لا نستطيع أن نفصل الإيمان عن حياتنا اليومية ؛ إذ للإيمان دور أساسي في عبادتنا وعلى مفاهيمها واشتياقاتنا وفي سلوكنا. ونود هنا أن نذكر بعض الأمثلة للكشف عن أثر الإيمان الثالوثي على حياتنا.
1. يجب أن نميز بين الوحدانية التي تقوم على الإيمان الثالوثي والوحدانية المطلقة التي قامت في مواجهة تعدد الآلهة. فالإيمان بتعدد الآلهة تأسس غالبًا على الصراع بين هذه الآلهة، مما كان له أثره على حياة الإنسان الداخلية، حيث يجد الإنسان في الصراع نموذجًا لحياته؛ فيمارسه الإنسان ليس فقط ضد الآخرين وإنما حتى ضد نفسه. وكما سبق فقلت إن الوحدانية كانت لازمة لفهم العهد القديم حسنًا لمنع الناس من السقوط في تعدد الآلهة، لكن إن فهمنا الوحدانية خارج الإيمان الثالوثي نظن في الله كائنًا جامدًا هائلًا ومخيفًا، ذا سمات مطلقة، يخلق هذا الإيمان نوعًا من "الفردية والانعزالية"، إذ يتطلع المؤمن إلى الله كمثال له، فيراه الوحيد الذي لا يُدنى منه، كمن هو معتزل في سموا ته، لا تقوم فيه أية حركة. أما الإيمان بالوحدانية خلال سرّ التثليث فيقدم نموذجًا إلهيًا للمؤمنين عن "وحدة الحب". فيحثنا على ممارسة الحب على أثر خطوات الثالوث القدوس وخلال عمله فينا.
2. في هذا السرّ نتعرف على "الأبوة والبنوة" في معانيهما اللانهائية، فالآب يلد الابن كما يولد النور من النور، مقدمًا له ذات جوهره. هذه العلاقة الفريدة لا يمكن أن توجد خارج الله، أقصد أن للآب والابن جوهر واحد بسيط. خلال هذه العلاقة نتمتع بالتبني لله، إذ نقبل الآب أبانا باتحادنا معه في ابنه الوحيد. خلال هذا السرّ لا تحصر علاقتنا بالله في دائرة ضيقة كعبيد مع سيدهم، إنما يقبلنا أولادًا له )رو15:8-23، أف5:1).
خلال هذه العلاقة الجديدة نتمتع بحركة حب إلهي لا تتوقف، مترجين لا أن ننال مباهج منافع من الله في هذا العالم الحاضر أو الدهر الآتي، بل نقتنى الله نفسه، نرث أحضانه كمسكنٍ أبديٍ لنا. بمعنى آخر يحول الإيمان الثالوثي علاقتنا بالله من علاقة منفعة ذاتية إلى شركة حب متبادل.
3. يهبنا الإيمان الثالوثي فهمًا متسعًا للكمال إذ يتساءل البعض: كيف يمكن أن يكون الآب كاملًا في سماته وهو لا ينفصل عن الابن والروح القدس (أي يشاركانه سماته)؟ ونفس الأمر بالنسبة للابن والروح القدس. نجيب على هذا التساؤل بأن الكمال الحقيقي لا يُستعلن خلال الاكتفاء الذاتي والانعزالي، وإنما خلال حركة الحب الأزلية في الله والعلاقات المتبادلة اللانهائية.
يبلغ الإنسان (والحياة البشرية) الكمال لا بتمجيد الإنسان ذاته ولا باكتفائه بذاته، وإنما خلال الوحدة مع الغير القائمة على الحب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. الإنسان الكامل ليس هو من يغذى الذات ego من أجل اقتناء مجدٍ باطلٍ ونفعٍ لحسابه، بل هو ذاك الذي يحب الغير ويقبل حبهم له.
4. للإيمان الثالوثي أثره على كل الحياة البشرية اذكر على سبيل المثال:
ا. في العهد القديم لم يكن المؤمنون قادرين على قبول الإيمان الثالوثي الذي يؤكد الوحدانية الحقة. كان لهذا النقص أثره على عبادتهم، إذ تطلعوا إلى الله ككائنٍ لا يدنى منه، يعبدونه خشية أن يغضب عليهم. أما في العهد الجديد إذ قبل المؤمنون الإيمان الثالوثي تعرفوا على الله الذي يعلن حبه باحتضانه للبشرية واجتذابهم إلى الحضن الأبوي لينعموا بأسراره ويشاركونه أمجاده. لم يعد البشر مجرد آلات تخدم الله بطريقة آلية، إنما هم أبناء محبوبون يتمتعون بالأسرار الإلهية.
ب. يستأصل الإيمان الثالوثي كل جذور (الأنانية egoism)، فإننا إذ نرفع صلواتنا يجتذبنا الإيمان إلى الثالوث القدوس، الحب السرمدي، فنصلي من أجل خلاص كل البشرية بقلب متسع منفتح!
ج. للإيمان الثالوثي أثره حتى على حياتنا الاجتماعية، فإذا اخترنا الزواج نترجى في الأسرة أن تكون أيقونة المحبة الثالوثية، يجد مسرته في مسرة الغير، ويعمل كعضوٍ في الجسد لأجل بنيان الأسرة كلها. بهذا المنظار ماذا تكون الأسرة سوى وحدة حب حقيقي، فيها يشتاق كل عضو أن يعطى لا أن يأخذ؟! من جانب آخر إن اخترنا الحياة الديرية نقدم قلبًا مفتوحًا نحو الكنيسة كلها بل ونحو العالم اجمع، هذا ما نعلنه خلال سجدًاتنا (مطانياتنا) المستمرة وصلواتنا الدائمة من أجل كل البشر!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/god/trinity-daily-life.html
تقصير الرابط:
tak.la/46s8ckt