يقول المؤرخ العالمي البروتستانتي فيليب شاف(4): "احتل تقديس الإفخارستيا مركز الصدارة في العبادة المسيحية".
ويقول عنه الراهب الانجيليكاني جريجوري دكس(5): "الطقس الذي أسسه ربنا يسوع المسيح ليكون عبادة خاصة بالذين هم له. قد صار قلب العبادة المسيحية والحياة المسيحية وعمودها الفقري".
لكي نفهم لماذا احتلت ليتورچية الإفخارستيا هذه المكانة في العبادة المسيحية منذ العصر الرسولي الأول، يليق بنا أن نتفهم نظرة الكنيسة إلى "العبادة" أو "التعبد".
فالتعبد في المفهوم الكنسي ليس مجموعة من المراسيم تُنفذ، أو تسابيح تُرنم، أو صلوات تُتلى، أو أصوام يمارسها الإنسان مرضاة لخالقه، أو قرابين تُقدم... إنما هي أولًا وقبل كل شيء "تعرّف على الله محب البشر".
فكل ما كان لآدم يوم كان في الفردوس يتعبد لله هو انفتاح قلبه لمعرفة الله وانجذابه نحوه. أما بعد السقوط فقد طمس العصيان بصيرته الداخلية عن التعرف على الله كمحب له، فهرب منه غير محتمل سماع صوته، إذ قال(6) "سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت".
لهذا أرسل الله الشريعة الموسوية تقوم على "تعرفنا عليه كمحب لنا"، إذ بدأ الوصايا العشر بإعلانه عن نفسه "أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك..."(7) ولم يطلب الله منا شيئًا في العبادة إلاَّ أن نعرفه فنحبه، إذ يقول: "إني أريد حبًا لا ذبيحة(8)، ومعرفة الله أكثر من المحرقات".
وفي العهد الجديد جاء ابن الله مستجدًا لكي يحملنا فيه أعضاء في جسده نتعرف على حقيقة الآب وحبه لنا خلال ابنه.
ففي سرّ المعمودية أي سرّ الاستنارة، ربطنا المسيح بنفسه ويسمح لنا أن نشاركه علاقته بالآب، فندعوه أبًا لنا بنوالنا روح التبني. هكذا يستنير إنساننا الداخلي ليتعرف على الله على مستوى جديد لا تقدر خليقة ما أن تبلغه.
وفي سرّ الإفخارستيا أي سرّ الاتحاد بالله، يحمل ابن الله -رئيس الكهنة وحده- كنيسته فيه سريًا، مقدمًا معرفة حقيقية لله أبيه. وهكذا ندخل في المسيح يسوع إلى معرفته، محققين مفهوم العبادة الذي فشلت فيه البشرية قبلًا في ممارسته.
قدم ابن الله الآب عبادة فريدة على مستوى علاقة البنوة الطبيعية، فأطاع حتى الموت موت الصليب، وقبل منه الحياة الجديدة مع أنه هو بذاته القيامة. هذا النوع الفريد من العبادة خاص بالسيد المسيح وحده، إذ هو وحده يعرف الآب معرفة فريدة، ولم تكن هناك لحظة ما لم يكن فيها يسوع غير راغب أن ينفتح لحقيقة أبيه تمامًا(9).
قبوله الموت بإرادته هو معرفة فائقة لله أنه أب حق، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وعبوره إلى الحياة الجديدة هو قبول بغير تحفظ لأبيه كواهب لهذه الحياة الجديدة. هكذا في سرّ الإفخارستيا قام آدم الجديد، رأس الكنيسة كلها، بإعادة توجيه البشرية كلها إلى الله خلال معرفته لأبيه عمليًا. فإن كان آدم الأول خلال رفضه التعرف على ملكوت الله قد خرج بالإنسان إلى التغرب عن الله، فإن آدم الجديد تقرّب به لديه.
