جاء ذكر "المسحة" في الكتاب المقدس لأول مرّة عندما رأى يعقوب في حلمٍ سلمًا منصوبًا على الأرض ورأسه يمس السماء، والرب واقف عليه وملائكة الله صاعدين ونازلين، قال: "ما أرهب هذا المكان، ما هذا إلاّ بيت الله! وهذا باب السماء!" ثم أخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وصبّ زيتًا على رأسه (تك 28: 12-18). جاءت المسحة تعلن تقديس الموضع وتكريسه ليكون "بيت إيل" أو "بيت الله".
وأوصت الشريعة الموسويّة بمسح أشخاص (الملوك والكهنة)، وأماكن (الهيكل)، والآنية المكرّسة لخدمة بيت الرب... غاية هذه المسحة أن الشخص أو الشيء يصير مكرّسًا لله وحده. كان هذا كلّه عبر الأجيال يشير إلى مجيء المسيح الذي مسحه الآب بزيت البهجة (مز 45: 7) ليبشّر المساكين (إش 61: 1). فهو موضع سرور وبهجة الآب، لأنّه وهو الكلمة الإلهي والابن وحيد الجنس يتجسّد ليصالح البشريَّة كلّها مع الآب، فيبعث بالفرح السماوي على المساكين الذين حرموا من فيض بهجة الحياة السامية. مُسح السيد المسيح بزيت البهجة لكي نُمسح نحن فيه، بكوننا أعضاء جسده، فنُحسب مسحاء.
* دُعي المسيحيّون بهذا الاسم، لأنّهم ممسوحون بزيت الله[23].
* مَن اعتمد يلزم أن يُمسح أيضًا، لكي يصير بواسطة المسحة ممسوحًا لله ويأخذ نعمة المسيح[24].
* الذي يتخلّص من خطاياه في العماد يتقدّس ويتجدّد روحيًّا في إنسانٍ جديد، وبهذا يتهيّأ لقبول الروح القدس[25].
* إن اسم المسيح من المسحة، فكل مسيحي يقبل المسحة، إنّما ذلك ليس للدلالة على أنّه صار شريكًا في الملكوت فقط، بل صار من المحاربين للشيطان.
* بحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: "لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 15:105).
جُعلتم مسحاء بقبولكم نموذج[26] الروح القدس. وكل الأشياء عُملت فيكم اقتداءً (بالمسيح) لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن ونشر معرفة ألوهيته في الماء. وصعد منها وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من الينابيع المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسح به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: "روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني" (إش 1:61).
لأنه لم يُمسح المسيح بأناسٍ بزيتٍ أو دهنٍ ماديٍ، لكن الآب عيّنه من قبل ليكون مخلصًا للعالم أجمع، كما قال بطرس: "يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع 38:10).
صرخ داود النبي أيضًا قائلًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرّ وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 6:45، 7).
وإذ صُلب المسيح ودفن وقام حقًا، أنتم في العماد حُسبتم جديرين أن تُصلبوا وتُدفنوا وتقوموا معه على مثاله: هكذا في الدهن أيضًا. وكما مُسح بزيتٍ مثاليٍ، زيت الابتهاج، لأنه منشئ الفرح الروحي، هكذا أنتم مُسحتم بدهن، إذ أصبحتم شركاء للمسيح وأتباعه[27].
* لكن احذروا أيضًا لئلا تظنوه دهنًا بسيطًا، لأنه كما في خبز الإفخارستيا بعد حلول الروح القدس لا يصير خبزًا عاديًا بعد، بل جسد المسيح، هكذا هذا الدهن لا يكون دهنًا بسيطًا أو عاديًا بعد الصلاة، لكن هي موهبة المسيح بالنعمة وبحلول الروح القدس أصبح لائقًا لعلم طبيعته الإلهية.
الدهن الذي يرمز بالرشم على جبهتك وحواسك الأخرى.
وإذ يُرشم جسدك بالدهن المنظور تطهر نفسك بالروح القدس واهب الحياة.
ورُشمت على الجبهة كأنك تتخلص من العار الذي حمله الإنسان الأول معه في كل مكانٍ، وأنه بوجه مكشوف كما في مرآة ناظرين مجد الرب (2 كو 18:3). ثم على آذانك حتى تتقبل الآذان سريعًا سماع الأسرار الإلهية التي قال عنها إشعياء النبي: "أعطاني الرب أذنًا للسمع". وقال سيدنا الرب يسوع المسيح: "من له أذنان للسمع فليسمع" (مت 15:11؛ مت 9:13، 43؛ مر 9:4، 23؛ 16:17؛ لو 35:14). ثم على الأنف حيث تتقبل الدهن المقدس، فيمكنك أن تقول: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون" (2 كو 15:2). بعد ذلك على صدرك، حيث "قد لبستم درع البرّ" (أف 14:6)، حتى تقدروا "أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف 11:6).
