في المساءِ ذهب إليوس إلى بلينوس الذي كان يترقّب مقدمه، وابتدره قائلًا: كيف حالك يا إليوس. أتمنّى أن تكون قد وُفّقت في مهمّتك.
- نعم يا مُعلِّم. لقد جئتَ لك بالكثير من التفاصيل والكثير من التساؤلات أيضًا!!
- هات ما عندك..
لقد ذهبت باكرًا إلى رواق المسيحيّين في الجزء الغربي من المدينة أمام باب القمر، حيث أرشدني بعض قاطنو الحي إلى بناية بسيطة يجتمع فيها المسيحيّون للصلاة والتسبيح.
كانت البنايةُ مخزنًا للغلال قديمًا، ولكنّها تحوّلت إلى كنيسةٍ. تُضيئها مسارجٌ جانبيّةٌ تُلقي بظلًاّ خافتًا على الوجوه. أُوقدت المباخر فأطلقت من بواطنها روائح البخور العطِر الذي عبّق المكان. كان يحضر الصلاة عشراتٌ من الرجال والنساء يجلسون في ورعٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، بينما يخطب فيهم شخصٌ يقف قبالتهم، عرفت بعدها أنّه الكاهن المسؤول عن إجراء مراسم العبادة الأسبوعيّة.
لم تكن للمسيحيّين ملابسَ خاصة؛ فمنهم من ارتدى التوغا اليونانيّة ومنهم من ارتدى الجلباب المصري الداكن..
جلست في الخلف وأرسلت أذنيّ إلى الكاهن..
كان الكاهن في الخمسينيات من عمره، معتدل القوام، يرتدي رداءً من الكتّان الأبيض الفضفاض فوق ملابسه، يتحدّث من رقٍّ وضعه أمامه على طاولةٍ مرتفعة عن الأرض قليلًا.
- ماذا كان يقول؟
- لقد دوّنت كلّ كلمة قالها، لئلا أنسى شيئًا، هاك ما قاله..
أحبّائي.. إنّ القديس بولس يؤكّد إنّ الله أعلن عن ذاته للبشر بمختلف الطرق، والتي تشير إلى إله حي حقيقي مُدبِّر للكون والخليقة، يرعَى النفوس حتّى أصغرها وأحقرها، ويتعهّد روح الإنسان بالرعاية الإلهيّة ليُصيّره من أبناء الفردوس، إلّا أنّ البشر رفضوا الإشارات الإلهيّة عن الله وحوّلوها إلى آلهة، فعبدوا المخلوقات المحدودة العاجزة غير العاقلة ونسجوا حولها القصص والأساطير، وبينما يزعمون الحكمة سقطوا في فخ الجهل بالله وبالكون وبطبيعة الأشياء المخلوقة. لقد استبدلوا المجد الإلهي غير الفاني بشبه صورٍ لبشرٍ فانين، واستعبدوا أنفسهم لدوابٍ وطيورٍ وزحّافاتٍ يتطلّعون إليها ويخاطبونها ويُقدّمون لها الأضاحي والتقدمات، ولكنّها لا تُرسِل جوابًا، فأقاموا كهنتهم لتلقّي أجوبة الآلهة، وخدعوا قلوب البسطاء، وأصبح الكهنة لسان الآلهة العجماء..
ولم يكتفْ البشر بهذا ولكنّهم غرقوا في مستنقع الفجور والإثم وبدّلوا العلاقة الطبيعيّة بين الرجل والمرأة بالتي على خلاف الطبيعة؟؟!!
هدأ صوت الكاهن قليلًا، وبعد تنهدٍ عميقٍ، قال:
نعم يا أحبّائي، فالشهوة بئرٌ بلا قرار، ومياهٌ لا تروي، وبحارٌ لا تجف.. لقد امتلأ قلب الإنسان من الإثم والزنا والشرّ والطمع والخبث والحسد والاقتتال والخصام والمكر والبُغضة والكبرياء والقسوة.. هذا هو حال الإنسان البعيد عن عبادة الله الحقيقي.. البعيد عن فداء الربّ يسوع المسيح الذي تجسّد ليُحيي المائت ويرفع الساقط ويقبل التائه ويدفع الخائر ويُعزّي من لفّه الحزن والأسَى..
