لم يذكر الإنجيل عن حياة يسوع قبل بدء خدمته سوى قصة زيارته للهيكل في سن الثانية عشرة. فكيف نفهم هدف ذكر هذه القصة فقط؟ بالنسبة لكل يهودي تقى نجد أن الحياة العادية والدين متشابكان وكلاهما لهما إرتباط عضوى بالهيكل وبشعب إسرائيل. وكل إسرائيلى عميق التفكير يفهم أن حياته الحقيقية ليست في المكان الذي يحيا فيه بل تجرى نحو الوحدة الكبرى مع شعب الله وتدور حول الهيكل وهالة التقديس التي تحيط به. بل كل يهودي في أعماق مشاعره أنه مولود في صهيون فهناك منبع حياته. إذًا لم تكن مشاعر اليهودي أين كان هي مشاعر الإشتياق الطبيعى لرؤية مدينة أبائه أورشليم المجيدة، ولا هي مشاعر الحماس بأن تقف أقدامه على أبواب أورشليم حيث وقف الأنبياء والملوك والكهنة. ولكن هي مشاعر أعمق تجعله فرحا حين يقول "هلم ندخل بيت يهوه". وحتى حينما يكون الهيكل خربا فاليهودي يتمسك بذكريات الماضى المجيد، ويتمسك بوعود الله عن مجد أورشليم الآتى، والذي يراه اليهودي أنه آتٍ قريبا. بل ويعود عرش داود في أورشليم وسط قصورها.
وكان هناك قانون مشدد أنه على الصبى في سن الثالثة عشرة أن يتواجد في الهيكل ليرى ويلاحظ الشعائر التي تمارس في الهيكل في الأعياد، وحينئذ يطلق على الصبى "ابن التوراة أو ابن الشريعة". وكانوا ينفذون هذه الوصية للصبى قبل سن الثالثة عشرة بسنة أو بعد هذا السن بسنتين على الأكثر. وبحسب هذه الوصية إصطحبت العائلة المقدسة الصبى يسوع بصحبة الناصريين في أول عيد فصح للصبى يسوع بعد أن إجتاز سن الثانية عشرة. ويتضح أن هذه كانت عادة العائلة المقدسة أن يذهبوا إلى أورشليم سنويا في عيد الفصح. ولم تكن النساء ملزمة بالذهاب إلى الهيكل، ولكن العذراء مريم إستفادت فرحة بأراء الرابى هليل الذي سمح للنساء بحضور هذه الإحتفالات المقدسة.
ولقد إختلفت الظروف السياسية فقد عاقب الإمبراطور رئيس الربع أرخيلاوس ونفاه إلى بلاد الغال، وضم اليهودية والسامرة وأدومية إلى ولاية سوريا الرومانية. وعيَّن واليا على هذا الجزء من أرض فلسطين، وهذا كانت إقامته في قيصرية. وكان اليهود يأملون في مثل هذا التغيير ليتخلصوا من حكم عائلة هيرودس الطغاة. ولكن أحلامهم ذهبت هباء. فلم تعود لهم إمتيازاتهم وإستمرت معاناتهم وجرد الرومان السنهدريم من قوته الحقيقية. ولكن الرومان لم يتدخلوا في الأمور الدينية لليهود. ولكن وجود الرومان كقوة حاكمة مسيطرة في أورشليم كان بمثابة إهانة لليهود. وتسبب هذا في مقاومة كانت أشبه بـمعركة "حياة أو موت". وكانت أول ممارسات الوالى الجديد لسوريا "سالبيسيوس كيرينيوس" أنه إستباح أموال أرخيلاوس، هذه التي كان أرخيلاوس قد حصلها بطرق غير شرعية. بل وأمر بعمل تعداد للسكان لتحديد ضرائب عليهم. وهذا التعداد أثار الشعب إذ إعتبروه علامة إستعباد ومضاد لفكر الحكم الإلهي لإسرائيل. ولأن هذا التعداد كان في نظر كبار الربيين ضد الناموس لم يخضعوا له. ولم تفلح محاولات رئيس الكهنة الذي كان يمثل الوالى في إخماد هذه الثورة، ولكن نجحت محاولاته في أن يتم التعداد. وشكل هذا التعداد والثورة التي حدثت بسببه جزءا من التاريخ ووصل كل هذا إلى أسماع الصبى يسوع.
