية لها.
يقول الكاثوليكي بوير Bouyer [194] في كتابه Liturgical Peity، "كانت الليتورچيا "ولا تزال في أعين البعض" ليست إلاَّ الشكل الرسمي للعبادة الخارجية للكنيسة، يتطلعون إليها كقواعد تشريفات (إيتيكيت) للملك العظيم".
هكذا حدث شرخ بين ممارسه الليتورچيا والحياة الروحية.
ج. جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر يشهدان أعلى درجات المظهرية، أما أحاسيس العبادة والتقوى فزالت تمامًا، فصار كل همّ الكنيسة إنشاء كاتدرائيات ضخمة، كان يمكن أن تكون في غاية الإبداع لو لازمها زينة قداسة المتعبدين فيها. واهتمت اهتمامًا زائدًا للحصول على آثار القديسين ورفاتهم، الأمر الذي له حيويته، إن صحبه فهم روحي عميق لحياة الشركة مع القديسين في المسيح يسوع. وانشغلت الكنيسة بإبراز البطولات البشرية Super-human في إقامة التماثيل والديكورات الثمينة عوض الاهتمام بالحياة الفائقة للطبيعة Super-natural التي نبلغها بإتحادنا مع المسيح يسوع.
د. إذ انحرفت الكنيسة بوجه عام، والممارسة الليتورچية بوجه خاص إلى الشكليات، بدأ بعض المؤمنين يطلبون التقوى خارجها فظهر اتجاه جديد يسمونه:
"ضد الكهنوت anti-clergical،
وضد الرؤساء anti-hierarchial،
وضد الأسرار anti-sacramental،
بل وضد الليتورچيا anti-liturgical"
هكذا حدث شقاق بين الشعب ورجال الكهنوت، وانعزلت الليتورچيا عن الروحانية الشخصية، والليتورچيا عن اللاهوت.
ففي حوالي القرن الرابع عشر ظهر في هولندا جماعة من الاكليريكيين (Cleries) تسمى "إخوة الحياة العامة" تبنت ما يسمى بـ"التقوى الحديثة (المودرن)"، تقوم على أساس التحليل النفسي والتقوى على أساس شخصي فردي. هذه التقوى المودرن، لم تأت بين ليلة وضحاها بل كانت ثمرة اتجاهات متباينة ظهرت عبر أجيال كثيرة تارة علانية وأخرى خفية.
ه. أما الحقيقة المحزنة فهي التي ذكرها الكاثوليكي براسو في كتابه "الليتورچيا والروحانية" إذ قال أنه في هذه الفترة ليس فقط انشقت العبادة الليتورچية عن حياة المؤمنين الروحية، وخسرت الدراسات الليتورچية مفاهيمها اللاهوتية وأسسها التعليمية، إنما فتحت الليتورچيات الغربية أبوابها لصدى القصص الخرافية "أبو كريفا"، إذ يقول "غالبًا ما حملت كل القداسات في القرن الخامس عشر مئات من التتابعات، التي كما أظن هي صدى القصص الخرافية والأساطير"[195].
و. أخيرًا جاء القرن السادس عشر فيه أعلن لوثر بعنف أن الإنسان قادر أن يخلص بإيمانه، رافضًا كل علاقة حقيقية في الحياة الليتورچية والحياة الروحية. هذا الإعلان جاء انعكاسًا للفكر السائد في ذلك الوقت.
يقول الأب الكاثوليكي بوير[196]: "إن كنا نريد شهادة أكثر من هذه، لا من انعكاسات غامضة بل من وجهة نظر لاهوتي لها شأنها، يمكننا أن نرجع إلى كتاب عن الليتورچية له شهرته، سجله المحاضر الفرنسي Thomassin في القرن السابع عشر
"Traité de l’office divin et de sa laision avec l’oraison metale" هذا العمل اهتم بوجه خاص بالعلاقة بين الليتورچية والصلاة الشخصية. وواضح من معالجة المؤلف للموضوع أن الفكر السائد بين الذين كتب لهم هو عدم وجود أية علاقة بين الليتورچية والصلاة الشخصية، بل حقًا تبدو كما لو كان بينهما تناقض.
إذ هوجمت الكنيسة الغربية في أسرارها، اتجهت الدراسات إلى الجانب الدفاعي وتحولت الليتورچية إلى جزء من اللاهوت المقارن.
هذا الجانب المظلم من الصراع الذي حدث في الغرب والذي هو ثمرة أجيال طويلة، له جانبه المشرق وهو ظهور حركة دراسة تاريخية لليتورچيا، وفحص للنصوص القديمة، وترجمة أقوال الآباء عن الأسرار المقدسة... هذه الحركة العلمية فتحت الطريق للعودة إلى اللاهوت الليتورچي الأصيل...
