بعد توضيح امتيازات المؤمن بالمسيح على غير المؤمن به،
يوصي الرسول المؤمنين قائلا "لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا
نجسًا، فأقبلكم وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر
على كل شيء" (2كو6: 17، 18). فكأن الله يأمر أبناءه في هذه الوصية بالخروج والعزلة من
وسط الأمميين. هذا هو المعنى المباشر من المفهوم الحرفي للوصية، ولكن تتميم
الوصية بمفهومها الحرفي الظاهري، يعني الامتناع عن الحياة وسط الناس أو
التعامل معهم وهذا يتعارض مع واقع حياة الإنسان بين الناس ومع بقية وصايا
المسيح. فمن جهة واقع
الحياة نجد أن الإنسان لا يستطيع أن يعتزل الآخرين ويخرج من وسطهم وهو مضطر
للتعامل معهم ومرتبط بالمصالح المشتركة بينه وبينهم. ومن جهة الوصايا فلا يقدر أن يعتزلهم لأن اعتزاله هذا
يتنافى
مع رسالة المؤمنين في العالم كما حددتها كلمات
المسيح المباركة في
أكثر من موضع، مثل قوله "أقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم" (يو15: 16)، وقوله "أنتم ملح الأرض" (مت15: 13)، وقوله
أيضًا "أنتم نور العالم، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة
ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت5: 14-16). فكيف نكون نورًا للعالم وملحًا للأرض وكيف يرى الناس
أعمالنا ونحن منعزلون عن العالم ولا نتعامل معهم أو كيف نكرز للعالم بأعمالنا
ونحن منغلقون على أنفسنا؟ إذًا هناك بالضرورة مفهوم أوسع من المفهوم الحرفي
لوصية الخروج والعزلة عن العالم يمكن أن يتأكد لنا من خلال فهمنا
للحقائق الآتية:
الحقيقة الأولى:
لاشك من الناحية الجوهرية أن المقصود
بالخروج والعزلة أساسًا هو أن نتممهما أولًا بالفكر والقلب. فالإنسان المسيحي
إن كان يعيش بجسمه وكيانه الحسي الظاهري وسط الناس ولكنه يعيش بالضرورة بفكر
مغاير وقلب مختلف عن طبيعة ومستوى الوسط الذي يحيا فيه لأنه يحمل في داخله
إنسانا آخر هو إنسان الله، إنسان الوصية المقدسة، إنسان الكلمة الحية التي
تملك عليه وتشكل له إطارًا معينا من المبادئ الأخلاقية والقيم الروحية طبقا
لوصايا إنجيله، يتحرك من خلالها ويحدد بها مسار سلوكه بحيث تنبعث تصرفاته من
داخله وتنبع من سلطان الوصية المقدسة الساكنة فيه والمالكة عليه لا من وحي
تأثيرات وقتية أو تحت ضغوط ظروف خارجية سواء كانت عوامل اجتماعية أو مادية أو
عاطفية تسود البيئة أو المجتمع الذي يحيا فيه. والمسيحي بالروح والحق هو الذي
منذ الطفولية يعرف الكتب المقدسة، ويسكن فيه الإيمان الساكن أولًا في آبائه
وجدوده. وهو الذي ملك المسيح على فكره وقلبه فيصير محصورًا بمحبة
المسيح. وهو
الذي امتلأ من الروح القدس وأضحى حارًا في الروح ومنقادًا به في تصرفاته
ومعاملاته، ولا تستطيع قوة ما أن تحمل الواحد منهم بأي تيار مضاد لروح الله
الساكن فيه أو لمبادئه واتجاهاته الداخلية المؤسسة على كلمة الله، ويصدق عليه
ما قيل عنه: "لو انتقل الجبل من مكانه لما تحول القبطي عن إيمانه". هذه هي قوة الحياة الداخلية التي تميز أولاد الله فتجعلهم
جزءًا حيًا في المجتمع الذي يعيشون فيه ولكن يختلفون عنه دون أن يصطدموا به حتى
وإن حاول أحد أن يخلق جوًا للتصادم. فكم من مرة أراد اليهود أن يصطدموا
بالمسيح ولكنه له المجد فوت عليهم الفرصة. فمما سبق نخلص إلى أن الحياة
الداخلية المرتبطة بالمسيح تصنع حاجزًا طبيعيًا في الفكر والقلب بين الإنسان
وبين روح العالم فيكون الإنسان في العالم وفي نفس الوقت بعيدًا بفكره وقلبه عن
كل ما في العالم من شرور وعثرات. ومقارنة بسيطة بين امرأة لوط التي تركت مكان
الخطية ولكن قلبها كان متعلقًا به، وبين الذين تشتتوا بين الأمم بسبب الضيق
فجالوا مبشرين بالكلمة، ترينا أهمية تتميم العزلة بالفكر والقلب.