كان ملك هيرودس الكبير الذي لا يستحق هذه التسمية، علامة على فترة من التاريخ اليهودي إنتهت بالحرب اليائسة بين اليهود والجيش الروماني التي إنتهت بحريق أورشليم والهيكل. وخلال هذه الفترة نشأت جماعة أسماها يوسيفوس المؤرخ اليهودي "القوميين أو الوطنيين" كحزب رابع بجانب الفريسيين والصدوقيين والأثينيين [وهذه جماعة من النساك اليهود عاشوا ما بين سنة 200ق.م. وسنة 100 ب.م. وسكنوا شمال البحر الميت وكلمة نساك بالإنجليزية Ascetics]. وإنقسم الشعب بين مؤيد لهؤلاء القوميين أو مضاد لهم. وكان مبدأهم أنه لا سيد مطلق عليهم إلا الله. وهذه كانت حركة لإحياء فكر المكابيين (كلمة المكابيين مأخوذة من مقاطع "مى كاموكاه بعليم يهوه" وتعنى "من يشبهك يا رب بين الآلهة"). وهى كانت حركة قومية وطنية أكثر منها دينية، مع أنه من الصعب الفصل بين الاثنين عند اليهود. ولم يُطلق على أتباعهم لقب الحسيديين أي الأتقياء كما كان في أيام المكابيين بل قيل عن أتباعهم لقب الغيورين وبالعبرية القانويين. وكان موطنهم الأصلى الجليل وليس اليهودية. وسادت معاقل الهيرودسيين والفريسيين والصدوقيين مشاعر مناوئة لهؤلاء الوطنيين. ولم يكن من المتوقع أن يؤيدهم الأثينيين المنشغلين بتأملاتهم الصوفية ونسكهم منسحبين من العالم. ولم يتعاطف معهم أيضًا الربيين أتباع مدرسة هليل. ويبدو أن هؤلاء الجليليين الوطنيين ورثوا شجاعة يفتاح وحماسة إيليا. هؤلاء لم تلقنهم المدارس الموجودة هذه الحماسة بل إشتعلت قلوبهم بالغيرة على الله وشعبه إسرائيل.
وخرج منهم في بداية حكم هيرودس ثوار فدائيين ضده تحت قيادة "حزقيا" [ربما هو ثوداس أع5: 36] وأبدوا مقاومة شديدة ضده، ولكنها لم تكن منظمة. وأسماهم يوسيفوس اللصوص لأن السنهدريم وافق على إعدام حزقيا هذا. ولكن مع بداية هيرودس صار السنهدريم شبح له، وصار أعضاء السنهدريم بترشيح من هيرودس من الكهنة والصدوقيين وأساتذة الشريعة الباحثين عن سلام حياتهم أولًا بل كانوا يحتقرون الشعب. وهؤلاء لم يكن لهم أي تعاطف مع الطموحات والأمال الوطنية. هؤلاء كان الملكوت السماوى المثالى يتمثل بالنسبة لهم في أن السماء تعطى بعمل إعجازى حكم مطلق للربيين.