مع بداية القرن العشرين دفعت الأبحاث الليتورچية ودراسة تاريخها ولاهوتيتها إلى ما يسمونه ب "الحركة الليتورچية". هذه الحركة لها ألوان مختلفة وتاريخ متشعب في دول أوروبا، لكن يمكننا -مع شيء من التبسيط- أن نقول أن الحركة تتلخص في إتجاهين:
1. تجديد الروحانية الليتورچية على أساس رسولي آبائي.
2. العودة إلى الوحدة بين الحياة الليتورچية والحياة التعبدية لكل عضو من أعضاء الكنيسة.
وقد فحص الكاثوليكي برسو هذه الحركة وتطورها في ثلاث مراحل:
أ. "المرحلة التاريخية": يعتبر الأب جيرانجر Fr. Geuranger هو مؤسسها، كما ساعدت حركة اكسفورد العلمية على بعثها، إذ دفع البحث العلمي في مصادر الليتورچية إلى التجديد بطريقة غير مباشرة.
ب. "المرحلة المذهبية أو اللاهوتية"، حيث بدأت دراسات في تفهم الجوانب اللاهوتية والعقيدية على أساس علمي روحي.
ج. "المرحلة الرعوية" فقيادة الكنيسة الواعية تبعث الحياة الليتورچية كحياة يعيشها الجميع.
هكذا بدأت الاتجاهات في الغرب نحو العودة إلى الفكر الآبائي على أساس تاريخي علمي روحي عملي، مع تفهم للحقائق اللاهوتية العميقة بروح كرازي حيّ.
أولًا: خرجنا من التجربة التي عاشها الغرب بدرس له أهميته في حياتنا الليتورچية، أنه لا يليق تقديم العبادة بلغة غير مفهومة للشعب، حتى لا تتحول إلى مجموعة تلاوات أو طقوس خارجية تُتمم بغير روح.
ثانيًا: يليق بنا ألاَّ نُدخل على الليتورچيا اتجاهات أو ثقافات غريبة عنها، بل نحن نعيش بروحها الأصيل لا في عبادتنا فحسب، بل تقود كل أحاسيسنا واتجاهاتنا في المخدع كما في كل سلوك.
ثالثًا: إن كانت الكنيسة الشرقية على وجه العموم، والقبطية خاصة، لم تمر بهذه التجربة، وإن كانت قد تأثرت بها قليلًا وإلى حين، لكننا نقدر أن نقول أننا اليوم نعيش بالروح الرسولية الآبائية في بساطة الإيمان. غير أنه يليق بنا أن ننتفع من أبحاث الغرب في تاريخ الليتورچية وفحص نصوصها الأولى، هذه التي نحن أقدر من الغرب على تفهمها روحيًا وتذوقها عمليًا.
أخيرًا يقول الأب شميمان أن هذه الحركة في واقعها هي اقتراب للفكر الأرثوذكسي إسرائيل يقول:
[يلزمنا أن نضيف هنا أنه وإن كانت "حركة التجديد الليتورچي" كحركة منظًمة ومتطورة ظهرت أغلبها بين غير الأرثوذكس في الغرب، لكنها تحمل ارتباطًا داخليًا عميقًا مع الكنيسة الشرقية. لهذا فهي لها أهميتها بالنسبة للاهوتيين الأرثوذكس. فمن ناحية إن تطلعنا إلى إنجازاتها بصورة نقدية نقول أنها نوع من "الحركة الأرثوذكسية" في بيئة غير أرثوذكسية، إذ هي استرجاع لفكر وحياة الكنيسة فيما قد فقده الغرب المسيحي تقريبا.
يكرر قادة هذه الحركة ومؤسسوها إعلانهم أن العبادة الأرثوذكسية -في نظرهم- تحمل شهادة "للصلاة الليتورچية العظمى للكنيسة الأولى[197]].
كتب أحد مؤرخي الكاثوليك للحركة الليتورچية: "لقد حفظت الكنيسة الأرثوذكسية روح الكنيسة الأولى الليتورچي، واستمرت تعيش به، وتقتني الحياة من مصدرها[198]".
لهذا فإن اهتمام الغرب بالتقليد الليتورچي الأرثوذكسي في الواقع هو تعاطف طبيعي نحو الأرثوذكسية.
هذا يعني، بالنسبة للاهوتي الأرثوذكسي، أن ما قد كدسته الحركة الليتورچية الغربية من مادة أو خبرة، ليس أمرًا غريبًا عنه، بل له قيمته، يساعده في عمله... لكن هذا لا يعني أننا نقبل -بغير وعي- كل ما أثمره هذا الحقل في الغرب.