وإلى اليوم ليس لدى الكنيسة ما تقدمه للآب سوى ما قدمه له ابنه الوحيد الجنس خلال حلوله فيها خاصة في سرّ الإفخارستيا. لهذا فإن القداس الإلهي يمثل ذروة كل عمل تعبدي، تعتز به الكنيسة بكونه عمل المسيح نفسه الذي يقدمه للآب باسمها "فاتحًا قلبها لمعرفته". لذلك عندما سلّم الرب كنيسته هذا السرّ خرج إلى البستان يناجي أباه لحسابنا قائلًا(10): "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك...". لقد بلغنا الأبدية خلال استنارتنا بالمعرفة، فنعرف الآب "الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد"، ونعرف الابن الذي أطاع أباه وخضع للموت لكي يقبل عنا الحياة الجديدة فنختبر فيه ومعه القيامة من الأموات، ونعرف الروح القدس الذي أرسله الابن القائم من الأموات لكي نعيش بروحه إلى أن نلتقي معه وجهًا لوجه في يوم الرب.
حقًا يقوم الكتاب المقدس بتعريفنا عن الله وتدبيره الخلاصي، أما سرّ الإفخارستيا فيحدثنا عن الله حديثًا عمليًا خلال المصالحة التي تمت لنا مع الله في ابنه المصلوب عنا، ممزقًا الصك الذي علينا، فاتحًا أعيننا لمشاهدة محبته الفائقة. فعندما التقى المخلص بتلميذي عمواس يوم قيامته كان يفسر لهما الكتب موضحًا لهما تدبير الله الخلاصي من موسى والأنبياء وكان قلبهما ملتهبًا فيهما... لكنه إذ أخذ خبزًا وبارك وناولهما "انفتحت أعينهما وعرفاه"(11)، كمخلص شخصي لهما، قدم كل ما صنعه لحسابهما.
نخلص من هذا كله أنه في سرّ الإفخارستيا دخلنا إلى معرفة جديدة، خلالها نتدرب على تقديم ما للابن للآب كأنه منا، عبادة تقوم لا على روح العبودية والخوف بل بروح البنوة التي نمارسها خلال ثبوتنا في الابن الوحيد الجنس.
نستطيع أن نتفهم سرّ الإفخارستيا أنه "سرّ معرفة الله" خلال ابنه من صلوات القداسات الأولى، مثل:
* نشكرك يا أبانا
من أجل الحياة،
والمعرفة التي أعلنتها لنا خلال يسوع ابنك،
لك المجد إلى الأبد(12).
الدسقولية
* نشكرك أيها الآب القدوس،
لأجل أسمك القدوس،
من أجل المعرفة والإيمان والخلود،
هذه التي أعلنتها لنا خلال ابنك يسوع،
لك المجد إلى الأبد.
الدسقولية(13)
* نحمدك، أنت الذي يعرفك الابن الوحيد، الذي يعلن عنك للخليقة ويعرفهم بك.
نحمدك، أنت الذي يعرفك الكلمة، المولود منك، الذي يعلن عنك ويظهرك للقديسين.
قداس الأسقف سرابيون(14)
* لتتبارك نفوسهم بالفهم والمعرفة والأسرار لكي يشتركوا فيها، ليتبارك الكل معًا خلال الابن الوحيد يسوع المسيح...
قداس الأسقف سرابيون(15)
* هب لأجسادنا نموًا في النقاوة،
ولنفوسنا نموًا في الفهم والمعرفة...
خلال تناولنا الجسد والدم.
لك المجد والسلطان، بالابن الوحيد، في الروح القدس، إلى أبد الأبد آمين(16).
قداس الأسقف سرابيون
بقي لنا أن نتساءل:
كيف يمكن لإنسان رفض القداسة واحتضن الخطية أن يتحد مع القدوس ويتعبد له؟
في الليلة التي فيها سلم ربنا، بعد تأسيس العشاء الأخير، صلى قائلًا: "لأجلهم أنا أقدس ذاتي، لكي يكونوا مقدسين في الحق(17)"
لأجل تقديسنا نحن، قدّس القدوس ذاته "لا بقصد التطهير نفسه أو روحه، ولا لكي تكون له شركة في الروح القدس، لأن الروح القدس فيه بالطبع، فقد كان على الدوام قدوسًا ولا يزال قدوسًا وسيبقى إلى الأبد هكذا(18)، إنما أخلى نفسه حاملًا ناسويتنا ممثلًا إيانا، لكي كل ما يفعله إنما يكون باسمنا. فقبل تأنسه فشل الإنسان في التقديس، ولم يقدر أن يتعبد لله كما يليق. حقًا قدم محرقات وبخورًا وذبائح، لكنه عجز عن تقديم البرّ والطاعة والتواضع والرحمة والحب، كقول الرب "ليست لي مسرة بكم قال رب الجنود، ولا أقبل تقدمة من يدكم(19)". أما وقد صار الكلمة "اللوغوس" جسدًا، حملنا فيه، حتى إذ تجد العبادة الحقيقية طريقها فينا تجده فينا نحن أيضًا.