وبالتبعية، بعد ذلك حين ظهرت الحركة الوطنية لم تلق أي تعاطف من قادة الربيين. وظهرت الأثار الكبيرة لهذا قبل أن يأخذ يوحانان بن سكاى الشهير أورشليم بفترة قليلة. وذلك قبل خراب أورشليم بفترة قليلة. ولوحظ وقتها أن أبواب الهيكل قد فتحت من تلقاء نفسها بدون يد إنسان. وإعتبروا هذا نذير شؤم كما يفهمون تفسير (زك11: 1) ففى الكتابات التلمودية يطبقون كلمة لبنان على الهيكل. وفهموا أن هذا علامة على خراب قريب. وهناك قصة عن الأحداث الأليمة في هذه الفترة. فحينما رأى يوحانان أثار المجاعة الحادثة في أورشليم نتيجة الحصار الروماني، والشعب يحتفل بعمل حساء من القش، سخر من هذه الحامية الضعيفة التي تتحصن بأسوار أورشليم ضد جيوش فاسباسيان قيصر روما وصمم على ترك المدينة. وحاول كقائد لمدرسة هليل أن يقنع الشعب بالإستسلام والخضوع لروما ولكن ذهبت محاولاته هباء. وبينما نجد أن مدرسة الرابى هليل إتجهت للسلام والإهتمامات الفلسفية، ولم تهتم بالإتجاهات الوطنية، وكان شعار مدرسته "العقلاء هم شعب الله أما هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الناموس فهم ملعونين". كانت مدرسة الرابى شماى قمة في التعصب، فهم لا يتعاملون مع الأمم بل كانوا يطردون من يريد أن يدخل لدين اليهود، وتعاطفت مدرسة شماى مع المشاعر الوطنية. بل وصلوا لقتل عدد من أتباع مدرسة هليل حضروا لمناقشة فكر شماى حول 18 قانون لمقاطعة الأمم تمامًا. ومنها عدم البيع أو الشراء من الأمم وعدم تعلم لغتهم (عقد هذا الإجتماع في بيت حنانيا بن حزقيا أحد كبار مدرسة شماى، وحينما وصل أتباع هليل قتلوهم). وحددوا في هذا الإجتماع قادة ليدعموا الحركة الوطنية.
رأينا كيف ظهرت الحركة الوطنية مع بداية ظهور هيرودس وكيف حاول إخمادها بدون رحمة، أولًا بإعدام حزقيا. وبعد جلوسه على العرش ذبح أعضاء السنهدريم. وهذه الممارسات الوحشية لهيرودس أعطت الربيين إتجاها آخر. فبينما إتجهت مدرسة هليل وهى تضم الأغلبية إلى النظريات اللاهوتية، إتجهت مدرسة شماى وهى تضم أقلية إلى الحركات الوطنية. ولم يكن مثل هيرودس الذي كان يخمد بعنف أي حركة وطنية، ويتضح من هذا لماذا كان ناويا على قتل المسيح إذ سمع أنه ملك اليهود. ونلاحظ أنه بعد ذبح أعضاء السنهدريم أن تغير فكر الربيين من الإهتمام بملك المسيا، ولأن هيرودس كان يعلم تأثير رئيس الكهنة على الشعب كان يعطى الوعود لرئيس الكهنة. ومع علمه بصعوبة تغيير رئيس الكهنة إلا أنه كان يفعلها. وتغير رؤساء الكهنة بين أربع عائلات إمتصوا أموال الهيكل. بل إهتم هيرودس في أيامه بأن يكون رؤساء الكهنة من خارج أرض فلسطين. ومن الطبيعى مع كل هذا لم يعد لرؤساء الكهنة أي إهتمامات قومية أو وطنية. ونفس الإحتقار لوظيفة رئيس الكهنة ساد أثناء حكم أرشيلاوس. وعلى فراش موته أعطى هيرودس رئاسة الكهنوت إلى يوعازار بن بويثوس الكاهن السكندرى الثرى. وكانت مريم الثانية التي تزوجها هيروددس هي بنت بويثوس هذا. وتحالفت أسرة بويثوس مع هيرودس مؤلفين حزب الهيرودسيين الملتزمين بالفكر الفريسي مع ولائهم التام لعائلة هيرودس الحاكمة. ولكن يوعازار إتخذ الموقف الشعبي ضد أرشيلاوس. فعند بداية حكمه عزله أرشيلاوس وعين بدلًا منه إبنا آخر لبويثوس هو العازار. ولكن إنقلب فكر أرشيلاوس من ناحية عائلة بويثوس وبدأ يشك فيهم. ووجدنا أن رئاسة الكهنوت قد ذهبت ليشوع وهو شخص غير معروف. ثم مرة أخرى وجدنا رئاسة الكهنوت قد عادت ليوعازار بن بويثوس ثانية أثناء تعداد كيرينيوس. وغالبا فقد حدث هذا لشعبيته وإلتفاف الناس حوله. فأعاده الحكم الجديد بعد عزل أرشيلاوس. وهذا يفسر تأثيره على الشعب وهدوءهم، وقبولهم لتعداد كيرينيوس.