بدت ابتسامة على وجه الكاهن وكأنّه قد رأى مشهدًا سماويًّا وقال:
إنّ الخلاص فقط بيسوع المسيح.. الابن الوحيد للآب.. مَنْ يَقبْله له حياة أبديّة، ومَنْ يرفضه سيحيا في العدم والقلق والحيرة إلى ملء الدهور.
كانت كلمات الكاهن ناريّة.. صادمة.. وكأنها معولٌ من صوّان يهوي على فكري المُنبسط. لم أكن أتوقّع أنّ أسمع تلك الكلمات التي بها رائحة التقوى. لقد ذهبت إلى هناك وفكري مُحمَّل بممارسات لا أخلاقيّة وطبائع وحشيّة وسفك دماء.. ولكني في المقابل سمعتُ عن الخلاص والتحرُّر من الفساد والخطيئة.. سمعت عن إلهٍ حانٍ يعبأ، بل ويُحبّ البشر..
- ليت سيرابيس يسمع هذا الكلام ويتعلّم من إله المسيحيّين.. أكمل..
بعد كلمات الكاهن نادى أحدهم على الذين لم يعتمدوا بعد!! أنْ يخرجوا، ولكنّي لم أخرج وقتها، لأرصد ما يحدث. خرج بعضهم ثمّ أُغلقت الأبواب..
- وقف الجميع في الكنيسة بعدما أنهى الكاهن كلماته، الذي حوّل وجهه للشرق وهو يواجه مائدة عليها قطعة مستديرة من الخبز وكأسًا.. كان الصمت يملأ المكان، وكنت أتلفّت حولي لأُطالع ملامح الوجوه فإذ بها مستغرقة في الصلاة..
- ألهذا الحدّ!!
- نعم.. الكلّ في حالة تضرُّع.. الرجال والنساء.. الشيوخ والشباب.. الفقراء والأغنياء.. العبيد والسادة.. الكلّ يتجاور.. الكلّ يُصلي..
- أو تريد أن تُقنعني أنّ السادة يجاورون العبيد، والفقراء يُكاتفون الأغنياء؟؟
- نعم.
- إنّ تلك لمعجزةٍ في مدينةٍ كالإسكندريّة!!
- وقتها ارتفع صوت الكاهن وهو يمسك بيديه قطعة الخبز ويرفعها إلى أعلى، بينما وقف الجميع، وهو يقول:
لأنّ ربّنا يسوع المسيح في اللّيلة التي أُسلِمَ فيها،
أخذ خبزًا على يديه المقدّستين
وشكر، وباركه، وقدّسه،
وقسّمه وأعطاه لتلاميذه ورسله قائلًا:
خذوا كلوا منه كلّكم،
هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم لمغفرة الخطايا.
ثم وضع قطعة الخبز على طاولة مربّعة يسمّونها المذبح وتناول بيده اليمنى الكأس وهو يرفعها إلى أعلى، ويقول:
وهكذا أيضًا بعد العشاء أخذ الكأس، وبارك وشرب منها،
وأعطاها لهم قائلًا:
خذوا اشربوا منها كلّكم،
هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا.
كلّ مرّة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس،
تُبشّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني.
وأجاب الجمع في صوتٍ واحدٍ:
آمين. بموتك يا ربّ نُبشّر وبقيامتك نعترف
ودعى الشخص الواقف إلى جوار الكاهن، والذي يُساعِده، الجميع إلى السجود والإنصات، عرفت بعدها أنّه يُدعَى الدياكون وهو المسؤول عن معاونة الكاهن في أداء مراسم العبادة عندهم.
