ولد في الإسكندرية من والدين مسيحيين سنة 185م. وكان أبوه -ويُدْعَى ليونيدس- مسيحيًا تقيًا. فعنى عناية شديدة بتعليم ابنه مبادئ المسيحية، و وجه عناية خاصة بتعليمه الكتاب المقدس، فكان يطلب منه أن يحفظ كل يوم قدرًا كبيرًا منه.
وبعد ذلك أكمل أكمل أكليمنضس الإسكندري والفيلسوف أمونيوس ما بدأه أبوه، حتى اشتهر أوريجانوس بالنبوغ الخارق للعادة في سن مبكرة مما كان يدعو والده في بعض الأحيان أن يكشف صدره ويقبله، بأنه هيكل ممتاز للروح القدس، معتبرًا نفسه أنه قد تبارك بذريته الصالحة.
ولما استشهد أبوه سنة 202 كان عمر أوريجانوس 17 سنة. واشتاق أن يشترك مع أبيه في الاستشهاد. لكن أمه منعته. فكتب إلى أبيه وهو في السجن مشجعًا إياه على الثبات في الإيمان غير مهتم بعائلته.
فصودرت كل أملاك العائلة، وترك عبئها على أوريجانوس، وكانت مكونة من ستة بنين أصغر من علاوة على أمه الأرملة، فرزحت تحت ظروف قاسية من الفقر والعوز الشديد، الأمر الذي اضطر أوريجانوس إلى أن يبيع الكتب الثمينة التي كان يمتلكها، والتي جمعها من المؤلفين الوثنيين نظير مبلغ ضئيل يدفع إليه يوميًا، يكاد يكفي لحاجياته الفردية، مكتفيًا بدراسة الكتاب المقدس وحده ليدرك كل ما جاء به من الحقائق الواضحة والغامضة.
وفي نفس الوقت دبرت له العناية الإلهية سيدة غنية تكلفت بنفقات تعليمه في مدرسة إكليمنضس اللاهوتية، واعتنت بعائلته.
وفي سنة 203م كلفه بابا الإسكندرية (أنبا ديمتريوس) بإدارة المدرسة اللاهوتية، مع أنه لم يكن عمره وقتئذ سوى 18 سنة.
ولما نجح نجاحًا باهرًا في المجيء بالكثيرين من الوثنيين إلى المسيحية اشتد حقد الوثنيين عليه وحاولوا قتله، فلم يفوزوا ببلوغ أمنيتهم. كان أوريجانوس متقشفًا جدًا في معيشته إذ كان يكتفي بأبسط الطعام، ويمشي حافيًا، وينام على الأرض دون فراش.
كان يصرف كل النهار في التعليم وفي الأعمال المضنية، وأكثر الليل في الدروس والعبادة.
وتلمذ على يديه الكثيرون ممن لمعوا في تاريخ كنيسة الإسكندرية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكان من أبرزهم ياركلاس الذي خلف ديمتريوس في البطريركية، وديونيسيوس الذي خلف ياركلاس في إدارة المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية حوالي سنة 231م، ثم في أسقفية الإسكندرية حوالي 246م.
ويقول يوسابيوس القيصري في كتابه "تاريخ الكنيسة" (4:6) إنه استشهد الكثيرون من تلاميذ أوريجانوس " أولهم بلوتارخوس... وبعد بلورتاخوس كان الشهيد الثاني بين تلاميذ أوريجانوس هو سيرينوس الذي إذ جاز وسط النار، قدم دليلًا على الإيمان الذي قبله".
" والشهيد الثالث هو هيراكليدس، والرابع هيرو، وكلاهما قطع رأسه. والخامس شخص آخر باسم سيرينوس. ومن بين النساء هيريس التي ماتت وهي لا تزال تحت التعليم، وقبلت معمودية النار، حسب تعبير أوريجانوس في مكان آخر".
ولما كثر تلاميذه وتلميذاته فسر الآية (مت 19: 12) تفسيرً حرفيًّا وخصى نفسه، إذ خشى أن تعثره تلميذاته، أو يعثرهن هو نفسه، ورغب في الوصول إلى أقصى درجات القداسة، وتضحية كل ما يتصل بالجسد من أجل المسيح. ومع أن البعض، بل الكثيرين، لم يعجبوا بتصرف أوريجانوس هذا، فإن البعض أعجبوا به من أجل جرأته، وروح التضحية التي ظهرت في هذا التصرف. وكان أوريجانوس يظن أن هذا لن يعرف بين الكثيرين من معارفه. لكنه كان مستحيلًا أن يبقى عمل كهذا مختفيًا بالرغم مما بذله من جهد لإبقائه سرًا خفيًا.
