نحن كمؤمنين بالمسيح مدعوون لحياة القداسة، بل
لأن نكون قديسين. وقد لبىَّ هذه الدعوة آباؤنا وجدودنا. والقديسون الذين
خرجوا منهم من الصعب إحصاء عددهم. وقد جاهدوا لتحقيق دعوتهم مدفوعين بعوامل
روحية خالصة أهمها: 1 - إنهم وضعوا أمام عيونهم النماذج الحية التي
تكلم عنها
السيد المسيح أنهم نذروا بتوليتهم لأجل
ملكوت السموات (مت19: 12).
تلك النماذج التي أحبت
البتولية
لأنهم أحبوا الرب لكي يقدموا له كل حياتهم. إذ
رأوا أن الزواج له همومه ومسئولياته التي تعيق انطلاقهم في حياتهم مع الله وفى
خدمته مقتدين
بمعلمنا
بولس الذي لم يستخدم حقَّ أن يجول بأخت زوجة كباقي الرسل
حسب تصريحه في (1كو9: 5). لذلك اتسعت كرازته ورحلاته التبشيرية حتى قال "تعبت
أكثر منهم جميعهم" (1كو15: 10). وإذ تعب اشتاق إلى الراحة في الأحضان
الأبوية فقال "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع
المسيح
ذاك أفضل جدًا" (فى1: 23). 2 - كما أنهم رأوا في
البتولية
مقامًا عاليًا لهم
في السماء فصار طموحهم إلى ما هو أفضل وأسمى في حياتهم السماوية التي سيذهبون
إليها. شاخصين إلى الصورة البهية التي رسمها سفر الرؤيا للمتبتلين أصحاب الثياب
البيض وهم يتقدمون صفوف المفديين ولهم قيثارات يرنمون بها تسابيح الغلبة
والخلاص ولهم ترنيمة جديدة لا يعرفها أحد غيرهم. وفى أيديهم سعف النخل إشارة
إلى نقاوة قلوبهم وطهارة نفوسهم. وهم يتبعون الحمل حيثما ذهب (رؤ14: 4). 3 - وإذ كانت
البتولية
هي تاج القداسة فقد فضلوها
لحياتهم إذ رأوا أن القداسة مرتبطة بالقيامة ارتباطًا وثيقاُ كما يؤكد هذا
معلمنا بولس في قوله عن
السيد المسيح إنه "تعين ابن الله بقوة من جهة روح
القداسة بالقيامة من الأموات" (رو1: 4) أي أن
المسيح
برهن على أنه ابن الله
بقداسته. والذي برهن على قداسته هو قيامته من الأموات. لأنه لو لم يكن
المسيح
قدوسًا خاليًا من دنس الخطية ما كانت له قيامة من الموت. كذلك هم بدورهم إن لم
يبلغوا حياة القداسة لا تكون لهم قيامة لحياة أبدية. 4 - كذلك رأوا القداسة مرتبطة بمعاينة الله.
لذلك حرصوا على حفظ طهارتهم لاعتبارها شرطًا لمعاينة الله في الأبدية كما أعلن
المسيح
بقوله "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8). وكما أوضح
معلمنا بولس في وصيته لنا "اتبعوا السلام مع الجميع. والقداسة التي بدونها
لن يرى أحدٌ الرب" (عب12: 4). هذه الدوافع لحياة
القداسة كلها منبعثة من تمركز فكر الإنسان حول أمجاد
ملكوت السموات وأنه
للقديسين. أما الثمار الحلوة
التي يجنيها الإنسان من حياة
القداسة في صحته الجسدية وحياته الروحية وراحته النفسية والعصبية. بل والبركات
المادية أيضا. فهى كثيرة وتعتبر من أقوى المشجعات على حياة القداسة لمن
يختبرها.