الحقيقة الثانية:
هذه الحياة الداخلية لكي لا تتعرض
للضعف أو التصدع من جراء الصراعات والتيارات المضادة يجب غلق الحواس التي هي
مداخل المعرفة عن كل ما يعثر الإنسان من كلمات وتصرفات ومظاهر سلوكية خادعة من
أهل العالم، والانتباه إلى عدم تسرب أي اتجاهات أو عوامل غريبة من الخارج تؤثر
فيه أو تغير مبادئه أو قيمه. ويقتضي هذا أخذ الحذر من مناقشات المغرضين ومن
أساليب معاملاتهم التي يبغون من ورائها تحويل الفكر والقلب. فوق ذلك يحتاج
الأمر إلى إماتة الحواس ذاتها من الداخل أي إماتة ميولها الحسية الجسدانية
بالإرادة القوية، تلك الإرادة التي تكون ثمرة شركة آلام صليب
المسيح كما نطلب
في صلاة الساعة التاسعة "أمت حواسنا الجسمانية أيها
المسيح إلهنا". وغلق مداخل المعرفة عما يعثر، وإماتة الحواس عن الشهوات
ليس عملًا عدوانيًا على الذات، لكنه عمل روحي لمن يحيا
حياة
التوبة ونقاوة
القلب. ثم إنه عمل ملحّ وضروري خصوصًا في ظروف تشتد فيها الحرب المضادة للإيمان
وحملات التشكيك في صليب المسيح من جهة، وانتشار العثرات ومشجعات الانحراف من
جهة أخرى، بل هو فوق ذلك عمل يساير روح الإنجيل وأقواله المقدسة.
فمن جهة غلق مداخل المعرفة قال
المسيح له المجد "إن قال لكم
أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا" (مت24: 23-26، مر13: 21-23) ومعلمنا
بولس الرسول ينصح تلميذه تيموثاوس بالثبات على ما قد تعلمه قائلًا له "وأما أنت
فاثبت على ما تعلمت وأيقنت عارفًا ممن تعلمت" (2تي3: 14)، ويقول
يوحنا الحبيب "إن كان أحد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم (تعليم
المسيح) فلا تقبلوه في
البيت ولا تقولوا له سلام لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة"
(2يو9-11). ومن جهة إماتة الحواس يقول
المسيح له المجد "إن كانت عينك
اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها والقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (مت5: 29-30)
ويقول
بولس الرسول "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض" (كو3: 5). بل إن غلق العينين والأذنين عما يجاهد العالم في
إقناعنا به
ضد ما هو في أرواحنا، وكذلك الموت عن الذات وميول الجسد الطبيعية، كلاهما عمل
يشير إلى ثبات الإيمان والحياة المختبرة المتلامسة مع
المسيح، حياة الإيمان
المبنية على الصخر.