وإستمرت هذه الثورات التي بدأت في الجليل، ولم يقتنعوا بموقف يوعازار الذي هدأهم وجعلهم يقبلون بالجزية التي فرضها عليهم كيرينيوس. وقام من يُدعى يهوذا الجليلى وإعتبر أن موقف يوعازار هو خيانة، ودعمه في هذا الرابى صادوق من مدرسة شماى، وبدأوا في تمرد جديد. ونرى في موقف غمالائيل (أع5: 37) كيف كانت نظرة مدرسة هليل لهذه الحركات الثورية. وقدمت عائلة يهوذا الجليلى شهداء كثيرين في هذه الثورات وصلبوا أبناءه ولقوا عذابات كثيرة، إذ ظلوا في حالة تمرد وحرب ضد روما سعيا وراء أمل إسرائيلى في الحرية. ومات هؤلاء في ماسادا [قلعة بناها هيرودس الكبير على مرتفعات البحر الميت وفيها إستشهد المئات من ثوار اليهود]. لاحظ أن أحد التلاميذ الإثنى عشر كان من هؤلاء الغيورين وهو سمعان الغيور (لو6: 15) أو سمعان القانوى (مت10: 4). ولكن مفهوم مملكة المسيح كانت شيئا مختلفا تمامًا عن فهم هؤلاء الغيورين.
وكان صعود الصبى يسوع إلى الهيكل في العيد في أثناء ولاية كيرينيوس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكانت الجزية قد تقررت وأخمدت ثورة يهوذا. ولكن كيرينيوس لم يكن لديه ثقة تجاه يوعازار رئيس الكهنة فإستبدله بحنان بن شيث. وهو حنان السيئ السمعة في العهد الجديد. وظل هو وإبنه في رياسة الكهنوت حتى تولى بيلاطس البنطى ولاية اليهودية. وتبعه قيافا زوج إبنته في رياسة الكهنوت. وقد خضعت فلسطين تحت حكم الولاة الرومان وأولهم كان كوبونيوس وتلاه ماركوس أمبيفيوس ثم أنيوس روفس ثم فاليريوس جراتوس وهؤلاء نعرف القليل عنهم. وقاموا كلهم بإضطهاد وظلم اليهود ولكنهم إحترموا مشاعرهم الدينية حنى أنهم أزالوا صورة الإمبراطور من على أعلام الجنود الرومان أثناء سيرهم في أورشليم. وذلك حتى لا يثيروا مشاعر اليهود العدائية لهم إذ أن صورة الإمبراطور تعني عبادته. ولكن أعاد بيلاطس البنطى هذا الرمز المكروه من اليهود عندما تولى ولاية اليهودية. ولنتصور أن ظهور المسيح كان في هذه الفترة الحرجة من تاريخ إسرائيل. وكان صعود المسيح الأول للهيكل بعد إخماد ثورة يهوذا الجليلى وفرض الجزية وتولى حنان رئاسة الكهنوت. وعاصر بدء خدمة المسيح تولى بيلاطس البنطى ولاية اليهودية وتولى قيافا رئاسة الكهنوت. وكان الصعود الأول للمسيح إلى الهيكل في عيد الفصح سنة 9 م. وكان الوالى وقتها هو