لقد قنن الكتاب حياة القداسة بأن رسم لها طريقًا، ووضع وسائل عملية لبلوغها تعتبر تشريعًا إلهيًا لنا. وإن كان هذا التشريع قد
وضع حدودًا لحريتنا الجسدية إلا أنه يترك لإرادتنا بالكامل حرية السير في
دروبها حيث قال "من استطاع أن يَقْبَل فليقبل" (مت19: 12). ويبدو أن الاستطاعة
هنا مبنية على عطية إلهية حيث قال أيضا "ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين
أُعْطِىَ لهم" (مت19: 11). والعطية تتزكى بالاجتهاد. فمن اجتهد في استخدام
الوسائل نال العطية لبلوغ الغاية. وتقنين حياة القداسة قد رسمه لنا الكتاب بإتقان
وفى صيغة حكيمة متكاملة في البنود التالية: دعانا الكتاب إلى اقتناء
حياة
البتولية كلما أمكن
حسب وصية
معلمنا بولس "أريد أن يكون جميع الناس كما أنا (أي كبتول). لكن كل
واحد له موهبته الخاصة.. وأقول لغير المتزوجين وللأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا
كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا" (1كو7: 7-9). كما يوصى
المرأة التي مات رجلها أنها "أكثر غبطة إن لبثت هكذا (أي استمرت مترملة)"
(1كو7: 40). وهنا يوجه
معلمنا بولس دعوة عامة صريحة لحياة
البتولية لغير المتزوجين. إلا أنه في نفس الوقت يوضح أنها موهبة. كذلك يوجه
نفس الدعوة للأرامل إذا استطعن. ويشجعهن بأنهن يكن أكثر سعادة روحية بهذا مما
لو تزوجن. ومن هذه الدعوة
تبدو أمامنا حقيقة جميلة معزية هي أن المترملين من النساء والرجال الذين لا
يقبلون زيجة ثانية ويصبرون على حياة الترمل يُحسبون ضمن المتبتلين لأنهم يجهدون
أنفسهم ويقهرون ذواتهم لقتل الرغبة في ارتباطٍ آخر. مفضلين أن يقضوا بقية عمرهم
في الخدمة وعمل الخير. ويشجعهم
معلمنا بولس على هذا في مدحه للأرملة الحقيقية
بقوله "ولكن التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على الله. وهى
تواظب الطلبات والصلوات نهارًا وليلًا" (1تى5: 5). ولا غرابة في هذا لأن بعض
القديسين قضوا أعوامًا قليلة جدًا في الرهبنة وحُسِبوا من كواكب البرية. فكم
بالحرى المترملون الذين يقضون عشرات السنوات في طهارة وتبتل مع عبادة نقية! كما تبدو لنا هنا أيضا حقيقة أكثر جمالًا وهى أنه
ليس بالزواج يكمل الإيمان والتدين. بل بالبتولية يستكمل الإنسان كيانه الروحي
في صورته الملائكية ويتمكن من السمو بروحه للأمور الإلهية. وهذه هي صورة
التدين في كماله. لذلك فمفهوم
البتولية هنا في هذا البحث نقصد به معناها
الأصلي للذين لم يرتبطوا بزواج بالمرة. وكذلك نقصد به معنى التعفف والقناعة في
أمور الجسد. لأن الذين تزوجوا ثم عَفُّوا عن العلاقات الجسدية لسنوات عديدة
أيًا كانت الأسباب فهم يشاركون البتوليين حياتهم. وكما أن الزواج هو ارتباط بآخر من أجل الاتحاد به
ليكون واحدًا معه حسب قول
المسيح "ليسا بعد اثنين بل جسد واحد" (مت19: 6).