إن عزلنا أية عبادة -خاصة ليتورچيا الإفخارستيا- عن مفهومها اللاهوتي، فقدت حياتها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. هذا وفي نفس الوقت فإن ليتورچيا الإفخارستيا تمثل، في شكلها وطقوسها وروحها ككل، مصدرًا علميًا محيًا لتفهم "اللاهوت" بما تحمله هذه الكلمة من معنى واسع.
فهي مصدر للتعرف على الله،
وعلى المسيحيات "العلم الخاص بالأمور التي تخص السيد المسيح"،
وعلى الكنسيات "علم الإككلسيولوچي"،
وعلى علم الكتاب المقدس،
واللاهوت الأدبي،
واللاهوت الروحي... إلخ.
بمعنى آخر فإن الإفخارستيا هي إعلان (أبوكلابسيس) علوي للحكمة (صوفيا) الإلهية، تمدنا بفكر صادق تجاه أنفسنا، وحقيقة مركزنا بالنسبة لله، والسيد المسيح، والكتاب المقدس، والكنيسة، وأخوتنا، في هذا العالم وفي العالم الآتي.
1. فهي تعلن حقيقتنا كغرباء يليق بنا أن نطلب السمائيات.
2. وخلال تقديسها نتعرف على الله أبينا السماوي، الذي يقدم لنا الجسد ودم ابنه الوحيد المبذولين، نتقوت بهما روحيًا.
3. كما توضح لنا عمليًا حلول السيد المسيح وسط كنيسته، فنعرف مركزه في حياتنا الداخلية.
4. تقدم لنا أيضًا فهمًا لعلم الإككلسيولوچي، فنعرف الكنيسة في طبيعتها الداخلية، أنها مبنى روحي سماوي، في جسد واحد، خلاله يصير المؤمنون أعضاء حقيقيين أحياء في جسد السيد المسيح الفريد.
إنها تسير خطوة تلو الأخرى تجاه المدينة الاسخاتولوچية، إذ تجري نحو الأبدية.
5. تهبنا كذلك فهمًا صادقًا للعبادة، ودراية بالكتاب المقدس وإدراكًا لأصول اللاهوت الأدبي والروحي، إذ تفيض بسرّ الخلاص بعينه.
6. تقدس نظرتنا للجسد والعالم الحاضر، إذ "تعد الذبيحة السماوية من خليقة أرضية[199]"
7. تفتح لنا باب العالم الآخر، فنشارك السمائيين تسابيحهم.
تمتاز الكنيسة الأرثوذكسية بعدم التطرف، فلا تتطلع إلى الليتورچيا كعبادة جمهورية بحيث لا تتجاهل العلاقة الشخصية بين المؤمن وإلهه، وفي نفس الوقت إذ تمارس العبادة الشخصية لا تصبغها بصبغة "الانفرادية" ما دمنا ندعو الله "أبانا". على أي الأحوال ليتورچيتنا في طقسها لها سمة روحية، بها نعيش وبها نتعبد، سواء في عبادتنا الجمهورية أو الشخصية.
أ. البعض يوقف عبادته عند الطقس الحرفي دون استخدام "كلمات مقدسة". هؤلاء تختفي في عبادتهم "الكلمات" الحقيقية التي تعطي للإنسان أحاسيس التعبد، أو قل أنها لا تقوم مثل هذه الكلمات بدور رئيسي في عبادتهم، وهكذا لا تحمل عبادتهم إلاَّ مجرد عمل طقسي بحت بغير فهم.
ب. وعلى الجانب الآخر أوقف آخرون العبادة الروحية على الكلمات المنطوق بها حارمين منها استخدام أي طقس.
أما كنيستنا فلم تعزل الطقس عن الكلمة المنطوق بها، بل بهما يعبر الشخص عن علاقته مع الغير، سواء مع إلهه أو مع أخيه، ويحقق وجود هذه العلاقة.
هما وسيلتان رمزيتان، خلالهما يتجه الإنسان نحو الله مباشرة متى قدمهما بالروح والحق، أما إن تعبد لله -سواء بالكلام أو بالطقس- بغير أدراك روحي ففي كل الحالتين يسمع الصوت الإلهي محذرًا[201] إيانا: "يقترب هذا الشعب إليّ بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا، وباطلًا يعبدونني".