استاء جدًا ديمتريوس بطريرك الإسكندرية من هذا التصرف وكتب إلى الأساقفة في كل العالم عنه، واصفًا إياه بأنه في منتهى الطياشة. لكن أسقفيّ قيصرية وأورشليم – اللذين كانا من أبرز أساقفة فلسطين – اعتبرا أوريجانوس خليقًا بأعظم درجات الإكرام والتبجيل.
ازدادت دراسة أوريجانوس للكتاب المقدس تعمقًا، حتى إنه تعلم اللغة العبرانية. وقال جيروم "إن دراسته لهذه اللغة كانت بخلاف عادة جيله وجنسه. ولكن لا غرابة في الأمر فقد أراد أن يجعل هذه اللغة أساس دراساته، وأن يقارن بين أسفار العهد القديم في لغتها الأصلية والترجمات اليونانية".
وحصل على نسخة من الأسفار العبرانية التي كانت في أيدي اليهود. ودرس أيضًا ترجمات أخرى للأسفار المقدسة على الترجمة السبعينية والترجمات المشهورة جدًا التي قام بها أشخاص مختلفون.
وجمع في كتابه المشهور هكسابلا (Hexapla) أي السداسي، ست ترجمات للكتاب المقدس.
وبعد ذلك بدأ يكتب تفسيرًا للكتاب المقدس، بعد أن حثه على هذا أمبروسيوس، أحد تلاميذه، ومن فرط درايته بالكتاب المقدس كان يملي تفاسيره على أكثر من سبعة سكرتيرين كانوا يتبادلون الكتابة في أوقات محددة. واستخدم عددًا كبيرًا من النساخ عدا البنات اللاتي كن يجدن الكتابة. وكان أمبروسيوس المشار إليه ينفق على جميع هؤلاء بسخاء.
ولما ذاع صيته في البلاد المجاورة، بل في كل العالم المسيحي وغير المسيحي، أرسل حاكم بلاد العرب إلى الأنبا ديمتريوس وإلى حاكم مصر أن يرسلا إليه أوريجانوس بأقصى سرعة، ليعلمه التعليم المسيحي، فأرسلاه. وبعد أن تم القصد من الزيارة في وقت وجيز عاد أوريجانوس إلى الإسكندرية.
ثم أرسلت ماميا، أم الملك اسكندر ساويرس، تستدعيه إلى أنطاكية لتسمع وعظه.
وفي سنة 228 أرسله ديمتريوس إلى إخائية في بلاد اليونان ليفند آراء الهراطقة الذين أقلقوا الكنائس هناك. فذهب. وفي رجوعه مر بفلسطين، فرسمه أسقف أورشليم وأسقف قيصرية أسقفًا لغزارة عِلمه وسِعَة اطلاعه على الكتاب المقدس، ولأنهما رأيا أن معلم الأساقفة لا يليق بأن يكون مجرد شخص علماني.
ولما عاد إلى الإسكندرية عقد ديمتريوس سنة 230 مجمعًا محليًا قرر تجريده من رتبته الكهنوتية (أولًا) لأنه رسم أسقفين لا سلطان لهما عليه (ثانيًا) ولأنه خصى نفسه. وقيل إنه كان هنالك مخالفات لاهوتية في مؤلفاته.
فكان هذا الحكم سببًا في أن يلتجئ أوريجانوس إلى فلسطين سنة 231، حيث رحب به أساقفتها. فاستقر في قيصرية، وأنشأ بها مدرسة لاهوتية عظيمة تتلمذ على يديه فيها "تلاميذ كثيرون، ليس فقط من البلاد المجاورة، بل أيضًا من ممالك أخرى. من بين هؤلاء ثيودورس نفسه أحد الأساقفة البارزين، واشتهر باسم غريغوريوس الصانع العجائب، وأخوه اثينودورس" (تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري 6: 30).
ولما تنيح ديمتريوس، بابا الإسكندرية وخصم أوريجانوس، خلفه ياركلاس، الذي كان من أخلص تلاميذ أوريجانوس، فرفع الحرم عنه وطلب منه العودة إلى الوطن. لكنه فضل البقاء بفلسطين، وصرف فيها بقية أيام حياته في التعليم بالمدرسة التي أنشأها، وفي كتابة باقي مؤلفاته الكثيرة التي لم يصل إلأينا منها إلا القليل.