فالبتولية أيضا هي ارتباط بالله بغرض أن يكون الإنسان واحدًا مع الله. والارتباط بآخر لا تكمل وحدته إلا بكل الكيان كما
يحدث في الزواج حيث يكون قبول الآخر من أجل الاتحاد به بالفكر والقلب أولًا ثم
بالنفس والجسد، فيكمل الارتباط وتكمل الوحدة بين الطرفين. هكذا الارتباط
الروحي بالله يكمل بتكريس كيان الإنسان كله جسدًا ونفسًا وفكرًا وقلبًا له
فتكمل وحدته معه. وإذا كان الزواج هو تقديم الكيان كله لآخر بما
يعنى كمال الحب له. فالبتولية باعتبارها تقديم الكيان كله لله فتكون تحررًا من
سلطان كل عاطفة نحو آخر لكي تصبح لله وحده. وبذلك تعتبر
البتولية كمال الحب
لله، استجابة لدعوة الله للإنسان "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن
كل فكرك ومن كل قدرتك" (مر12: 30). وهذا هو كمال الحب حقًا. لأنه ماذا بقى
للإنسان لم يقدمه لله لكي يكمل به محبته له بعد أن قدَّم له كل كيانه؟ إذًا ليس كما ينظر البعض إلى
البتولية أنها حياة
منفردة جافة ومقفرة من الحب. لأن الواقع غير ذلك. فكما ينبني الزواج على حب
طرف آخر هكذا تنبني
البتولية على محبة الله. فالذين ساروا في درب
البتولية لم
يفعلوا ذلك من أجل
البتولية في ذاتها وليعيشوا حياة انفرادية منعزلة وإنما من
أجل محبتهم لله للارتباط به والحياة الكاملة معه. فطريق
البتولية هو طريق توجيه
الحب نحو الله لا ليكون شريك حياة بل ليكون الحياة كلها. وإن كان الزواج في غايته العليا يُثْرِى كنيسة
المسيح بالأعضاء المؤمنين ليكونوا صورة الله بين الناس. فالبتولية غايتها
العليا اتحاد الإنسان بالله من خلال
المسيح فيصبح الله قائمًا بذاته بين الناس. وهذا ما نلاحظه في سلطان
القديسين الذين كانوا سفراء
للمسيح. إذ هم يحملون
سلطان الله نفسه على الأرض. حيث أبطلوا قوة النار، وسدُّوا أفواه أسود،
وصلُّوا فأوقفوا السماء عن أن تمطر ثم صلُّوا فأعطت السماء مطرًا، وشفوا مرضى، وأقاموا موتى، وأخرجوا شياطين. وبسلطانهم
الإلهي هذا كانوا بركة لتثبيت
المؤمنين وشهودًا لله نفسه لغير المؤمنين لجذبهم للإيمان. فكم من الوثنيين
آمنوا بالمسيح عندما رأوا قوة الله وعجائبه في قديسيه. كذلك إن كان الزواج هو للإثمار
الجسدي القابل
للموت. فالبتولية هي للإثمار الروحي المعطى حياة للموتى. من أجل هذا تحمل
البتولية قوة القيامة. فمن يتزوج يدخل دائرة الموت لأنه يرتبط بزوج سيموت
حتمًا وأبناء سيموتون أيضا.كما أنه هو يجاهد لينجو من الموت. أما البتول فقد
خرج من دائرة الموت إذ أولًا ليس أحدًا من صُلْبه يوجد ليموت بالجسد. ثانيًا هو
نفسه قد عبر موت الخطية لأنه باتحاده بالله في
المسيح
الحي الذي لا يموت يكون
قد اتحد بالقيامة والحياة. ثم إن كان الزواج
اتحادًا بالجزئي المحدود. فالبتولية اتحاد بالكُلى غير المحدود. وكم هو مجد
وغنى المطْلَق غير المحدود! ومن اقتنى
البتولية قد اقتنى الله لحياته فيكون
بذلك قد كملت حكمته. لأنه اختار النصيب الصالح الذي لن ينزع منه إلى الأبد.