الحقيقة الثالثة:
إن المسيحي الحقيقي يجب أن يتخطى
الموقف السلبي من مجرد مقاومة التأثر من الخارج عن طريق تتميم العزلة بالجهاد
الداخلي بهدف تأمين الذات وتحصينها ضد قوى الشر الخارجية، ويتعداه إلى الموقف
الإيجابي الذي يمتد إلى الشعور بمسئولية التأثير في الأشخاص الآخرين المحيطين
به ولا يتأثر هو بهم، يستوعبهم ولا يستوعبونه، يستغرقهم ولا يستغرقونه هم في
دائرتهم الفكرية أو السلوكية. وهذا ليس أمرًا صعبًا على المسيحي الحقيقي لأن نور وحرارة
المحبة المنبعثين من وصايا إنجيله، وقوة الروح التي تملأ قلبه وفكره،
والمتمثلة عمليًا في سلوكه، كلها قادرة بنعمة الله على تبديد ظلمة جهالة
العالم وتحطيم جمود الوثنية والمادية وعلى تغيير النفوس من حال الظلمة تلك إلى
النقاء والطهر والوداعة والمحبة. فحرارة الوصية وقوة الإيمان والامتلاء بالروح
هي القوى الإلهية الساكنة فينا، ويمكن أن تعمل بكل مداها كلما هممنا بتنشيطها
وإلهابها فينا دائما
بالصوم والصلاة والتأمل وشركة ذبيحة
المسيح ومداومة
الاطلاع في كلمة الله فلا تستطيع مياه غزيرة أن تطفئها، ويضحى عملها وتأثيرها
قويًا غير منقطع. ويذكر لنا سفر الأعمال أن أبولس الإسكندري الجنس كان رجلا
مقتدرًا في الكتب خبيرًا في طريق الرب، وكان وهو حار بالروح يتكلم ويعلم
بتدقيق ما يختص بالرب، وساعد كثيرًا بالنعمة الذين كانوا قد آمنوا لأنه كان
باشتداد يفحم اليهود جهرًا مبينًا بالكتب أن يسوع هو
المسيح (أع18: 24-28). كما يحكي لنا
تاريخ الكنيسة الأولى أنه إذا كان قد لوحظ على
أحد الوثنيين تحسن في سلوكه أو معاملاته فإنهم كانوا يبادرونه بالقول "هل قابلت
مسيحيًا اليوم" أي أن مجرد مقابلة المسيحي كانت كافية للتأثير العجيب على
الإنسان الوثني لكي تغيره وتطوعه وتجدد حياته وتضمه إلى
المسيح. لذلك كانت
الكنيسة الأولى تنمو كل يوم وتزداد كما يذكر الكتاب " وكان الرب كل يوم يضم إلى
الكنيسة الذين يخلصون" (أع2: 47).
الحقيقة الرابعة:
تلك الصورة التأثيرية التي تحقق
العزلة للإنسان المسيحي وتتضمن ليس فقط بعده عن شر العالم الذي يحيا فيه بل
وإضفاءه نور الفضيلة والبر والقداسة والحب على هذا العالم. تلك الصورة عندما
يحفظها في حياته فإنها تصونه بصفة أساسية وقبل كل شيء من أن يمس نجسًا، وتعطيه
الحذر من أي شيء يدفعه للإثم والخطية، أو من أي ما يقوده بعيدًا عن إلهه فيما
يكون مخالفًا لوصاياه وتعاليمه سواء بالكلام الشرير أو التعامل المغرض أو
المعاشرة التي تدنس الإنسان وتفصله عن إلهه أو على الأخص الزواج من الغرباء،
الأمر الذي قصده المعنى الحسي المباشر من تعبير عدم مس النجس الذي يعني عدم
الزواج من الغرباء ويحرمه. والذي يؤكده أيضًا حكم الشريعة بأن مثل هذا الزواج
في نظر الله نجاسة وإثم. تلك الصورة تجعل الإنسان المسيحي واعيًا إلى أنه متى وضع
نفسه في دائرة الإثم والنجاسة فإنه يكون قد انفصل بطبيعته عن دائرة البر الذي
في المسيح، ويكون حينئذ قد انقطعت عنه كل إمكانية للتأثير الروحي الذي للتقوى
في الآخرين. ثم تؤكد له في النهاية بالاختبار العملي أنه متى عاش بعيدًا
عما يفصله عن المسيح أو عما يفقده الإيمان به خصوصًا بسبب زواجه من الغرباء
فإنه يظل إلى آخر لحظة من حياته إناءً مقدسًا قابلًا لعمل الروح القدس فيه،
ومحفوظًا بعناية الله لكي يستخدمه
المسيح في أي وقت لأي عمل روحي عظيم، أو على
الأقل في حالة سقوطه في أية خطية أخرى سيقوده يومًا للتوبة لخلاص نفسه، وحينئذ
سيكون حتى في توبته بركة للآخرين أيضًا. أي أن الإنسان يمكن أن تنفعه
التوبة،
وله رجاء دائم في الخلاص طالما هو باق على إيمانه بالمسيح. ولكنه متى فقد
إيمانه بالمسيح بسبب زواجه من الغرباء فإنه يكون قد فقد كل رجاء في خلاص نفسه.
وإن كانت حكمة الله سمحت للإنسان أن يحيا في عالم تكتنفه مثل هذه الظروف فإنما
لكي يعطيه فرصة للمقاومة والجهاد في الحرب الطاحنة مع
رئيس هذا العالم
إبليس
الذي يجول كأسد زائر ملتمسًا من يبتلعه هو (1بط5: 8). حتى إذا ما خرج الإنسان
غالبًا ومنتصرًا فإنه ينال مكافأته من
المسيح الذي وعد بأن من يغلب فسيعطيه أن
يجلس معه في عرشه (رؤ3: 21) وذلك مثل الكثيرين من
آبائنا القديسين الذين غلبوا
العالم لأنهم استطاعوا بقوة أن يعتزلوا اتجاهاته الفكرية ويقاوموا تياراته
الجسدية.