وفجأة علا صوت الكاهن وهو يقول:
هذا الخبز يجعله جسدًا مقدّسًا للمسيح
وهكذا الكأس أيضًا، دمًا كريمًا للعهد الجديد الذي له
وكانت جموع المُصلّين تُردّد بصوتٍ واحدٍ: آمين.
وبعدها قدّموا بعض الصلوات من أجل الجميع؛ من أجل كنيستهم، ومن أجل الشعب، ومن أجل رئيسهم، ومن أجل الإمبراطورية ومن أجل الملك ومن أجل السلام..
- هل يدعون على الإمبراطور؟
- لا، يُصلّون من أجله.
- يا للعجب، لقد لحقهم من أباطرتنا ما يشيب له الأبدان.
- وهذا ما حيّرني أنا أيضًا.
- وماذا حدث بعد ذلك؟
- توافدوا على الكاهن الذي كان يناولهم قطعةً من خبزٍ ورشفةً من الكأسِ، يدعونهما جسد ودم المسيح.
- هل يدعون الخبز والخمر جسد ودم؟
- نعم.
- إذًا ليس ثمّة ذبائح بشريّة.
- لا، لم أرى شيئًا من هذا.
- وبعد الانتهاء وقفوا يُرتّلون، قائلين:
هَلِّلُويَا.
سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ.
سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ.
سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ.
سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ.
سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ.
سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ.
سَبِّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ.
سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ.
كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ. هَلِّلُويَا.
ثم صرفهم الكاهن مُحمّلين بالسلام.
بعدها فوجئت بأنّهم يُقدّمون إلى الكاهن رجلًا محمومًا ويُعاني من آلامٍ مبرحةٍ، فما كان من الكاهن إلاّ أن استدعى البعض، وبدأوا يُصلّون معًا، وفي نهاية الصلاة أخذ نقطة من زيتٍ موضوع في قارورةٍ خاصةٍ ودهنَ بها جبهته، وهو يقول: ليكن لك كإيمانك..
وفي الحال فارقته الحُمَّى، وقام الرجلُ ليُقدِّم الشكر للكاهن، فما كان منه إلاّ أنْ طالبه بأنْ يتقدَّم بالشكر لله الذي من خلال الإيمان بابنه أعطاه مثل هذا السلطان، ووقفوا جميعًا عِدّة دقائق يُسبِّحون الله ثم انصرفوا.
- وهل حاولت إقامة حوار مع أحد المسيحيّين؟
- بالطبع، فبعد انتهاء الصلاة، لفتَ نظري شخصٌ وقورٌ بدت عليه إمارات العِلم، له لحية مُعتدلة، قد جلس وبدأ يكتب على رقٍّ، فدفعني الفضول إليه. فبادرته بالسلام، وأجاب بمثله مع ابتسامة رائقة هادئة.
- هل لي في مقاطعتك عِدّة دقائق؟
- إنّ الوقت بعد صلاة الإفخارستيا (الشكر) مُخصّص للتأمُّل والشكر على عطيّة الله.
- هل أعود بعض قليل؟
- لا.. لا بأس، فحوارنا قد يصبح تمجيدًا وسُبحًا لله أكثر من أفكارنا الذاتيّة.
- أراك تُدوِّن شيئًا؟
- نعم إنّها بعضُ التأمُّلات عن الغنوسيّة (المعرفة) الحقّ القائمة على الإيمان والاختبار الحياتي، مع بعض الخواطر التي لاحقتني مؤخّرًا عن بعض العبارات الأفلاطونيّة والتي لها اكتمالات مسيحيّة بالإيمان بالمسيح يسوع.
- وهل قرأت لأفلاطون؟
- بالطبع، فلقد درسته دراسة مستفيضة بعد أن مررت على خيام الرواقيين وقضيت عندهم وقتًا ليس بقليل.
