انطلقت أشعّة الشمس تمرح على أقبية المدينة العظيمة، تقفز كطفلٍ صغيرٍ يلهو على أسطح المعابد الشاهقة والبنايات المُمتدة، أُطفِئَت سُرج المساء ليحلّ محلّها نور النهار العابث عبث المدينة المصريّة الإغريقيّة العريقة.
خرج إليوس من بيته الواقع على شاطئ البحر مُتّجهًا إلى الموسيون. كان مُعتادًا أن يسلك الطريق على شاطئ البحر لينعم بهواء الصباح البِكر لعلّه يوقظ فيه أحلامًا جديدة عوضًا عن شعوره بالحزن لفقدان والدته منذ أيامٍ خلت. فالبحر يداوى الجراح، وكأنّ أملاحه تُطهِّر ما رسب في النفس من حزّ الزمان بمبضع الفراق والغياب..
كان إليوس شابًا يافعًا سكندري المولد، رشيق القوام كآلهة الإغريق. ذو ملامح هادئة، عيناه العسليّتان تلتمعان في ضوء الشمس وكأنّ رعشة المعرفة التي تملك قلبه تتحوّل إلى رعشة ضياء في عينيه. حليق اللّحية تشبُّهًا باليونان، شعره جَعُدٌ بلون عينيه. يرتدي التونيك (اللفاعة) الروماني، مُنتعلًا حذاءً جلديًّا مشدودًا في لفّةٍ أفعوانيّةٍ على قصبة ساقه العارية.
والده كان يعمل في القوات المُساعدة والتي تُعاون الفيالق الرومانيّة في تأمين البلاد، وقد نال الجنسيّة الرومانيّة كتكريمٍ له بعد أن قضَى في الخدمة العسكريّة ثلاثون عامًا.
خالط إليوس اليونانيين كثيرًا في المدينة وكان كثير التردُّد على الموسيون، حيث كان الشغف يستبدّ به لفرط حُبّه للعلمِ ولفرط اندهاشه من هذا المجتمع الذي تكرّس تمامًا للتجارب العلميّة، وخاصّة في الفلك الذي كان له سحرٌ خاصٌ، فهو أشبه بجعبة مليئة بالأسرار والغموض تنادي على إليوس ليفكّ بعضًا من ختومها.
من بين الأساتذة الذين كان يُرافقهم على الدوام، بسكينوس، وهو عالمٌ من علماء الفَلك، إلاّ أنّ حُبّه للفلسفة لا يقلّ عن شغفه بالفَلك، عمله الأساسي. لقد كان يرى أنّ البحث العلمي يجب أنْ ينبُع من منظورٍ ورؤيةٍ فلسفيّةٍ، فالفَلك، مخزنُ الأسرار والأساطير، يُؤكِّد على حقيقة غير التي نحياها ههنا على الأرض. فما هو مرئي ليس سوى غلاف للحقيقة، وكلّما تكرّس الشخص للمعرفة الحقّة، ملتزمًا طريقًا أخلاقيًّا مُنضبطًا سيحظَى بمعرفةِ الحقيقة.. وقتها سينعم بسعادة غامرة وتتحقّق إنسانيّته في ملئِها.
كان بسكينوس أحد تلاميذ العالِم الشهير بطليموس الذي وضع كتاب الأطروحة الرياضيّة (المجسطي) في الفَلك، وقد نال هذا الكتاب شهرةً كبيرةً.
لم يكن إليوس قادرًا على فهم نظريّة بسكينوس تمامًا ولكن كلمات الأخير كانت مُحمّلة بنغمة تُريح النفس وتعلو بها فوق المحسوسات وتأخذها في رحلةٍ من النشوة وكأنّها لحظات من الحقيقة المُجرّدة. كان ما يجتذب إليوس طعم الكلمات وسرائريتها.
وصل إليوس إلى الموسيون، فخر الإسكندريّة..