هو القدوس، قدم نفسه ذبيحة طاهرة مقدسة مقبولة لدى الآب، فيرانا الآب في سرّ الإفخارستيا جسد ابنه القدوس الذي بلا خطية، فنصير في عينيه مقدسين وعبادًا حقيقيين.
يقول القديس إيريناؤس: "الكنيسة الجامعة هي وحدها التي تستطيع أن تقدم لله الذبيحة المرضية لديه، ذبيحة الإفخارستيا، التي أعلن عنها الأنبياء(20)". وهكذا بدالة تدخل قدام العرش في دائرة الصليب لتقدم عبادة المسيح، وحب المسيح، وطاعة المسيح، وذبيحة المسيح، وحياة المسيح، وقداسة المسيح... كأن هذا كله خاص بها.
يمكننا أن نلمس هذا الفهم من صلوات التقديس الواردة في الليتورچيات القديمة.
ففي الصلوات الليتورچية الواردة في التقليد الرسولي(21) يصلي الكاهن في صلوات الذكرى (أنامنسيس) وحلول الروح القدس قائلًا:
"إذ نذكر موته وقيامته نقدم لك الخبز والكأس،
شاكرين لك إذ حسبتنا أهلًا أن نقف قدامك ونخدمك...
هب قديسيك الذين يشتركون في قداساتك أن يمتلئوا من الروح القدس".
وفي القداس الباسيلي يصلي الكاهن قائلًا(22):
"ففيما نحن نصنع آلامه المقدسة وقيامته...
نقرب لك قرابينك من الذي لك".
وفي صلاة حلول الروح القدس يقول:
"ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين...
ويظهرها قدسًا لقديسيك".
الكنيسة، كجسد المسيح تدخل بدورها وتتمم ما قد صنعه مرة لأجلنا، لأنها واحد معه، فتقدم لله ما قدمه الابن الوحيد. هذا ما أعلنه القديس أيريناؤس إذ قال: "إذ نحن نقدم ما له نعلن على الدوام تبعيتنا واتحادنا بالجسد والروح(23)".
لا يمكن عزل السيد المسيح عن كنيسته، فهما واحد، لهما رسالة واحدة وغاية واحدة...
يقول القديس أغسطينوس أنه عندما كان السيد المسيح على الأرض منظورًا، كانت كنيسته مختفية فيه، يفعل كل شيء لحسابها، والآن صعد السيد المسيح إلى السماء وصار مختفيا في كنيسته فتعمل هي كل شيء باسمه ولحسابه.
أخيرًا يمكننا أن نقول أنه في سرّ الإفخارستيا نرى الكنيسة هي "المسيح المستمر في عمله خلال جسده السري، فلا تقدم إلاَّ ما هو له، مقدمة نفسها فيه". وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: "الكنيسة واحد مع الرب، هي جسده من لحمه وعظامه".
_____
(4) Shaf: Hist. Of the Christian Church, Vol. 2. p 235.
(5) Gregory Dix: The shape of the Liturgy.
(6) Gen. 3 : 10.
(7) Exod. 20 : 2.
(8) Hos 2 : 2. النص البيروتي "أريد رحمة لا ذبيحة"
(9) B. J. Cook.: Christian Sacraments and Christian Personality. P 264.
(10) John 17.
(11) Luke 24.
(12) Didache: The prayer of the “sanctification of the Bread”.
(13) Didache: Prayer after the Communion.
(14) The Eucharistic Prayer.
(15) Prayer of Blessin for the Congregation.
(16) Prayer on Breaking of the Bread.
(17) John 17.
(18) St. Clement of Alexandria. Library of The Fathers, V. 43, Com. on Jn.
(19) Mal 1 : 10.
(20) St. Irennaeus: against Heresies 4 : 17.
(21) The Apostolic Tradition: Anamnesis & Epiclesis prayers.
(22) Before the Epiclesis.
(23) Against heresies 4 : 18.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/jesus-eucharist/adoration.html
تقصير الرابط:
tak.la/wsm859y