من هذا كله تبدو
لنا
البتولية كمال اتحاد الإنسان بالله بكامل الكيان، وبذلك هي كمال الحب. وهى
تعطى بركة وجود الله على الأرض بين الناس في شخص قديسيه. وتحمل قوة القيامة
لأصحابها. وهى كمال الغنى لأنها اتحاد بالكلى المطلق. كما أنها كمال الحكمة
لأنها اختيار النصيب الصالح فكم هو مجد
البتولية! إلا أنه يجب أن نلاحظ أنه وإن كانت
البتولية
الحقة هي التي من أجل بلوغ كمال الحب لله فهى لا تتحقق إلا من خلال
شخص المسيح. لأننا لم نعرف الحب إلا من خلال محبة
المسيح ولم نعرف القداسة إلا من خلال
قداسة
المسيح وبتوليته.فلا بلوغ لمحبة الله بعيدًا عن
شخص المسيح لأنه هو وحده
طريقنا إلى الآب. لذلك فالبتولية هكذا بكل أمجادها ما هي إلا ثمرة للإيمان
بالمسيح البتول القدوس ابن البتول والمحبة المتجسدة.
هو من مقننات القداسة أيضا حيث كان توجيه الله
للإنسان منذ بداية خلقته هو
ممارسة حياة الصوم التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا
بالبتولية، إذ خصها بأول وصية أعطاها للإنسان وهو في الفردوس، وكانت مصحوبة
بالبتولية. وبكسرها بالأكل من الشجرة المحرمة طُرِد الإنسان من الفردوس وبدأ
حياة الزيجة. لذلك
فمفهوم
الصوم في المسيحية أنه ليس امتناعًا فقط عن الطعام
وإنما عن العلاقات الجسدية أيضًا. وهذا ما أوصى به
بولس الرسول
المتزوجين "لا
يسلب أحدكم الآخر إلا أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة"
(1كو7: 5). وإن كانت أيام
الصوم عندنا تبلغ
حوالي سبعة أشهر في السنة أي أكثر
من نصف عمرنا صومٌ، فهو يشير إلى تغليب
البتولية
على الزيجة حتى بين المتزوجين. الأمر الذي يتطلب تعوُّدُ النفس على
القناعة والتعفف في تلبية رغبات الجسد.
دوافع القداسة والتبتل:
التقنين الكتابي
لحياة القداسة:
أ - دعوتنا
للبتولية:
الفهم الأعمق للبتولية:
ب - الصوم:
وهذا يظهره معلمنا بولس في قوله "من زَوَّج فحسنًا يفعل ومن لا يزوِّج يفعل أحسن" (1كو7: 38). واضعًا الحياة الجسدية في درجات ورتبٍ؛ الرتبة الأقل والأدنى هي حياة الزيجة، والرتبة الأعلى والأسمى هي حياة البتولية. مع ملاحظة أن الكتاب لا يعتبر الزواج نجاسة أو خطية بل شيئًا حسنًا. لأنه يقول في موضع آخر "ليكن الزواج مكرمًا عند كل واحد والمضجع غير نجس" (عب13: 4). أما الحقيقة التي يريد إيضاحها هنا فهي أن هناك شيئًا حسنًا هو الزواج، وهناك شيء أحسن هو البتولية. والتفضيل مبنى على الفوائد التي يجنيها الإنسان من حياة البتولية. ومنها مقدار الفرصة المتاحة للجسد للتمتع بالنقاوة والصفاء. ثم الفرصة المتاحة للنفس للراحة من الانفعالات الحسية الشهوية ثم الفرصة المتاحة للروح للانطلاق في العبادة والتأمل والاختلاء مع الله. ولاشك أن البتولية تفضل الزواج في هذه الفوائد.
إن الذي ذكرناه من أقوال الكتاب عن الرباط المقدس بين الزوجين وضرورة سعيهما الدائب لحفظ وحدة وقدسية هذا الرباط يوضح مدى المسئولية على كل منهما، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ومثل هذه المسئولية لا تخلو من جهد وتعب ومعاناة وغيرها من الأمور التي من أجلها نفهم لماذا قال الرسول لغير المتزوجين "أريد أن تكونوا بلا هم" (1كو7: 32). ولكن لاشك أنها مسئولية مقدسة وعظيمة المقدار ولها مكافأتها لدى الله.