الموسيون هو المكان الذي يرتاده العلماء والأدباء والفلاسفة ليركبوا قاطرة العِلم، ويشرف عليه الكاهنُ الأعظمُ الذي لمعبدِ سيرابيس. المكان أشبه بمدينة أكاديميّة كبيرة ينكبّ فيها الجميع على البحث عمّا هو جديد في شتّى المجالات، كما كان موطنًا لمَنْ أراد التتلمذ على أيدي صفوة علماء وأدباء وفلاسفة العالم آنذاك.
كان يشعر حينما يدخل من بوابته العالية أنّه دخل إلى عالمٍ آخر لا يوجد فيه سوى العلم والفكر والثقافة؛ عالم ربّات العلم والمعرفة: آل موساي، بنات الإله زيوس والإلهة منيموسوني، إلهة الذاكرة.
كانت تماثيل ربّات المعرفة تنتشر في المكان؛ فها هي كليو ربّة التاريخ حاملة السجل الكبير، وكاليوب ربّة الشعر الملحمي وصاحبة الصوت الشجي، أمّا إيراتو ربّة شعر العشق والهوى، تقف حاملة قيثارتها وكأنّها تعزف على أوتار القلوب، وكثيرًا ما كانت تُولَد قصص للحبّ تحت أقدامها.
إيوترب ربّة السعادة تحمل في يديها الرفيعتين، فلوت، داعيةً الجميع لقنص لحظات السعادة من بين أجنحة الحياة، وإلى جوارها تقف ملبومين ربّة التراجيديا وهي حاملةٌ لقناعٍ حزينٍ وكأنّها تجسُّد مآسي البشر وجراحهم، وتجاورها بوليمنيا ربّة الألحان ذات النظرة الساجية الساهمة، بينما تربسكور ربّة الرقص والغناء تحمل قيثارتها وكأنّها ترقص على أنغامها، أمّا ثاليا تلك الزهرة المتفتّحة هي ربّة الكوميديا وتحمل قناعًا ضاحكًا، وأخيرًا تقف يورانيا بشموخها وتطلُّعها السمائي.
التماثيل المرمريّة والذهبيّة كانت تحتضن أشعّة الشمس لتُرسِلها عزةً وجلالًا في أعين البشر.
كان يُبهِر إليوس القادمون من كلّ مكانٍ في العالم، إلى الموسيون، ليتعلّموا وليتعايشوا معًا.
كان يحيط بالموسيون باحة كبيرة بها صور وتماثيل من فضةٍ وذهبٍ إغريقيّة الجمال، على ساحتها الفسيحة نَمَت الأشجار وأُقيمت الدهاليز والممار المسقوفة والمكتبات الفرعيّة وحُجرات خاصة بالرجال وأماكن خلوات العبادة.
عَبَرَ إليوس الممر ذو الرواق المسقوف، وكان على جانبيه مقاعد قد شغلها بعض العلماء، منهم مَنْ يقرأ في برديةٍ، ومنهم مَنْ كان يُدوِّن خواطره الفكريّة، ومنهم مَنْ اشتبك في حوارٍ مع آخرين، ومنهم مَنْ جلس مُرتديًا التوغا الرومانيّة (الجبّة) وهو ينسجُ في قريحة بعض الشباب أولى خيوط المعرفة.
لم تكن عينا إليوس تشبع من تلك المناظر التي يراها بشكلٍ يوميٍّ، وكأنّه يريد أنْ يخترق كلّ الجلوس لينهب أسرارهم العلميّة ويُخبّئها في خزانة عقله الذاتيّة. الشغف كان أوّل ما يتلقّنه مرتاد المكان، فمَنْ يتجمّد في المعرفة يتراجع إلى الخلفِ. فالمعرفة حركة وتفاعُل ومغامرة وطموح لا ينتهي ولا يشيخ ولا يتوقّف..
كان شغفُ الدارسين للعلوم أشبه بروح تنسلّ إلى كلّ من وطأ المكان بقدميه، وكأنّ روح الإسكندر مُؤسِّس المدينة كانت في المكان لا تفارقه، وهو الذي قال عنه بلوتارخوس إنّه: كان شديد الشغف بالعلم، شغفًا يزداد على مرّ الأيام.. وكان مُولعًا بجميع أنواع المعارف، مُحبًّا لقراءة جميع أنواع الكتب. كما كانت تتردَّد على ألسنة مرتادي الموسيون عبارة أرسطاطاليس أنّ العِلم هو ما يمتازُ به الحيّ عن الميّت.