لأن المسيح بعد عماده وحلول الروح القدس ذهب وغلب الشرير، هكذا أنتم أيضًا بعد العماد المقدس والمسحة السرية، إذ لبستم كل سلاح الروح القدس، لكي تقفوا ضد قوة الشرير وتقهروه قائلين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 13:4)[28].
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
* نزول الروح عليه في الأردن إنّما كان نزولًا علينا نحن، بسبب لبسه جسدنا.
وهذا لم يصر من أجل ترقِّي اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في محبته، ولكي يُقال لنا: "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟" (1 كو 3: 16)
فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسانٍ، كنّا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته. وحينما اقتبل الروح، كنّا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته. ولهذا السبب، فهو ليس كهرون أو داود أو الباقين، قد مُسح بالزيت هكذا، بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه، أي بزيت الابتهاج (مز 45: 7-8)، الذي فُسّر أنه يعني الروح، قائلًا: "كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع 10: 38).
متى قيلت عنه هذه الأشياء، إلا عندما صار في الجسد، واعتمد في الأردن، ونزل عليه الروح (مت 3: 16)؟ وحقًا يقول الرب لتلاميذه إن "الروح يأخذ مما لي" (يو 16: 14)، و"أنا أرسله" (يو 16:7)، و"اقبلوا الروح القدس" (يو 20: 22). إلا أنه في الواقع هذا الذي يُعطي للآخرين ككلمة الآب وبهاءه، يُقال الآن أنه يتقدّس يسوع، وهذا من حيث أنه قد صار إنسانًا، والذي يتقدّس هو جسده ذاته[29].
* ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد، الذي هو واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا، ولهذا فمن المؤكد أننا كنا نحن الذين قبلنا الروح القدس حينما قيل أنه مُسح بالجسد. لأن جسده الخاص هو الذي تقدس أولًا، وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحن نعمة الروح آخذين إياها "من ملئه"[30].
* كان سكب للروح علينا، أما للرب يسوع الذي كان في شكل إنسانٍ، فالروح استقر عليه... بخصوصنا فإن سخاء المُعطي يعين بفيضٍ، أما بالنسبة له فيسكن فيه كمال الروح أبديًا. يسكب إذن حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، أما ما هو له فهو وحدة الكمال الذي به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيرًا نحن نتقبل حسب ما يتطلبه تقدم ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير منظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا[31].
* لداود الحق أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدد، "وسآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي" (مز 43: 4). كما قال قبلًا إنه شاخ وسط أعدائه... وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضًا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: "فيتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5) فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيَّض أكثر من الثلج" (مز 51: 9) وفي إشعياء: "إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1: 18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلًا. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلًا بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج[32].
* الأشخاص الروحيون الآن، الذين يُمسحون بالمسحة السماوية يصيرون مسحاء حسب النعمة، فيكونون هم أيضًا ملوكًا وأنبياء للأسرار السماوية[33].
* جميع الصديقين صوَّروا المسحة وزيّنوها باستعلانهم.
وصف كل واحدٍ منهم جمالها في الزمان الذي بلغه.
وأتى موسى، ووضع المائدة في مسكن الزمان، وقدسها بدم الذبائح والزيت.
بالزيت أعطى صموئيل المملكة لبني شعبه.
وخدم إليشع أيضًا بالسرّ مسحة الملوك.
المسيح هو علة جميع الرتب المسيحية، وبه خُدمت جميع الأسرار النبوية...
رسم سيد الغنم المسحة[34].
_____
[23] To Autolycus, 1:12.
[24] Letter, 70.
[25] Episle 74:6.
[26] الكلمة اليونانية "نموذج" لا تعني نموذجًا رمزيًا، بل كما ورد في عب 24:9.
[27] مقال 21 (الأسرار 3): 1، 2.
[28] مقال 21 (الأسرار 3): 3، 4.
[29] Adv. Arian., 1:12:47. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[30] الرسالة ضد الآريوسيين 1:1: 50.
[31] Of the Holy Spirit 1:8:93.
[32] Prayer of David, Book 4:9:35.
[33] عظة 1:17.
[34] ميمر "على تجديد الهيكل".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrism/christs.html
تقصير الرابط:
tak.la/zta5ytv