ولكن من جهة التقييم الروحي نجد أن العالم والجسد يملكان جزءًا كبيرًا من حياة وجهد وفكر المتزوجين. أما الذين نذروا البتولية فتملك عليهم الأعمال الإلهية والاهتمامات السماوية. وهذا ما وضحه معلمنا بولس في قوله "غير المتزوج يهتم في ما للرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته. إن بين الزوجة والعذراء فرقًا. غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسدًا وروحًا. وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها" (1كو7: 34).
فالمتبتلون فرصتهم أكبر للاهتمامات الروحية. ومن ثم يغلب عليهم الفكر الروحي والسلوك الروحي والطابع الروحي أيضًا. ولاشك أن الطابع الروحي عندما يغلب على حياة الإنسان يجعله أكثر قربًا للصفات الإلهية والملائكية وطبيعة الحياة السماوية. وهذا بطبيعة الحال بسبب الظروف المتاحة له للتفرغ للعبادة والتأمل ونمو الإنسان الباطن. الأمر الذي لا تسمح به ولا توفره مسئوليات حياة الزيجة. ومن هنا أتى تَمَيُّزُ البتولية على حياة الزيجة من جهة المستوى الروحي.
من جهة أخرى إن كان " كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (1كو3: 8) فمن الإنصاف أن ننظر بالاعتبار إلى أمثلة المتزوجين الذين يقاسون معاناة في ظروفهم الأسرية التي لو أمكن قياسها بالحجم أو الوزن لعادلت آلام الشهداء. لأن آلام الشهداء هي للحظة أو لعدة أيام وإن طالت لسنين فهي نادرة جدًا. أما أولئك فقد تطول معاناتهم لعشرات السنين. وليس من السهل تقدير ما يعانيه أحد الزوجين عندما يكون زوجه الآخر مريضًا نفسيًا أو قاسيا شتاما وضَرَّابًا أو مدمنًا أو مقامرًا أو ملازمًا للفراش بسبب مرض أو عجز غير قابل للشفاء. فإنه لا يستطيع أن يُقَدِّرَ حجم هذه المعاناة إلا من ذاق مرارتها ودخل تجربتها بنفسه. مثل هذا النوع من الأزواج يشهد للمسيح بحمل صليب هذه التجارب. لذلك ليس من الكثير عليه أن يُحسب في عداد الشهداء أو المعترفين الذين هم شهداء بدون سفك دم. وتعلمنا الكنيسة أن صفوف الشهداء تسبق صفوف القديسين في الترتيب السمائي. وهذا الاحتساب لاشك أنه يرفع كثيرًا من قدر الزواج المفعم بالمسئوليات والتضحيات التي تصل إلى حد الشهادة.
إلا أننا نعود فنقول إن أي حِمْل للصليب بين المتزوجين في داخل الأسرة هو حِمْل خاص محدود بمتاعب أفرادها. وأما حِمْل الصليب بين المتبتلين فهو حِمْل عام لمتاعب الكنيسة الجامعة. وبذلك يظل المتبتلون متقدمين على المتزوجين سواء في المستوى الروحي أو في مستوى الشهادة. والتقدير لتعب كل واحد في آخر الأمر يُترك لحكم المسيح الذي سيدين كل واحد حسب عمله.
إلى مستوى اعتبار أن الذي يفسدها ليس نفس الزنى الفعلي ولا أعمال النجاسة التي تشبع العواطف الحسية الجسدية، بل مجرد النظرة بغرض الاشتهاء حسب قول المسيح له المجد "قيل للقدماء لاتزن وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت5: 28). فكلمة المسيح "ليشتهيها" تعنى أن هناك ميلًا داخليا نحو الاشتهاء هو الذي يدفع إلى النظرة الخاطئة. وتوجيه النظر بغرض الاشتهاء اعتبره المسيح خطية زنى، ولأنه نتيجة ميل داخلي اعتبره زنى بالقلب. وبذلك تصبح الطهارة ليست التنقية من دنس الجسد بل من مجرد الميل القلبي. لذلك طوَّب الكتاب الإنسان الذي لا يفكر في الشر "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار" (مز1: 1) وداود النبي طلب من أجل نقاوة قلبه قائلًا "قلبًا نقيًا اخلق في يا الله" (مز51: 10).