يقول الأب لويس بويير الكاثوليكي في مناقشته لهذا الموضوع أن العبادة الكاثوليكية قد نزلت إلى الطقس البحت وحده، وجاء رد الفعل البروتستانتي إلى التطرف من الجانب الآخر وهو حصر العبادة في "الكلمة" وحدها دون الطقس. وقد ختم حديثه بقوله[202]: "إننا في المرحلة الحاضرة للتطور الإنساني نعاني من طغيان استخدام "الكلمة"، بل بالحري نعاني من فقدان "الكلمة" حيويتها بسبب الضغط عليها بمفردها. فإذ ابتلعت "الكلمة" الطقوس، صرنا في حاجة إلى دراسة الفيتومينولوچيا "علم الظاهرات" للطقس الذي لا يزال حيًا. هذه الدراسة تعيد للكلمة حيويتها، إذ هي تصير حية من خلال الطقس، وبهذا تشفي الكلمة من الإتجاه إلى حصر كل شيء (من العبادة) فيها وحدها. كذلك يلزم أن يُعطى لأعمال الطقس روحانيته بواسطة "الكلمة". لأنه إن لم يستنر الطقس بالكلمة الإلهية الحقيقية، ينحط الطقس إلى خزعبلات مملوءة سذاجة وخرافات. لكن هذا لا يعني أن نلبس العمل الطقسي مثلًا تجريدية نظرية، وإلاَّ زال كل طقس تمامًا وتحول إلى أشبه بتمثيلية تحريزية[203] دينيه".
الليتورچيا في واقعها هي خدمة سماوية، لكنها في ذات الوقت هي خدمة الكنيسة القائمة على الأرض، فإن كانت ترتفع بالإنسان ليسبح مع السمائيين، لكنا لا تتجاهل واقعه كإنسان يجاهد على الأرض.
ليتورچيا الإفخارستيا هي عمل السيد المسيح غير المنظور، لكنه يعمل في البشر المنظورين الذين لهم أجسادهم كما لهم أرواحهم. تفترض في الإنسان المؤمن -كاهنًا أو من الشعب- أن يشترك فيها بروحه، لكن ليس بعيدًا عن جسده، ما دام لم يخلعه بعد. فإننا لا نقدر أن نتعبد إن بقيت أجسادنا سلبية.
كذلك لا يستطيع أحد أن يجهل آثار الجسد على النفس الداخلية، وكما يقول القديس أغسطينوس[204] أن حركات النفس الداخلية تحصل على قوة خلال حركات الجسد الخارجية. اتجاهاتنا الخارجية لها رد فعل على النفس وعلى إرادتنا الخفية، ومشاعرنا العميقة.
فبالنسبة للإنسان، الطقس يمثل الروحانية المتجسمة. فإن العبادة تكون بالأكثر مثمرة من خلال الطقس، وذلك ما دمنا لا نقف عند الجانب الخارجي الحسّي، بل ندخل إلى روحه ونتفهم حياته.
هكذا نفهم طقوس الليتورچيا المقدسة، لا كمجموعة من الحركات الجسدية كالركوع والقيام والجلوس وقرع الصدر وتقديم البخور وإضاءة الشموع... إلخ، ولا نفهما كحوارٍ ديني بين الكهنة والشمامسة والشعب، إنما هي سرّ المسيح في كنيسته، هي سرّ خلاصنا العامل في حياتنا كلها.
_____
[191] Schmemann: Introduction to Liturgical Theology.
Bouyer: The Liturgy revived.
Bouyer: Liturgical Piety.
Basso: Liturgy You Spirituality
[192] القس تادرس يعقوب ملطي: الحب الرعوي (الكاهن والوطنية) ص 212 – 215.
Fr. Tadros Y. Malaty: Abbot Abraam, Los Angeles 1971 p 62, 63
[193] Schaff, Vol. 4, p 387.
[194] Liturgical Piety p 1 – 4.
[195] For example, the following fragment which the missal of of Langres of the year 1491 assigns to the feast of St. John Evangelist, as the disciple does not die. “John enters the tomb alive. And those who seek His body see nothing but manna”.
The following is a fragment of a prose which the church of Toronto sang during the Mass to the “tear of Jesus Christ”, which they claimed to be perverving:
“coming from Christ,
Gathered by an angel,
Given to Magdalene
Brought to Maximin,
Emperor of the Greek,
Then preserve,
To Godfrey, and transferred
To Vendome”.
[196] Lit. Piety, p 2, 3.
[197]. Introduction to Luurgical Theology, p 13.
[198] Don Olivier Rousseau: Histoire du Mouvement Liturgique, Paris 1945, p 188
[199] See St. Irenaeus: Advantage Haer 4 : 33 : 2.
[201] Is 29 : 13, Mt 15 : 7
[203] A kind of riddle based upon a word the key to which is given by description or action representing each syllable and the whole word.
لعبة قوامها مشهد تمثيلي يصور مقاطع كلمة معينة، يطلب إلى المشترك في اللعبة أن يحرزها.
[204] P. L. XL, 597.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/jesus-eucharist/rituals.html
تقصير الرابط:
tak.la/9r9kbz2