كوبونيوس، وكان حنان هو رئيس الكهنة. وكانت هذه فترة هدوء مؤقتة في البلاد، لقد إحتفظ الثوار بالثورة في قلوبهم إذ عجزت أيديهم عن فعل شيء. وبحسب العادة صعدت العائلة المقدسة وسط قافلة الجليليين إلى أورشليم وهم يرنمون ترانيم المصاعد وهذا كان يثير في الجميع المشاعر الروحية المقدسة. وبالنسبة للصبى يسوع فهذه هي الزيارة الأولى لبيت أبيه السماوى وبداية وعيه لإرساليته. هذا ما كان يشغل فكره وليس عظمة مبانى الهيكل. وكان الهيكل من الضخامة حتى أنه يتسع لمئات الألوف من الذين يصعدون للهيكل في الأعياد. كان من يأتون لعيد المظال أكثر ممن يأتون في الفصح ويقابلهم سكان أورشليم بالترحاب وكرم الضيافة. وكان الهيكل على تل محاط بقصور عديدة ومغطى بالرخام الأبيض ورقائق الذهب. كثير الأروقة مثل رواق سليمان الضخم. والهيكل كثير الأبواب الهائلة مثل باب الجميل. وتقدر مساحته بــ 300 × 300م. على أحد زواياه قلعة أنطونيا وبها الحامية الرومانية. وهناك باب يفتح على جبل الزيتون. وهناك أماكن لمن يقصدون الهيكل للصلاة والمناقشات للتعليم. وهناك برج يوحنا والذي منه تجد فتحة ومنها منزل إلى وادى قدرون أسفل الهيكل بحوالى 150 متر. ومن هذا البرج يعلن الكاهن فجرا بدء الطقوس اليومية التي تمارس في الهيكل. وفي الهيكل هناك مقر السنهدريم حيث يعقدون جلسات مجمعهم. وهناك دار الأمم والممنوع على أي أممى أو من هو غير طاهر شرعيا أن يجتازه وحجر موجود عليه تحذير بعدم إجتيازه. وفي دار الأمم يوجد الصيارفة وباعة الذبائح الطقسية. ومن باب الجميل تدخل إلى دار النساء وفيها الخزانة بأبواقها الثلاثة عشر [كانت الصناديق التي يلقى فيها بالنقود لها فتحات بها أبواق يسمع منها رنين العملات التي تلقى في الصندوق]. وفوق دار النساء يوجد 15 درجة تقود للدار العليا من خلال باب نيكانور المغطى بالنحاس الكورنثى، وهنا تجد اللاويين المرنمين بألاتهم الموسيقية. والدار العليا بها دار الكهنة ودار إسرائيل ومذبح المحرقات الكبير والبحر. ثم هناك 12 درجة تقود للمقادس حيث القدس وقدس الأقداس الذي لم يوجد فيه تابوت العهد بعد تخريب الهيكل بواسطة البابليين سنة 586 ق.م. ووضعوا فيه حجر غطى حفرة ظنوا أن العالم وجد منها. ويوجد خارج المقادس موائد رخامية يوضع عليها خبز الوجوه. وباب المقادس عليه كرمة ذهبية.