رقَى درجات السُلَّم حتّى وصل إلى المرصد، كعادته، الذي ازدانت جدرانه بالصور الزاهية المُطعّمة بالحجارة الغالية الثمن. توجّه إلى بسكينوس الذي كان مُنهمكًا في رصد حركة بعض النجوم وتدوين معادلات حركتها حسابيًّا. وحالما رآه بسكينوس، قال:
- مرحبًا إليوس، تأتي في موعدك دائمًا.
- لقد علّمتني أنّ العِلم لا ينتظر أحدًا.. ومَنْ يتأخّر على المعرفة أغضب ربّاتها.
- حسنًا، سنبدأ بعد عِدّة دقائق.
أخذ بسكينوس يُدوِّن ملاحظاته في هدوءٍ ورويّةٍ، ثم أغلق الرقَّ ووضعه على الطاولة، وجلس على مقعده ذو الأرجل العاجيّة المخروطية، وبدأ يتوافد حوله الطلبة حتّى شكّلوا نصف دائرة.
بدأ يشرح لهم الجدول الذي وضعه بطليموس في النجوم والذي يحوي تفاصيل حوالي ألف نجمٍ يدورون في الفضاء الفسيح.
حديثهم كان يمتدّ من الفَلك إلى شتّى مناحي العِلم والمعرفة. ونهمهم المُتفجّر لم يكن يشبع من التساؤلات، كما لم يتضجَّر الشيخ من كثرة الأسئلة. كان بسكينوس يتلقّى الأسئلة ليُجيب على بعضها ويحيل ما لا يختصّ به إلى آخرين من معلّمي الموسيون..
كان بسكينوس أفلاطونيًّا، لذا كانت الفرصة سانحة لكيما يعرض إليوس عليه فقرةً قد قرأها لأفلاطون ولم يستوعب مغزاها.
- يا مُعلِّم، لقد قرأت أنّ أفلاطون كان مُتردِّدًا في فهمه لعمليّة الخلق والآلهة.
- وكيف ذلك وهو الذي وضع نظريّة المُثُل، وقال بأنّ الخليقة أوُجدت على يد الصانع؟
- هاك ما قرأته على لسان أفلاطون:
لا تعجبوا إذا نحن عجزنا في وسط الآراء المختلفة عن الآلهة وخلق العالم، الاهتداء إلى آراءٍ تتميّز بدقّتها وتوافقها التّام من كلّ ناحيةٍ.. فعلينا أنْ نذكُر أنّني أنا الُمتحدِّث مُجرّد إنسان من الفانين، كما أنّكم أنتم القائمون بالحُكم مُجرّد أُناس فانون. لذا علينا أنْ نقبل أقرب الحكايات إلى الاحتمال وألّا نسترسل في البحثِ.
لفّ إليوس الرقّ الذي كان يقرأ منه، بينما توجَّهت الأعين إلى بسكينوس.
بعد نظرةٍ عميقةٍ إلى الأرض، ولحظاتٍ من الصمتِ، رفع عينيه إليهم قائلًا: إنّ هذا لسرّ عظمة أفلاطون، إذ أنّه على الرغم من إبحاره العقلي في أسرار الكون إلاّ أنّه يعترف بأنّ نظريته هي أقرب احتمال مُمكن. ولكن، طالما أنكم أردتم التوغُّل في الفكر الأفلاطوني، فعليكم ببلينوس، ستجدونه في الجناح الشرقي، فهو أجدر منّي على شرح فكر مُعلّمنا العظيم أفلاطون، أمّا أنا فلدي رحلة مع الأفلاك والنجوم عليَّ رصدها..
قام الجميع وتفرّقوا، إلاّ أنّ إليوس توجّه إلى بلينوس في المكان الذي أشار إليه بسكينوس.
كان بلينوس شيخًا صحيح الجسد، ذو لحية كثيفة بيضاء، كثُّ الشعر، بسيط الملبس، تعلو ظهره انحناءة كما للعلماء والمفكّرين، عيناه صغيرتان وكأنّهما ضمرتا من فرط الاستخدام، يُغلّف مجلسه صمتٌ وهدوءٌ.
