للكنيسة في الصوم الأربعيني برنامج روحي قوى ليكون فترة نهضة روحية، ومصدر توبة جماعية وشركة عميقة مع رب المجد يسوع في صومه، فالمسيح صام عنا ومعنا، وهو شريك مع كل نفس صائمة في هذا الصوم، يعبر بها من حالة إلى حالة أخرى.
وفى هذا الصوم تمارس الكنيسة فترات الانقطاع، والقداسات اليومية وحياة التوبة والتذلل الجماعي لأنها كنيسة جموعية، ومن ثم جعلت لهذا الصوم برنامجا كرازيًا جماعيًا لتعليم الموعوظين الداخلين في الإيمان حديثاً.
لذلك ينبغي أن يكون هذا الصوم الذي رتبته كنيستنا ضمن إطار القصد الإلهي في حياتنا، لكي تظهر حياة المسيح فينا ونكون شركاء الطبيعة الإلهية، وهذا هو قصد الصوم الذي نعيشه في هذه الأيام المقدسة، لكي نسعى فندرك الذي لأجله أدركنا المسيح.. فهو صام بذاته، صام عنا ليعرفنا أنه سيكون شريكا لنا في الطريق، وكل من يصوم صوما روحانيا يسير في مَعِيَّة الملك المسيح.
وتظهر سمات وخصائص الروحانية الأرثوذكسية في منهج الكنيسة الروحي خلال فترة الأربعين المقدسة، فتقودنا إلى الطريق الواحد الذي بإمكانه أن يقود الأرثوذكسي القبطي إلى باب الحياة الضيق واستقامة التعليم واستقامة الحياة أيضًا أي إلى الأرثوذكسية، فقد جعلت الكنيسة من الصوم لا فترة قهر وحرمان ولكن فترة بهجة وفرح يسميها الآباء فترة الحزن المضيء.. نتخيل فيه الإمساك السلبي عن المأكل ونتحول إلى الانفتاح الإيجابي في طريق الشبع الروحي المفرح.
والصوم الأربعيني هو مدرسة التوبة التي تدربنا فيها الكنيسة بالصلاة وسماع كلام الحياة لكي نتوب ونختبر من جديد القيامة من موت الخطية ونوال الحياة الأبدية في داخلنا، لقد كان الغرض الرئيسي من الصوم الكبير في عصور الكنيسة الأولى هو تعليم الموعوظين -أي المؤمنين الجدد بالمسيح- وتهيئتهم لنوال سر المعمودية التي كانت تتم في عيد القيامة, ولقد بقى المعنى الأساسي للصوم الكبير، ورغم أننا معمدون إلا أننا في اغلب الأحايين نفقد قوة الحياة الجديدة التي كنا قد نلناها في المعمودية، ولذلك فان فترة الصوم هي فرصة رجوعنا من جديد إلى هذه الحياة الإلهية التي وهبها لنا المسيح بمجيئه إلى العالم، والتي نلناها منه في معموديتنا ثم فقدناها في وسط اهتماماتنا وانشغالنا ونسياننا في وسط هذا العالم.
وصوم الكنيسة هذا صوم ناري تلهبنا فيه بحرارة العشق الإلهي وبتعبير جميل يصور القديس أغسطينوس للمعتمدين الجدد كيف صاروا خبزا واحدا فيقول:-
"إن صوم الأربعين المقدسة والصلوات ورغبة الانضمام إلى الكنيسة قد طحنوكم معا كحبوب الحنطة تحت الرحى، ثم بلل ماء المعمودية جبلتكم هذه فعجنتكم معًا وشكلتم خبزًا، ولكن ليس من خبز بدون نار، لقد جاءت النار مع مسحة التكريس التي هي سر التثبيت بالروح القدس، الذي يلهمنا المحبة ويجعلنا نحترق من أجل الله ونحتقر العالم، فالنار تأتى بعد الماء، وأنتم قد صرتم خبزا الذي هو جسد المسيح".