يقول موسهيم المؤرخ المشهور في كتابه (ص100) إن أوريجانوس كتب عدة رسائل جمع منها مائة رسالة، وثمانية كتب ضخمة فند فيها الآراء التي كان كلسوس الفيلسوف الوثني قد ضمنها في كتابها ضد المسيحية، وكتب أربعة كتب عن المبادئ، وعشرة كتب ملقبة بمجموع فوائد، والهكسابلا أي توراته التي بستة حقول من ست لغات، والتتربلا التي بأربع قراءات، ولم يبق منها إلا القليل، ونبذات في الصلاة والاستشهاد والقيامة. ولكن كتبه المعتبرة هي تفسير الأسفار المقدسة. فإنه فسر كل سفر منها إلا الرؤيا.
ويقول يوسابيوس القيصري في كتابه " تاريخ الكنيسة " (6: 24و32و36) إنه " كتب تفسيرًا عن إشعياء، وقد وصلنا منه ثلاثون كتابًا. وأما تفاسيره عن حزقيال فبلغت خمسة وعشرين كتابًا. وكتب تفسيرًا عن نشيد الأنشاد وبلغ عشرة كتب. وكتب أيضًا تفسيرًا للأنبياء الاثني عشر". ويقول أيضًا " ولماذا نقدم في كتاب التاريخ هذا قائمة دقيقة عن مؤلفات الرجل التي تحتاج إلى مؤلف خاص".
وتقول الآنسة إيريس حبيب المصري في كتابها " قصة الكنيسة القبطية " (ص 57) إن مؤلفاته " بلغ عددها ستة آلاف مخطوط على ما رواه أبيفانيوس أسقف قبرص. ومن بين هذه المؤلفات التي لا تحصى الكتاب المقدس الذي وضعه في خمسين مجلدًا".
استمرت الكنيسة المسيحية شرقًا وغربًا في نزاع مستمر بشأن شخص أوريجانوس وتعاليمه ومؤلفاته زمنًا طويلًا، سواء في أيام حياته أو بعد وفاته. فإن مسيحي الغرب اعتبروا مؤلفاته مقدسة، وانكبّوا على قراءتها، وتتلمذوا له عن طريق دراستها. أما مسيحيو الشرق فقد طعنوا فيها.
ومع أن الكنيسة القبطية لا تعتبره بين قديسيها فإنها تعتبره بين أعظم علمائها. ولذلك لا تلقبه بالقديس أوريجانوس، بل تكتفي أن تلقبه بالعلامة أوريجانوس.
وبعد أن أكمل جهاده في التعليم والتأليف توفي سنة 254م في مدينة صور، وله من العمر 69 سنة.
ويعتبر كتاب أوريجانوس هذا "الرد على كلسس" من أقوى ما كتبه، بل من أقوى ما كتبه آباء القرون الأولى، الأمر الذي دعاني إلى نقله إلى العربية، كطلب الكثيرين من محبي الكنيسة. ويتضمن الكتاب ثمانية كتب اكتفيت في الوقت الحاضر بتعريب واحد منها، على أن تترجم الكتب الباقية فيما بعد إن أذن الرب وعشنا.
وإنني إذ أقدمه للقراء الأعزاء أرجو أن يكون بركة لكل من يقراه.
وإن نفسي لتتوق إلى أن تنهض كنيستنا القبطية الأرثوذكسية مرة أخرى في هذه الأيام نهضة قوية، فتعود إليها قوتها الأولى، وغيرتها الأولى، ومحبتها الأولى، ويقوم من بين بنيها أمثال أوريجانوس، وأثناسيوس، وكيرلس، أولئك الذين وقفوا في وجه مقاومي الكنيسة والمفترين عليها وقفة نبيلة، فحطموا كل قوات الأعداء، وحفظوا للكنيسة تعاليمها السليمة، فباءت كل المقاومات والافتراءات بالفشل، وخرجت الكنيسة أقوى مما كانت.
ليتمجد اسم إلهنا في كنيسته إلى الأبد. آمين.
القاهرة في أول سبتمبر 1970 – 26 مسرى 1686 ش.
القس مرقس داود
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-morcos-dawoud/against-celsus/origen.html
تقصير الرابط:
tak.la/nmj5jah