اشتهر بلينوس في الموسيون ببحثه الدائم عن طبيعة الحياة بعد الموت. ومنذ بضعة أسابيع، اشتعل لهب الحوار بينه وبين أحد زملائه من أتباع المذهب الأورفي (نسبة إلى أورفيوس الذي عاش في تراقيا قبل عصر هوميروس)، إذ رفض بلينوس أنْ يكون مقرّ الروح الأخيرة في مجلسٍ تهنأ فيه بالطعامِ والشرابِ الخالدين. كما رفض أيضًا معتقدهم بأنّ النفس أسيرة الجسد كعقاب قديم للإنسان حينما تذوّق التيتان (مردة وشياطين) لحم ديونيسوس. كان لديه شعور ينسجه العقل أنّ كلّ ما هو مخلوق له هدف وفائدة وقيمة تبرز حينما نتصوَّر غيابه، وأنّ العالم الآخر له طبيعة تختلف عن طبيعة هذا العالم الحسّي الذي يدور في فلك الجسد..
المُعلِّم بلينوس، قال إليوس.
التفت إليه المُعلِّم، ورفع عينيه عن برديّة كان يُطالِعها، وأومأ إليه بالإيجاب.
- لقد جئت بناءً على توصيةٍ من مُعلِّمي بسكينوس، لأنّ لديّ بعض التساؤلات عن فقرةٍ قرأتها لأفلاطون.
قال بلينوس دون أن يرفع عينيه عن البرديّة التي يقرأها: أو قرأت أفلاطون!!
- نعم، وأحاول فهمه على قدر استطاعتي.
التفت إليه بوجهه دون الجسد وقال: إنّه من أجلّ فلاسفة اليونان، وله أيادٍ بيضاء على الحياة الفكريّة في العالمِ أجمع.
- وهذا ما دعاني لأتعمّق قراءته..
- وما الذي يُحيّرك؟
- لقد قرأت في محاورته مع طيماوس الفقرة التالية.. فَرَدَ الرقّ وبدأ يقرأ..
- وما سؤالك في تلك الفقرة؟
- لماذا يتردّد أفلاطون في طرح فكرته عن الخلق والآلهة وهو الذي صال وجال في مختلف مناحي العلوم والمعرفة؟؟
ابتسم الشيخ واعتدل في مجلسه ليواجه إليوس، وقال:
أنتم الشباب تعتقدون أنّ الإجابات حاضرة لكلّ تساؤلات الوجود، بينما الكون يقذفنا بتساؤلات أكثر من قدراتنا على الإجابة، والعَالِم الحقّ هو الذي يمتلك شجاعة المجاهرة بعدم المعرفة. ولكن على أيّة حال، فإنّ أفلاطون في تلك الفقرة، يُؤكّد على محدوديّة العقل البشري في اختراق سُحُب المعرفة، فأسرار الكون لم تُبِحْ لنا بيقينيّات، لذا فإنّ دورنا أن نستنبط من الموجودات علاقات مع غير المرئيّات، ونستدل من الحوادث الحاضرة على الحوادث الغابرة ونرسم بخيوط معارفنا الحالية صور لأسرار الأزل.
- إذًا فالفلسفة لا تجيب على كلّ التساؤلات؟
- بالطبع لا. ولعلّ المنهج السقراطي في طرح التساؤلات كان أقرب إلى الفلسفة الحقّ القائمة على التساؤل أكثر من التحجُّر في نظريات.
لَفَتَ نظر إليوس البرديّة التي كان يُطالِعها بلينوس، والتي كان عنوانها: إنجيل يسوع المسيح بيد يوحنّا الرسول. فسأله: ما هذه البرديّة؟
- إنّها نصّ مُقدَّس عند المسيحيّين.