أمثلة من حياة
الآباء لمقاومة تيارات العالم:
وكان يحيا بقلبه وفكره في إيمانه بالله الذي دعاه وأعلن له ذاته، بل إنه لما أراد أن يخطب لابنه اسحق أرسل عبده كبير بيته إلى أهله قائلا له "أستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق" (تك24: 42).
ولوط كان يعيش وسط أناس غرباء في سدوم ومع ذلك حفظ نفسه وبناته من نجاستهم بعدم الاختلاط بهم وبعدم تزويج بنتيه منهم فشهد له الكتاب بأنه كان بارًا ويقول عنه "إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2بط2: 8)، لذلك نجاه الله من النار والكبريت اللذين أنزلهما على سدوم وعمورة لشرهما ونجاستهما.
ويوسف الشاب الأعزب المضطهد الذي كان يعيش غريبًا في بيت سيده المصري، كان مملوءًا نعمة وقوة روحية ومحبة، وخوف الله في قلبه، كما كان طاهر السيرة عفيف الجسد. لذلك عندما داهمته الخطية من زوجة سيده، ترك ثوبه في يدها عازفًا عن طغيان فسادها صارخًا "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله" فأعطاه الله الحكمة والنبوة ووهبه تفسير الرؤى والأحلام، ورفعه من السجن والعبودية إلى الرئاسة والملك إذ جعله مدبرًا لكل أرض مصر ومنقذًا للعالم من مجاعة قاتلة.
والثلاثة فتية الذين وضعهم الملك وسط بعض الوثنيين ليختار منهم مدبرين لمملكته "وجعلوا في قلوبهم أن لا يتنجسوا بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه" (دا1: 8) فأظهر الله مجده فيهم إذ وهبهم حكمة عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة والوثنيين الذين في كل المملكة" (دا1: 20).
وعندما ولاهم الملك على أعمال ولاية بابل حفظوا أنفسهم من عبادة الأوثان ولم يسجدوا لتمثال الذهب الذي صنعه نبوخذ نصر الملك فأظهر الله مجده فيهم بقوة أعظم إذ نجاهم من نار الآتون المتقد سبعة أضعاف أكثر مما كان معتادًا (دا3: 9). بل إن تأثيرهم الروحي كان عظيمًا جدًا، وظهر فيما اعترف به نبوخذ نصر الملك وهو وثني عن إله الثلاثة فتية القديسين ونادى قائلا: "مني قد صار أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو فإنهم يصيرون إربًا وتجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا" (دا3: 29).
كما أن دانيال الذي لم يحد عن عبادة إلهه فنجاه من جب الأسود دفع الملك أن يشهد له قائلًا: "من قبلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى وهو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض" (دا6: 26، 27).
وفي حياة بولس الرسول ظهرت قوة تأثير إيمانه في كثير من المواقف نذكر منها موقفه عندما كان في قيوده يحاكم أمام أغريباس الملك حيث قال أغريباس لبولس "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" فأجابه بولس "كنت أصلي إلى الله أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضًا جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا (أي يصيرون مسيحيين مثلي) ما خلا هذه القيود" (أع26: 28، 29).
وكثير من القديسين والشهداء كان لهم تأثير قوي في الوثنيين والأشرار مثل الشهيد العظيم مار جرجس الذي ما كادت تنقشع ظلمة إحدى ليالي عذاباته حتى استطاع أن يحول في تلك الليلة ذاتها الفتاة الوثنية التي سلطوها عليه في حبسه لكي تسقطه في الخطية - استطاع أن يحولها ويقودها للإيمان بالمسيح وتنال إكليل الشهادة قبل أن يناله هو نفسه.
ومثل الفتاة العذراء التي قلعت إحدى عينيها بمخراز منسجها، وقدمتها للشاب الذي كان يريد أن يستميلها إلى الخطية، والذي ما أن رأى قوة تمسكها بعفافها بمثل هذه الصورة، حتى ندم على ما كان وخرج مسرعًا إلى البرية وسلك طريق الرهبنة(1).