كذلك ارتفاع مستوى الحساسية نحو الخطية إلى درجة بغضة حتى الثوب المدنس من الجسد (يه1: 23).
ثم التنبه إلى أن الخطية تكمن في بدايات الخطية بالفكر أو بالقلب وليس فقط في الخطية ذاتها. لأنه طالما اتجه فكر الإنسان أو نيته إلى شرٍ ما فسيتممه بمجرد توفر الظروف المهِّيئة له. لذلك علمتنا كلمة الله أن نهرب من وجه الشر وعلمتنا الكنيسة أن نصلى دائما "طهر عقولنا وقلوبنا وعيوننا وأفهامنا وأفكارنا ونياتنا" (صلاة القسمة).
هذه هي شريعة القداسة والطهارة في إيماننا الأقدس. ومن الصعب أن نعثر على دين في الوجود في كل ديانات الأرض له مبادئ ومواصفات للقداسة أسمى وأعلا مما في المسيحية.
من أجل تقنين القداسة كشريعة للمؤمنين وحياة لهم، لم يكتف الكتاب المقدس بوضع حدود للزواج، وتقديم دعوة للبتولية، بل أيضا وضع حدودًا لحرية التصرفات الجسدية حتى لا تنطلق بغير ضابط فتدنس صاحبها وتحطمه كما تطغى على حقوق الآخرين وتنال من حرياتهم أيضا. ومن هذه الحدود ضوابط للطعام والشراب والملبس وغيرها.
- فمن جهة الطعام والشراب والملبس أوصى بالقناعة بحد الكفاية فقال "إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما" (1تى6: 8) وقال بصوت الإنسان الحكيم "لا تعطني فقرًا ولا غنى. أطعمني خبز فريضتي. لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب ولئلا أفتقر وأسرق واتَّخذ اسم إلهي باطلًا" (أم30: 9،8). كما فَضَّل الطعام البسيط مع سلام عن الذبائح ومعها الخصام فقال "لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (أم17: 1) وقال أيضا "أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة" (أم15: 17) وواضح أن اللقمة اليابسة والبقول هي طعام الصائم ومعنى ذلك أن الصوم مقترن بالسلام والمحبة هو أبقى لحفظ قداسة الإنسان. وأن الحياة الفقيرة مع السلام والمحبة أفضل من الحياة المترفهة مع الخصام والبغضة.
كما حذر من الشراب الذي يُنَعِّم الجسد ثم يدفع الإنسان لسلوك لا يليق فقال "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة" (أف5: 18) ونفى الحكمة عن المترنح بالخمر فقال "الخمر مستهزئة. المسكر عَجَّاج ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أم20: 1) بل أوضح المصائب التي تحل بالإنسان المدمن الخمر فقال "لِمن الويل. لِمن الشقاوة. لِمن المخاصمات. لِمن الكرب. لِمن الجروح بلا سبب. لِمن ازمهرار العينين. للذين يدمنون الخمر. الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا ساغت مُرَقْرِقة. في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان" (أم23: 29-32) بل إن ملاك الرب أعلن لزكريا عن عظمة يوحنا ابنه وامتلائه من الروح القدس مقرونة بعدم شربه الخمر والمسكر فقال له "لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرًا ومسكرًا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو1: 15) بل كان هذا أمر الرب عن النذير الذي يقدس حياته لله "عن الخمر والمسكر يفترز ولا يشرب خلَّ الخمر ولا خلَّ المسكر" (عد6: 3).
- كما أوصى بالتعفف في شهوات الجسد بعدم اللجوء للمثيرات لها فقال "لا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو13: 14) وعندما عرض للصراع بين الجسد والروح ومقاومة كل منهما للآخر قال "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد. والذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل5: 16، 24). ولئلا ننغمس في طلب الشهوات وننسى أبديتنا وأننا سنرحل قريبًا لأننا غرباء. نبهنا بقوله "أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس" (1بط2: 11).