- ولماذا تقرأها، هل تحتوي على تعاليم فلسفيّة؟
- لا، ولكني كلّما هممت بمواجهة المسيحيّين، وبدأت أقرأ هذا النصّ، تتملّكني مشاعر وأفكار عن إلههم العجيب الذي قدّم ابنه الوحيد لكي ما يُخلِّص العالم من عنصر الفساد. إنّ حياة يسوع أشبه بدراما الأساطير، ولكنّي سألت وتأكّدت من حقيقة الأحداث والشخوص، وهو ما يجعلني مُتحيّر من أمر اليهود الذين قتلوا إنسانًا بمثل هذا السمو والعظمة والرفعة التي لا يدانيها بشر؟
- أراك مفتونًا به..
- حقًّا، إنّ تعاليمه بقدر بساطتها ولكنّها تحمل هدوءًا وسكينة بعيدًا عن تيّارات الفكر الجامح الذي لا يرسو على ميناء. وكأنّه يأخذك إلى مدارات باطنيّة لتواجه ذاتك.. وحينما تواجه ذاتك تواجه العالم بما فيه من الخير والشر.
- وهل ترك مؤلّفات؟
- لا، ولكن تلاميذه هم مَنْ دوّنوا حياته وتعاليمه كشهادة عيانيّة.
- فهو أشبه بسقراط إذًا..
- إنّهم يؤمنون أنّه إله تجسَّد وصار في شكل البشر.
- أو هو على شاكلة آلهة جبل الأوليمب؟
- آلهة الأوليمب!! هل تقصد كرونوس الذي افترس أولاده، أم زيوس الذي اتّخذ شكل حيوان لكيما يمارس الزنى مع نساءٍ مائتاتٍ، أم هفايستس الأعرج الذي رمته هيرا والدته من أعالي السماء لبشاعة خلقته، أم هرمس الحسود الجشع، أم ديونيسوس السكّير المارق.. إنّ آلهة الأوليمب لا يعبأون بالبشر، هم أسرى رغباتهم، ويطاردون البشر إنْ وقفوا في طريق رغباتهم المحمومة. هم في صراعٍ مع البشر بسبب الخلود وعدم الموت.. ولكن يسوع الناصري ليس كذلك -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فقد قيل عنه إنه يهب عدم الموت لمَنْ يتبعه إلى المنتهى. ناهيك عن المعجزات التي كان يجريها التي لا يُصدّقها عقل!!
- مثل ماذا؟
- لقد كان يأمر الطبيعة فتطيعه، ويشفي المرضَى من أي مرضٍ، ويحرّر المسكونين من الأرواح الشريرة، بل وقد أقام عدّة موتى..
- هل هذا ممكن؟
- المعجزات هي دائمًا غير الممكن..
- ولكنّي سمعت أنّهم طائفة من اليهود وأنّهم آكلوا لحوم بشرٍ، ويمارسون الزنى في عبادتهم.
- هذا ما سمعته أنا أيضًا هنا في الموسيون، لذا أريدك أن تنزل إلى الحي الذي ينتشرون فيه وتأتي لي بأخبارهم، لأفهم هل تتطابق حياتهم مع تلك التعاليم الرفيعة الواردة في كتابهم المُقدَّس أم الأمر غير ذلك.
- بكلّ سرور.. سأذهب إليهم من الغد لأختلط بهم وأحاول أن آتي لك بكلّ المعلومات..
- إذًا إلى الغدّ..
- إلى الغد..
رجع إليوس إلى بيته واجم الفكر، يُفكّر في إله المسيحيّين، ويستشرف مُهمّة الغد. كانت كلمات بلينوس عن آلهة الأوليمب صادمة بعض الشيء، فلقد تعوّد التعبُّد دون تفكير، فما يستلمه المرء من تعاليم في ريعان الشباب تصبح عقائد لا يعبر عليها مقياس الفكر لحساب منطقه ومعقوليّته. شعر كأنّ جياد عقله التي تجوب العلوم جيئةً وذهابًا لم تقترب من منطقة الآلهة، الأمر الذي جعله يتساءل عن سبب خوفه من طَرْق هذا الباب الحديدي. لم يجد إجابة يستلقي على عشبها.
جلس على منضدة الطعام ليتناول العشاء مع أخته أبولّلونيا ووالده أفبولوس.
- هل تعلمون شيئًا عن المسيحيّين؟ سأل إليوس.