فأولاد الله إذ يجعلون في قلوبهم أن لا يكونوا تحت نير عبودية مع أهل العالم فإنهم يعيشون وسطهم ولا تؤثر فيهم الشرور السائدة أو التيارات المنتشرة فيكونون كمن هو في وسط النار ولا يحترق. في نفس الوقت يتعاملون مع الكل بكل حب ويخدمونهم ويضحون من أجلهم كإخوة لهم في الإنسانية، لكنهم في ذات الوقت أيضًا يحذرون من أن ينخدعوا بأي أسلوب أو وسيلة تؤدي بهم إلى التعلق بأحد غريب عن الإيمان تعلقًا يدفعهم للزواج منه. ولا يسمحون لنفوسهم بحالة تسيب في علاقات تؤدي بهم إلى إنكار إيمانهم أو ترك دينهم وإلههم وهو أغلى ما يملكونه في حياتهم في هذا العالم وما بعد الموت أيضًا.
بل إنهم لابد أن يغلبوا العالم (أي قوى الشر الموجودة في العالم) بإيمانهم لأن الكتاب يقول: "هذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا" (1يو5: 4). إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي (غل2: 20) لأنه "مَن هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن بأن يسوع هو ابن الله" (1يو5: 5).
ونصرة أولاد الله على العالم محققة وأكيدة حسبما يطمئننا الكتاب بقوله: "أنتم من الله - وقد غلبتموهم لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم" (1يو4: 4) فأولاد الله الذين نالوا نعمة البنوة بالمعمودية المقدسة التي هي ختم الإيمان واستحقوا أن يقبلوا شركة وعطية وموهبة الروح القدس وصاروا مولودين من الله فإنهم بروح الله الذي سكن فيهم بالمعمودية صاروا أقوى بالطبيعة من الروح الذي في العالم، وهكذا يغلبون العالم كما يؤكد الكتاب ذلك بقوله: "كل من ولد من الله يغلب العالم" (1يو5: 4). والغلبة هنا هي غلبة بسلاح الروح (وليست بسلاح مادي)، لأن كل من ولد من الله فهو يغلب بروح الله وروح الله كله محبة لأن "الله محبة". والذي يغلب بروح الله إنما يغلب بروح المحبة، وروح المحبة هي روح الخير، لذلك فالمحبة تغلب الشر بالخير؛ فتغلب العداوة بالإحسان، والشتيمة بالبركة، والتشكيك والتضليل باليقين والثبات على الإيمان، والضيق والاضطهاد بالصبر والاحتمال، والدنس والنجاسة بالعفة والطهارة، والطمع بالقناعة، والتشامخ والكبرياء بالهدوء والوداعة. وبذلك وحده تتم الغلبة الروحية لأولاد الله على روح الشر والعداوة والدنس الموجودة في العالم، فيحققون بذلك الغلبة الحقيقية المبنية على الوصية المقدسة "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 21).
هذه الغلبة التي أدهشت الحكام في عصور الاضطهاد الروماني للأقباط في مصر، فأخذوا يبحثون عن سر قوتهم، حتى وصلوا في نهاية بحثهم إلى أن سر قوة الأقباط هو في تمسكهم بعفافهم وطهارتهم(2) فما كان الجسد يومًا من أيام تلك العصور سببًا في أن يتركوا إيمانهم.
فإذا حقق أولاد الله العزلة الفكرية والقلبية بالتمسك بمبادئهم وقيمهم وحققوا العزلة الجسدية بعدم الزواج من الغرباء، وغلبوا العالم بإيمانهم بالمسيح وبروحه الساكن فيهم روح الخير والحب، فالنهاية هي قبول الله لهم كما يقول "فأقبلكم وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لي بنين وبنات".
والقبول هنا قبول الفرح بأبناء منتصرين على حرب الشيطان وحرب العالم الموجهة ضدهم محتفظين بمحبة إلههم وبرهم وطهارتهم وحافظين لوصاياه فيجدد عهد الأبوة معهم ويؤكده لهم ويثِّبت لهم شرف بنوتهم له.
ويذكر الله هنا حق عطية البنوة للبنين وحق عطية البنوة للبنات مظهرًا مساواته في منح الأمجاد الإلهية للبنت كما للولد، ومبينا اهتمامه وحرصه على سلامة البنات تماما كحرصه على سلامة البنين وذلك من خطف العالم لهن وتحويلهن عن الإيمان بزواجهن من أبناء الغرباء عن الإيمان، لأنه رب الكل ولأنه في المسيح "ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع" (غل3: 28).