- أما عن حياة التنعم الجسدي فقد وصف أصحابها بأنهم أموات وهم أحياء وذلك عند مقارنته بين الأرملة الصالحة وغير الصالحة فقال "أما المتنعمة فقد ماتت وهى حية" (1تى5: 6) كما قال عن الأغنياء المترفهين الكانزين الذين ظلموا فَعَلَتهُم "قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم وربيتم قلوبكم كما في يوم الذبح" (يع5: 5) بل يحذرنا من التنعم الذي يؤدى إلى الجحيم كما ذكر عن الغنى الذي كان يتنعم كل يوم مترفهًا ولعازر الذي كان يشتهى أن يشبع من الفتات الساقط من مائدته. كيف أن لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم أما الغنى فذهب إلى الهاوية وعندما طلب الرحمة من عذابه قال له إبراهيم "يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب" (لو16: 25)
- أما عن زينة الجسد فالكتاب يوصى النساء أن لا يكشفن عن أجسادهن بل يتزين بلباس الورع والحشمة "النساء يزين ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل.. كما يليق بنساء متعاهدات بتقوى الله بأعمال صالحة" (1تى2:9). وكما يوصيهن أيضا " كذلك العجائز في سيرة تليق بالقداسة.. لكي ينصحن الحدثات أن يكن متعقلات عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات" (تى2: 3-5). ويمدح الكتاب تزيين النفس بالفضائل أكثر من تزيين الجسد بالحُلِى والثياب فقال "لا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب بل إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد. زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بط3: 4،3).
وإن كانت هناك زينة فتكون مع القداسة والطاعة فقال "فإنه هكذا كانت قديمًا النساء القديسات أيضا المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعاتٍ لرجالهن" (1بط3: 5).
- وإذ كثيرون يأخذون حريتهم في تصرفاتهم الجسدية من ضرب وشتم وكلام خارج يملأون به أفواههم فقد حدد لها عقوبات (خر21) بل وأنذر بدينونة كل من يفعل هذه. خصوصًا خطايا اللسان التي تنجس الإنسان كما أوضح المسيح "ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان" (مت15: 11) فقال له المجد "إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين" (مت12: 36).
لذلك أوصانا أيضا أن نعرض عن الكلام الباطل لكي نحفظ إيماننا وطهارتنا "احفظ الوديعة مُعرِضًا عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم الذي إذ تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان" (1تى6: 21،20).
وأن نمنع الكلام القبيح والكذب "اطرحوا عنكم التجديف. الكلام القبيح من أفواهكم. لا تكذبوا بعضكم على بعض" (كو3: 8).
وكذلك كلام السفاهة والهزل "وأما الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يُسَمَّ بينكم كما يليق بقديسين. ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق" (أف5: 4،3).
وأن لا نشتم ولا نلعن بل نبارك "غير مجازين عن شرٍ بشرٍ أو عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين" (1بط3: 9) و "باركوا ولا تلعنوا" (رو12: 14) و "لا تشتم الأصم وقدام الأعمى لا تجعل معثرة. بل اخشَ إلهك" (لا19: 14) و "من شتم أباه أو أمه يقتل" (خر21: 17) وأن لا نحلف البتة "لا تحلفوا البتة" (مت5: 34).
كل هذه الوصايا تنبيه من الكتاب لنا عن خطايا الكلام التي تفسد قداسة الإنسان ليس حسب ما أوضح المسيح فقط بل أيضا حسب ما نطق به قديمًا على لسان الحكيم بقوله "لا تدع فمك يجعل جسدك يخطئ" (جا5: 6).
وقد جمع الكتاب كل الأعمال التي ضد القداسة وبيَّن أن أصحابها ليس لهم نصيب في ملكوت الله "لا تضلوا. لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله. وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كو6: 9-11).