الصوم الكبير رحلة روحية ونهاية هذه الرحلة هو الفصح المسيحي أو عيد القيامة "عيد الأعياد"، فالصوم إعداد للفصح "البصخة"، أو إعداد لرؤية القيامة، وبالصوم نستعيد رؤية الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع، لنتوب ونرجع فنذوق حياة الملكوت الجديدة والشركة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لئلا تصير حياتنا بلا معنى مظلمة وتافهة ومضيعة، وتقدم لنا الكنيسة فعل الصوم مدرسة للتوبة ومعونة لنتمكن به من أن نستقبل عيد القيامة وأفراحها كنهاية للقديم ودخول للجديد القائم.
لقد كان الغرض الرئيسي من الصوم في العصور الأولى للكنيسة، هو إعداد الموعوظين الداخلين إلى الإيمان بالمسيح وتهيئتهم للمعمودية التي كانت تتم في عيد القيامة، فرغم أننا نخون ونضعف ونفقد ما قلبناه في المعمودية، إلا أن عيد القيامة هو رجوعنا كل سنة إلى معموديتنا وهنا يكون الصوم فترة إعدادنا لهذا الرجوع، لكي بالتوبة والصلاة والرحمة والفضيلة مع الصوم نأتي في النهاية إلى "العبور"، عبورنا نحن إلى الحياة الجديدة في المسيح لكي نذوق فرح قيامته ونراها..
إنها رحلة الحزن المضيء لنتطلع إلى فرح القيامة والدخول في مجد الملكوت وهذا هو التذوق المسبق لفرح القيامة الذي يجعل حزن الصوم لامعًا ومضيئًا ويجعل الجهد المبذول في فترة الصوم ربيعًا روحيًا.
ومن ثم نجد أن الصوم في الكنيسة فترة استنارة وإعداد للتوبة والمصالحة والتطهير بواسطة الاعتراف والتناول ومسحة المرضى "القنديل" لتكون فترة الصوم فترة مصالحة مع الله، ومسامحة مع الناس وتجديد للحياة كلها.. وكل هذه التداريب والممارسات تعطى الصوم الأربعيني الصفة العملية، في الاقتداء بالمسيح الذي صام عنا ولأجلنا، فنغلب الشيطان في تجارب الجسد كما غلب المسيح لحسابنا، فهل نحن معه الآن في البرية على جبل التجربة؟ هل نحن هناك؟ إن أساس الصوم هو اختبارنا للفداء، وهدف الصوم الحقيقي ألفتنا وشركتنا مع الثالوث القدوس، أن نكون مع المسيح ليصبح حيا نلمسه نختبره ونتحقق حضوره في داخلنا، وكيف يكون صومنا واعترافنا بدون ذلك؟ لنسأل أين يقيم المخلص لنقيم معه، وبالصوم نلتهب شوقا وحنينا وعشقا له لأنه الحياة بذاتها، وكل من يعرف خزيه يعرف كيف يطلب النعمة.
وكل صوم يقف عند المظاهر الخارجية صوم جسداني بلا ثمر، لأن مخلصنا الصالح يريد الصوم الداخلي الجواني، وملكوت الله هو داخلنا، وان كان الصوم قد ارتبط عند اليهود بالتوبة ويسمى يوم الصوم يوم الغفران، فكيف يكون في العهد الجديد؟ ذلك الصوم الذي تضعه الكنيسة كدرب نسير فيه رحلتنا الروحية لنصل إلى أفراح القيامة، نعيشها ونختبرها ونتمتع بجدة الحياة المقامة في شخص ربنا يسوع، لأنه يوجد دفاع لخلاصنا ما دام يوجد المسيح ربنا، وما عدة أسلحتنا إلا المسيح يسوع.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/lent/program.html
تقصير الرابط:
tak.la/7zh8jdz