أجاب أفبولوس وهو يجلس على طاولة الطعام: نعم إنّهم الذين يعبدون إلهًا مصلوبًا..
بدت ملامح الدهشة والاضّطراب على وجه أبولّلونيا، وهي تسأل عن سبب السؤال المُفاجِئ..
شرح لها إليوس الأمر، وما دار بينه وبين الفيلسوف بلينوس.
قالت أبولّلونيا: إنّني أعرف العديد من المسيحيّين، وهم يحيون حياة بسيطة للغاية، ويجتمعون يوم الأحد صباحًا ليتعبّدوا معًا ثم يشتركوا في مائدةٍ بها خبزٍ وخمرٍ بعدها يخرجون وهم يترنّمون وعلامات البِشْر والحبور على وجوههم.
- ومن أين لكِ بتلك المعلومات؟
- من صديقةٍ، كانت تحكي لي عن يسوع الذي يعبدونه.
مدّ إليوس يده إلى الصحفة التي أمامه ليأخذ قطعة من اللّحم، وقال: وماذا عن أكل لحوم البشر؟
انفلتت ابتسامة ساخرة من فم أبولّلونيا وهي تقول: إنّها ترهات الموسيون عنهم، فهم جماعة تقيّة للغاية ولا يغتابون أحدًا ولا يتقوّلون على أحدٍ ولا يؤذون أحدًا ما كان، حتّى من يُسيء إليهم، فهل جماعة بمثل هذه الأخلاق يأتون مثل هذا الفعل الوحشي القبيح!!
كان أفبولوس مُنهمِكًا في الطعام يأكل وكأنّها وجبته الأخيرة، وقال: دعونا من الكلام عن المسيحيّين، قُل لنا يا إليوس كيف كان يومك؟
- جيّد للغاية، فقد كان يومًا أفلاطونيًّا ساخنًا..
- أريدك أنْ تجتهد مع مُعلِّمك، لكي تحجز لنفسك مكانًا هناك..
- بمعونة الآلهة..
قام أفبولوس من على المنضدة وتوجَّه إلى إبريق المياه ليغسل يده، صبّت له أبولّلونيا الماء، وبينما هو يُجفّف يده قال: لنخلد الآن للنوم.
نعم، فالنوم هو الطريق الأقصر للغد حينما نترقّبه بشدّة.
ذهب الجميع إلى النوم، بينما ظلّ الفكر يموج في عقل إليوس ويُلقي بتياراته على قناعاته التي استقاها من الموسيون، وبدأت الصور تدور في عقله؛ برديّة يوحنّا عن يسوع المسيح.. وجه بلينوس.. ومع دورانها كانت الصور تخفت ويخف معها دبيب الأفكار حتّى أخذه النوم إلى عالمه.. عالم الحِلم والخيال..
جلس الشيخ بلينوس على طاولته يُطالِع البرديّة للمرّة العاشرة، وهو مأخوذٌ بما جاء فيها، لقد استوقفه المدخل كلّ مرّة. كانت الأفكار تنثال عليه من كلّ صوبٍ وحدبٍ كأنّها مياه تحرّرت من شطآنها فتدافعت لتغزو جيوب صخرة عقله المُقفرة..
في البدء كان اللُّوغوس،
واللُّوغوس كان نحو الله،
وكان الُّلوغوس الله،
هذا كان في البدء عند الله.
كلُّ شيءٍ به كان
وبغيره لم يكن شيءٌ ممّا كان.
فيه كانت الحياة،
والحياة كانت نور النّاس،
والنور أضاء في الظلمة
والظلمة لم تُدركه.
كان يقرأها مِرارًا وتكرارًا ولا يستطيع تركها ليعبرَ على الفقرةِ التي تليها. فاللُّوغوس لم يكن إلهًا حسبما قال الأقدمون بل وحسب تعليم فيلو اليهودي أيضًا. أمّا الآن فالمسيحيّون يقولون إنّ اللُّوغوس إلهًا أي شخصًا واحدًا بسيطًا وليس مُركّبًا!!!