من كل هذا نرى حرص الكتاب المقدس على إحاطة الإنسان بكل وسائل حفظ قداسته بما سنَّه الله له من وصايا وفرائض وأحكام بل وما شمله به من حب ظَهَرَ في فدائه وتقديسه له بدم ذبيحة ابنه.
لربما لم تكن قد سمعت أو قرأت في أي عقيدة أخرى عن مثل هذه الدعوة للقداسة، والسمو بطهارة الإنسان إلى هذا المستوى الفائق. والسر في ذلك أن هذا المستوى مستوى إلهي ومستوى ملائكي ومستوى روحي مطلق. وقد تتساءل فمن يقدر إذًا أن يبلغ إليه؟
فأقول لك صدقت في تساؤلك. فحقًا هو مستوى إلهي. لكن يجب أن نذكر أن الذين دُعوا إلى هذه القداسة قد أخذوا عهد البنوة الإلهية فصاروا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط1: 4). وحقًا هو مستوى ملائكي ولكن تَذَكَّر أن هناك من قال عنهم المسيح من أصحاب هذه الدعوة إنهم نذروا بتوليتهم لأجل ملكوت السموات (مت19: 12). فهؤلاء إذ تشبهوا في بتوليتهم بالملائكة صاروا ملائكة أرضيين. وحقًا هو مستوى روحي مطلق ولكن لا تنسى أن حياة أبناء الله هي بموت الجسد "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 13). أما سؤالك فمن يقدر أن يبلغ إلى هذا. فأطمئنك أن لنا سحابة من الشهود من الذين وصلوا إلى حياة الكمال في الطهر والقداسة من الذين نذروا بتوليتهم. منهم الأحياء ومنهم الراقدون. ومن بين المتزوجين أيضا من يحفظون الأيام المقدسة وأيام الصوم ويعفُّون كثيرًا عن شهوات الجسد. ولذلك لا تستغرب بدعوة بولس الرسول مؤمني كورنثوس وأفسس قديسين (1كو1: 1)، (أف1: 1).
فقط تطلع إلى سمو ورفعة شريعتك وإيمانك الذي دُعيت إليه وانصت لقول معلمنا بطرس "اجتهدوا أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين" (2بط1: 10).
وتذكَّر أن ما ذكرناه هو تقنين لحياتنا طبقًا لأحكام الشريعة وطبقًا للتقليد الكنسي. وهو ما يعتبر قانونًا له صفة الإلزام لكل الذين يدينون بالمسيحية. لأنه ذات طابع شرعي نابع من الكتاب المقدس دستور المسيحية ومصدر تشريعاتها ويلتزم الجميع به والخضوع له ولا استثناء فيه لأحد. بل وتؤمِّن وتصادق عليه جميع المذاهب المسيحية.
هذا التقنين الكتابي للطهارة والتبتل نجده على المستوى الروحي العملي واقعًا مُعاشًا في حياة المؤمنين. وتظهر ممارسته الفعلية في الدرجات الروحية للتبتل التي يحيونها فعلًا. والتي منها يتضح أن وصايا الشريعة وتعليم التقليد الكنسي فيما يتعلق بالقداسة هما درب المؤمنين ومنهج حياتهم سواء على مستوى آباء البرية أو على مستوى حياة المؤمنين في وسط العالم. ومن خلالهما يجاهدون في درب القداسة. ولكن بطبيعة الحال ليس الجميع في درجة واحدة، حيث يتباينون كلٌ حسب موهبته وحسب كَمِّ جهاده.
وعندما نعرض الدرجات الروحية للتبتل والتعفف فإننا نعرض لثمرة عمل الكتاب المقدس والتقليد في حياة المؤمنين. الأمر الذي يؤكد لنا أن وصايا إنجيلنا وتقاليدنا من جهة القداسة ليست ألفاظًا نتغنى بها بل هي واقع معاش يحياه المؤمنون بكل فرح وغبطة. ولكن كما ذكرنا كل واحد حسب قامته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-salaib-hakim/sanctity-chaste/law-and-life.html
تقصير الرابط:
tak.la/w7jxr7x