- وكيف بعد هذا العِلم صرت مسيحيًّا؟
- عذرًا؟
- أقصد أولم تشبع من تلك الفلسفات العميقة لتصير ابنًا لأحد مذاهبها وتعمل على نشره!!
- لقد آمنت بالمُعلِّم الأعظم، المسيح يسوع، الإله القدّوس، اللُّوغوس، مُرشد كلّ البشر، الإله المُحبّ.. لذا لن أتركه إلى مجلسٍ آخر ما حييت..
- وماذا عن أفلاطون؟
- وماذا عنه؟
- هل ستتخلّى عنه بتلك البساطة؟
- عزيزي، أفلاطون يُمثّل أحد المراحل الفلسفيّة في الوصول إلى الحقيقة، وقد كان مُلهِمًا في دفع الجموع خطوة نحو الحقّ، ولكن الحقّ لم يكن مكتملًا عنده، فأمام الماورائيّات كانت نظرياته فكرًا مُجرّدًا لا يستند على حقائق. أفلاطون حلقة من حلقات إعلان الحقّ قبل المسيح. ولكن في المسيح، أُعلِن الله للعالم، ليخلُص به العالم. جاء ليفتدي البشر ويعبر بهم إلى الخلود في الملكوت الأبدي.
- إني لمتعجّب، إذ أسمع دائمًا أنّ المسيحيّين رافضين للفلاسفة بل ويعملون على دحض آرائهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فكيف تتآلف مع الفكر الأفلاطوني وتراه حلقة إيمانيّة على عكس الجميع؟؟
- إنّ ما ترفضه المسيحيّة هو المذهبيّة الوثنيّة المناقضة للعقل من خلال عبادة أكوام من الحجارة المهذّبة بأيدي البشر، بينما الفلسفة من حيث كونها تأمُّل في الكون وبحث عن الحقّ واتّباع الفضيلة فهي محمودة بل وفي صميم الإيمان المسيحي.. ولكن قل لي: ألست مسيحيًّا؟
- لا
- فماذا أنت؟
- أنا أتعبّد لسيرابيس آلهة البلاد العظيمة، وأدرس الفلك في الموسيون على يد بسكينوس، وقد دار بيننا حوار حول إحدى فقرات أفلاطون، فأرشدني إلى أحد أساتذة الفكر الأفلاطوني في الموسيون وهو بلينوس والذي بدوره طالبني أن آتي إلى ههنا لأستوضح له بعض الأمور عن المسيحيين.
- أتقصد تلك الدعاوى المُضحكة بأنّنا نمارس علاقات أوديبيّة (مُحرّمة) وأننا نشترك في ولائم ثيستينيّة (من لحوم البشر)؟؟
- نعم.
- وماذا رأيت؟
- لم أرى سوى التقوى والفرح على وجوه الجميع.
- اذهب إذًا واخبر مُعلِّمك بما رأيت وادعوه ليأت ويرى بنفسه.. عذرًا يجب عليّ الذهاب الآن.
- هل أطمع في لقاءٍ آخر؟
- على الرحب والسعة، يمكنك المجيء للمشاركة في حلقة الدراسة لمبتدئي الإيمان والتي نشرح فيها أساسيّات إيماننا المسيحي. يمكنك الانضمام إن أردت؟
- بالتأكيد، ومتى يكون اللقاء؟
- بعد الغد، في الصباح الباكر، إذ نقضي بعض الوقت في التأمُّل قبل أن نخوض في الشروحات الإيمانيّة.
- وهل تأذن لي بمعرفة اسمك؟
- ردّ عليه بصوت خفيض وكأنّه صدى يتناثر في الآفاق:
كليمندس.. كليمندس السكندري
فرك بلينوس جبهته وهو يقول:
إنّ هذا الاسم يتردّد الآن في المدينة.. يا ترى مَنْ هو كليمندس هذا؟؟
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/light/loggia.html
تقصير الرابط:
tak.la/hm6ng7k