قام من مقعده مُتّجهًا نحو الجهة الشرقيّة للحائط والتي توكّأت عليها مئات البرديّات فوق أرففٍ. هناك وقف بُرهةً ليمدّ يده ويلتقط بعضٌ منها. وضعهم على طاولته، وبدأ يدسُّ عينيه داخل البرديّات وكأنّه على وشك أن يصير حرفًا أو كلمةً في إحداها، وطفق يقرأ..
بعدها جلس ليدوّن أفكاره ويرتّبها..
عند هيراقليتس، اللُّوغوس هو الرابط الذي يربط البشريّة بالكون وبذاته وبالألوهة، هو المبدأ العام الذي تألّفت منه كافة الموجودات الطبيعيّة بينما يراه السوفسطائيون هو قوّة الفكر والحديث والإقناع.
عند بلوتارخوس، اللُّوغوس هو أبولّلو الذي خلق العالم. الرواقيون يرون أنّ اللُّوغوس والإله والطبيعة والقَدَر شيئًا واحدًا، فقد أقرّ زينون مُؤسِّس المذهب الرواقي أنّ اللُّوغوس هو العلّة الأولى للوجود وهو العلّة الفاعلة في العالم كما إنّه صانع كلّ شيءٍ.
عند سقراط وأفلاطون فإنّ الحقّ يُعلَن حينما يُفسِّر اللُّوغوس الأسرار، إنّه يربط ما بين الفكر والكلمة والمادة والطبيعة والكينونة..
عند أرسطو، اللُّوغوس هو مصدر الفضيلة والتقوى في حياة البشر، فالأفعال تحدُّدها القناعات الناتجة عن فهم الأمور، والقناعات تتشكّل بالحديث.
فيلو يراه العقل الروحاني للإله المُتعالي وهو قوّة حاضرة في الوجود الكلّي للإله وفي نظام الكون، يُحقّق التوافق بين الأضدّاد وينشر السلام والوئام في العالم، هو مخلوق أبدي. إنّه النور الفائض من الله. إنه كلمة الله.
أمّا المسيحيّون يرون كلمة الله، اللُّوغوس، شخصًا حيًّا بسيطًا خالقًا غير مخلوقٍ، لا كوسيط أدنى. إنّه مكوّن كلّ شيء وأصل كلّ شيء ونبع الحياة لكلّ حيّ، إنّه الله المُرسَل ليفتدي البشريّة من سلطان الفساد ومملكة الظلمة.
كان بلينوس مُتحيِّرًا لأنّ ما قرأه جديدٌ كلّ الجدّة عمّا اعتاده في النظريات الفلسفيّة عن الإله.
طرق على الباب الخادم الذي أخبره أنّ الوقت تأخّر وأن عليه أن ينل قسطًا من الراحة. فوجئ بلينوس بمقدم الليل وقرب انتهائه. أطفأ السراج الموضوع على طاولته. وخرج ليستنشق بعض الهواء من نسيم ليل الإسكندريّة الساحر، وبينما كانت المدينة تسبح في عوالم النوم، كان فكره يُحلّق بكلمات النسر الإنجيلي..
رفع عينيه إلى السماء، وكأنّه ينشد بمكنونات نفسه في آذان الليل، قائلًا:
أيّها اللُّوغوس الأزلي
إنْ كنت أتيت كنورٍ لمَنْ يسلكون في وهادِ الظلمة
لتُعلِنَ عن فجرٍ جديدٍ في طبيعة البشر
ولترسمَ بأنامل سلطانك الإلهي
خارطة لمملكة البرّ وسط فساد الميول والأهواء
أعلن لي عن ذاتك لأعرفك وأدركك
وقتها سأسير مُخبّرًا عنك وسط معاقل سيرابيس وأتون
وسأقدّمك للفلاسفة حقًّا طالما نشدوه بين بطون الرقوق
التمعت نجوم اللّيل وكأنّها تعلن عن استجابةٍ كونيّةٍ.. كما التمعت صفحة البحر تحت ضياء المنارة الكبيرة. دخل إلى حجرته مُمدِّدًا جسده المُنهَك وعقله الحالم بمعرفة اللُّوغوس..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/light/moses.html
تقصير الرابط:
tak.la/r85hdas