وسط هذا الهيكل ووسط الشيوخ أساتذة الناموس جلس الصبى يسوع يسمع ويسأل لمدة ثلاثة أيام. وكان على الشعب حضور اليومين الأولين للفصح، وكان يسمح للشعب بالعودة إلى بيوتهم بعد منتصف اليوم الثالث. ولذلك قرر يوسف والعذراء مريم العودة إذ لم يكن هناك داعٍ لبقائهم بقية أسبوع الفصح بعد أن أتموا كل طقوسه، وهكذا فعل الكثيرون وبدأوا رحلة العودة. ولكن وجدنا الصبى يسوع لا ينضم لأقربائه أو للصبية من سنه. بل يذهب ليجلس في حلقات الدرس التي يعقدها شيوخ السنهدريم من الصباح حتى وقت التقدمة المسائية للرد على التساؤلات والإستفسارات. وكانت هذه عادة لهم حسب ما ذكره التلمود. وليس بالضرورة أن الشيوخ شعروا في المحادثات التي دارت مع الصبى يسوع أنهم أمام شيء خارق للطبيعة. فهم بحسب عادة الشيوخ كانوا يعطون أهمية ويولون إهتماما أكبر لمن يجدوا فيه نضوجا مبكرا أو نبوغا غير عادى. وحتى لو لم يجدوا شيئا فائق للطبيعة في حوار الصبى يسوع إلا أن كل من سمعه تعجب من الفطنة في إجاباته وكيفية ربطه للأحداث. ولكننا لا نستطيع تصور ماذا دار في الحوار بينه وبين الشيوخ، لكن يمكن تصور أن الحوار دار حول معاني الفصح. وربما أظهر الصبى يسوع المعاني المخفية في رموز الفصح وأنها تدور حول المسيا المخلص حمل الله الذي يرفع خطية العالم (أي هو نفسه). ومن المعروف أن هليل الكبير حاز على درجته الرئاسية إذ أثبت أن الفصح يجب أن يقدم حتى في السبت.
وهناك تصور جائز أن العذراء مريم أخبرت الصبى يسوع ما حدث يوم البشارة بميلاده، ويوم ميلاده، ويوم دخولها الهيكل معه وما قيل عنه من سمعان الشيخ وحنة النبية. وكانت إجابة يسوع على شكواها من تخلفه عن موكب القافلة، فقد قال لها "ألم تعلما أنه ينبغى أن أكون فيما لأبى" وهذا يعنى "ألا تذكرى كل ما سمعتيه وتعرفى أن لى رسالة وأننى مكلف من أبي بأن أتممها، وعلىَّ أن أكون في كل لحظة فيما لأبى الذي أرسلنى". ومعنى إجابة الصبى يسوع أنه بوجوده في الهيكل بيت أبيه أُخِذَ تمامًا بفكرة أثيرت في ذهنه عن هدف إرساليته فكان أن تغافل عن كل ما يدور حوله. ويمكننا القول أن الصبى يسوع في تغافله وعدم إهتمامه بحياته كطفل وكصبى يحيا حياته مثل بقية الصبية، واضعا عينيه على إرساليته، كانت هذه أول ذبيحة يقدمها يسوع. وبنفس المعنى أغفل الإنجيل سرد حياة يسوع بل فقط تعاليمه وفدائه. وبنفس الفكر قال لتلاميذه "طعامى أن أعمل مشيئة الذي أرسلنى وأتمم عمله" (يو4: 34). وهناك ملاحظة أن إجابة يسوع التي قالها لأمه العذراء "ينبغى أن أكون فيما لأبى" تترجم بمعنى أنه "ينبغى أن أكون في عمل أبي" ويمكن أن تترجم أيضًا "ينبغى أن أكون في بيت أبي". وهذا ما جعل يوسف والعذراء لا يفهمان ما يقول فلا يوجد صبى في إسرائيل يقول عن الهيكل بيت أبي. وهكذا إعتادت العذراء الأم أن تستمع لكلمات ابنها وأفعاله وتصرفاته، تفهم البعض ولا تفهم البعض الآخر وتندهش له. فإذا فهمت أن الهيكل هو بيت أبيه فلماذا عاد إلى الناصرة وظل خاضعا لهما بعد ذلك. وكان خضوعه لهما خضوعا إراديا. وظلت هي تحفظ هذه الأمور في قلبها وتفكر فيها بينما هو ينمو أمامها. ونحن الآن يمكننا فهم قول المسيح ليوسف وللعذراء أمه في ضوء ما عرفناه عنه من خلال الإنجيل وأنه ابن الله في الجسد. أما العذراء فكانت تجمع كل هذا يوما فيوم.
