في السجن بنيقية
القيام به إلى كوكوزة
الحواشي والمراجع
خرج القديس إلى الميناء إلى نيقيَّة، حيث بقى في السجن حوالي أربعين يومًا أو أكثر يذوق فيها المرارة، أما هو فلم يشتكِ من ذلك، بل ظلت نفسه تتقد غيرة نحو خلاص الناس في سوريا وفينيقية. لم يستطع السجن ولا المستقبل المجهول أن يلهيانه عن رسالته، فقد التقى في نيقية براهبٍ تقيٍ زاهدٍ، ولم يكن حديثه معه إلا في الخدمة والكرازة، وإذ وجد فيه استعداد للخدمة في فينيقية أرسله إلى كاهن صديقه قسطنديوس الذي يعمل هناك متكبدًا مضايقات الكثيرين من الوثنيين والإخوة الكذبة(14).
تستطيع أن تلمس روح القديس مما جاء في رسالته إلى الكاهن قسطنديوس(15):
[إني أكتب إليك الآن لكي أحثك على إتمام ما نصحتك به، فإن رأيت بحر هذا الاضطهاد قد هاج، وتعالت أمواجه إلى السحاب، فلا تهمل شيئًا واحدًا مما أنت ملتزم به.
أهدم نفاق الوثنيين.
شيد الكنائس، واهتم بخلاص النفوس.
إن رئيس المركب لا يترك الدفة بسبب صدام الأمواج، ولا يهمل الطبيب المريض من أجل خطر مرضه. إذن لا نضطرب من الشرور الآتية، فإن الله لا يحاسبنا على ما يمسنا من شر، بل يكافئنا عليه إن احتملناه بصبر. أما إذا تغاضينا عن خدمته وأهملنا ما يتعلق بعبادته وخدمة كنيسته، فإنه لا يمكننا أن نعتذر لديه باضطرابات الزمن أو شدة الاضطهاد، لأن بولس الرسول الموثق بالقيود، ويونان في بطن الحوت، والثلاثة فتية في أتون بابل كانوا يقومون بما يجب عليهم. اقتد إذن بهم، مهتمًا بأمر الكنائس وتُكتب لي كم كنيسة قد بنيت هذا العام؟ ومن هم الذين مضوا إلى بلاد فينيقية ليخدموا هذا الكرم الجديد؟ وماذا يرجون هناك من خير؟]
هذه صورة من رسائله التي بلغت حوالي 242 رسالة -طوال فترة نفيه- كلها تحمل مشاعر كرازة وتشجيع وتثبيت في الإيمان بروح مسيحي حق، تكشف عن قلب مملوء إيمانًا وسلامًا داخليًا في رجاءٍ عجيبٍ.
تستطيع أن تدرك مشاعره الداخلية في أغلب فترة نفيه مما كتبه إلى الأسقف قرياقوس Cyriacus(16).
[عندما استبعدت من المدينة لم أقلق، بل قلت لنفسي:
إن كانت الإمبراطورة ترغب أن تنفيني، فلتفعل ذلك، فإن "للرب الأرض"!
وإن كانت تود أن تنشرني، فإني أرى إشعياء مثلًا!
وإن أرادت إغراقي في المحيط، أفكر في يونان!
وإن أُلقيت في النار، أجد الثلاث فتية قد تحملوا ذلك في الآتون!
إن وُضعت أمام وحوش ضارية، أذكر دانيال في جب الأسود!
إن أرادت رجمي، فإن إسطفانوس أول الشهداء أمامي!
إن طلبت رأسي، لتفعل، فإن المعمدان يشرق أمامي!
عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريان أترك العالم.
بولس يذكرني: إن كنت بعد أرضي الناس لست عبدًا للمسيح.]
أودع البطريرك في السجن بنيقية حتى يصدر الأمر الإمبراطوري بتحديد مكان النفي... وفي السجن كتب رسالته الأولى إلى أولمبياس شماسته المتألمة لكي يعزيها ويسندها، قائلًا:
[كلما قَستْ التجارب ازدادت وسائل التعزية...
إن كنا نبحر في بحر كهذا -وسط دوامات وصخور، في ليلة غير قمرية ظلامها دامس- لكننا أفضل حالًا من الذين هم في داخل الميناء يتأرجحون!
تأملي هذا يا سيدتي المحبوبة جدًا من قبل الله. ارفعي أفكارك عن الاضطرابات، وتكرمي علينا بإرسال أخبارك.
فمن جهتنا، نحن بصحة جيدة مملوءين نشاطًا. بالحقيقة جسدنا قوي، نستنشق هواءً نقيًا، وجنود الإمبراطور(17) المرافقون لي في المنفى يحبونني للغاية ويتفننون في خدمتي، ولا يتركونني معتازًا إلى شيءٍ كأنما هم حرسي...!
شيء واحد يؤلمني: إني غير مطمئن من جهتك...
إن أردتي أن تكتبي لنا فالجئي إلى ابننا المحبوب جدًا وسيدي برغاموس، فهو مضمون وملتصق بنا جدًا، وهو يحترمك جدًا من أجل عفتك وتقواك(18).]
أخيرًا جاءت رسالة من الإمبراطور أركاديوس إلى المتعهد بالبطريرك تأمره بالقيام به إلى كوكوزة في أقصى بلاد أرمينية، كمقرٍ نهائي لنفيه، كما جاءت الأوامر مشددة أن يكون التعامل معه قاسيًا، وأن يواصلوا السفر نهارًا وليلًا، إجهادًا وتعجيلًا...
عبثًا حاول البطريرك أن يغير مكان نفيه، إذ كتب في إحدى رسائله: [لم أستطيع أن أحصل على هذا الرجاء البسيط، الذي لا يُرفض للمجرمين. ولكن ليكن اسم الله مباركًا!(19)]
وفى ليلة رحيله من نيقية، في الثالث من شهر يوليو كتب إلى شماسته أولمبياس رسالة يطمئنها بنفس العبارات التي سجلها في رسالته الأولى، يطمئنها على صحته الجسدية واهتمام المرافقين له به، مطالبًا إياها أن تكتب له في صراحة لا عن صحتها الجسدية فحسب، بل أن تؤكد له أن سحابة الحزن قد زالت عن فكرها: [إن كنت تخبريننا حقًا بهذا في رسائلك، فإنني أكتب لك ما دامت هذه الرسائل تأتي بنتيجة عظيمة... اثبتي لي في وضوح أنكِ تستفيدين برسائلي المتكررة فتجدينني في خدمتك أكتب بكثرة(20).]
أخيرًا عاتبها معلنًا شدة حزنه لوصول كثيرين إليه من القسطنطينية دون أن يحملوا إليه رسالة منها.
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(14) Theodoret 5: 29.
(15) قطف الأزهار من مروج الأحبار.
(16) N & PNF, series2, vol 9, p 14.
(17) التعبير اليوناني يشير إلى جند تابعين لبلاط الإمبراطوري...
(18) Ep 11 ad Olympias PG 52: 609. (كتبها في يونيو 404)
(19) Epistle 120. PG 52: 674-675.
(20) Epistle 10 PG 52: 608-609.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/nicea.html
تقصير الرابط:
tak.la/x5x32sk