ومن أجل هذه المواعيد الإلهية كان أبرز ما تميز به تعهد الشعب أمام الله بعد السبي هو عدم الزواج من الأمم فيقول الكتاب "وباقي الشعب والكهنة واللاويين والبوابين والمغنيين والنثينيم (المكرسين) وكل الذين انفصلوا من شعوب الأراضي إلى شريعة الله ونسائهم وبنيهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لصقوا بإخوتهم وعظمائهم ودخلوا في قسم وحلف أن يسيروا في شريعة الله التي أعطيت عن يد موسى عبد الله وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه وفرائضه وأن لا نعطي بناتنا لشعوب الأرض ولا نأخذ بناتهم لبنينا" (نح10: 28-30).
وإن كان أحد قد عثر أو سقط فالقول الإلهي: "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا.. فأقبلكم" فيه دعوة مباشرة للذين انحرفوا واتحدوا بالغرباء أن يعودوا إلى حظيرة المسيح فيرحب بهم ويقبل توبتهم ويجدد عهده معهم تماما كما قبل الزانية وكما شرح لنا أبوته الحانية في مثل الابن الضال عندما تاب ورجع.
وإن كانت هذه دعوة المسيح لأبنائه الذين تاهوا عنه وشردتهم أعاصير وسيول العالم الجارفة، فكنيسة المسيح بالتالي تفتح أحضانها لكل أبنائها وبناتها الذين يريدون الرجوع إليها مذللة لهم كل الصعاب، هادمة أمامهم كل الحواجز بقوة إلهها وفاديها الحقيقي الرب يسوع المخلص القوي.
وإن كنا قد ذكرنا في معرض كلامنا أن علاقة المصاهرة مع الغرباء علاقة معقدة وليس من اليسير على من وقع فيها أن يتخلص منها إلا أننا نؤمن أيضًا أن كل نفس ترغب في الرجوع من أعماقها فإن كل عسير يذلل أمامها لأن "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله" (لو18: 27).
ومن السير الجميلة التي يمكنك أن تراجعها وتؤكد لك قوة الله في إرجاع الذين سقطوا، سيرة القديس ديسقورس(3) الذي استشهد في اليوم السادس من برمهات وكان قد أنكر الإيمان، فأرسلت أخته إليه تقول له "لقد كنت أشتهي أن يأتيني خبر موتك وأنت مسيحي فكنت أفرح بذلك ولا يأتيني خبرك بأنك قد تركت المسيح إلهك" ولما قرأ كتاب أخته بكى بكاء مرًا وعاد إلى إيمانه مرددًا أمام الوالي بكل شجاعة الروح "أنا ولدت مسيحيا وأموت مسيحيًّا"(4).
والقديس مرقس والي البرلس والد القديسة دميانة الشهيدة العفيفة الذي رجع إلى الإيمان ونال إكليل الشهادة بسبب موقفها منه وتوبيخها له.
وغيرهما كثير ممن استجابوا لصوت الروح القدس على فم الممتلئين غيرة وحرارة روحية في محبتهم للمسيح.
وهكذا كل نفس تستجيب لنداء الروح القدس الذي يدعوها للرجوع، هو نفسه يشعل فيها جذوة الحب للمسيح، فتتقد فيها حرارة الإيمان به حينئذ تتحدى الموت ذاته ولا تفتأ راجعة إلى فاديها وحبيبها، متخطية كل الحواجز عابرة كل الصعاب فتندفع بدموع الفرح لكي تتعلق بأذيال ثوبه وتقبض على قدميه معلنة ندمها على كل ما فرط منها مظهرة ثقتها ورجاءها في رحمته ومحبته غير المتناهية. فيقبلها ويكفكف دموعها ويشجعها ويسندها بنعمته حتى إذا ما أكملت جهاد أيام غربتها يقبلها في ملكوته ويلبسها ثيابًا ملوكية ويتوجها بأكاليل المجد ويجلسها معه في عرشه ويمنحها حياة سعيدة لا تنتهي مثل باقي القديسين.
_____
(1) القس شنودة السريانى ، بستان الروح ، ج1 ، ط1 المطبعة المتحدة ـ القاهرة 1960.
(2) المرجع السابق ص 224.
(3) هذا القديس هو غير القديس ديسقورس بابا الإسكندرية الـ25 بطل الأرثوذكسية.
(4) السنكسار جـ 2.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-salaib-hakim/marriage-faith/sin.html
تقصير الرابط:
tak.la/krx4d99