كانت الحياة بسيطة في بيت بسيط فهم ليسوا من الأغنياء، وهكذا طعامهم وملبسهم، وهكذا كانت كل بيوت الناصرة فهي مدينة فقيرة بسيطة لا تأثير لها في المجتمع. وفي وسط هذا المجتمع البسيط كانت العلاقات بين الأسر وبعضها مترابطة. وهكذا داخل كل أسرة. وبالطبع كان هذا هو الوضع بين يسوع وإخوته وأخواته [من أبناء العمومة أو خلافه فالأقارب هم إخوة عند اليهود. فقد قيل عن إبراهيم أنه أخو لوط بينما هو عمه]. ومن إخوته يعقوب ويهوذا (كاتبى رسالتى يعقوب ويهوذا). ويوحنا ويعقوب إبنا زبدى أبناء سالومة أخت العذراء (قارن مر15: 40 مع يو19: 25) [جاءت الآية يو19: 25 في الترجمة الإنجليزية هكذا "وكانت واقفات عند صليب يسوع، أمه، وأخت أمه. مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية" فنلاحظ في هذه الترجمة نقطة توضع بين أخت أمه تفصلها عن مريم زوجة كلوبا. وبهذا تكون أخت أمه هي سالومة المذكورة في إنجيل مرقس]. ويبدو أن إخوته كانوا من أتباع الفكر الفريسي والقومى ولهم أحلامهم الوطنية في الحرية والمستقبل المسيانى المجيد. وورث يسوع من يوسف النجار مهنته فعمل نجارا (مر6: 3). واليهود لم يحتقروا المهن اليدوية كما يفعل الوثنيون، بل كان هذا يبدو أنه واجب دينى بل ويشدد على أن يتعلم الأولاد حرفة على ألا يعوقهم هذا عن دراسة الناموس. وكانت المحبة تسود العائلات اليهودية بين الأباء والأمهات وأولادهم، وأيضًا إكرام الأبناء للوالدين. ولم يعرف في العائلات اليهودية أنهم يستأجرون مربيات للأطفال من الوثنيات فهذا مفسدة للأطفال. ولأن يسوع عاش حياة طبيعية كان يرى كيف يلعب الأطفال، وأعطى مثالا لذلك (لو7: 32) في حديثه عن رفض اليهود له وليوحنا المعمدان.
تكلم المسيح عن جمال زنابق الحقل وفي هذا نرى نظرة المسيح للطبيعة ومشاعره الحساسة بجمال الطبيعة، وهكذا رأى الطيور التي تجد طعامها بعمل إلهي. وشاهد بحس مرهف عاطفة الأمومة عند الطيور وكيف تضع الدجاجة أفراخها كأم تحت جناحيها. وكيف تعرف الخراف صوت راعيها، وكيف يرد الراعى الخروف الضال باذلا نفسه لأجله. وتكلم عن أوجرة الثعالب والطيور في أوكارها. وكان المسيح يشعر بتعاطف مع مشاعر الجموع ولم يقبل أن يصرفهم وهم جائعين. ونرى في أمثاله مشاعر حساسة تجاه المديونين والحزانى والظلم الذي تعانى منه الأرامل والفقراء ويقارن مع ترف الأغنياء. ونرى مشاعر يسوع الإنسانية في بكائه على أورشليم وعلى لعازر، وفي محبته لعائلة لعازر. المسيح لم يكره العالم الذي خلقه، بل هو لا يحتمل ألام المتألمين ويتعاطف معهم. وهو كان ينسحب من وسط هذا العالم لا لأنه يكرهه بل لأنه كان في إحتياج للخلوة والهدوء والصلاة. المسيح لم يرفض العالم بل أراد تجديده ليصل به للآب السماوى، وهو في محبته للخليقة، فتيلة مدخنة لا يطفئ وقصبة مرضوضة لا يقصف.
سادت أيام المسيح الأفكار القومية ودعمها تعليم الرابى شماى، ووجدت أيامه جماعة الغيورين وكان أحد تلاميذه واحدا منهم. وكان فكرهم مبنيا على مملكة يحكمها الله، ويحلمون بها مملكة مثالية. وتعاطف المسيح مع هؤلاء لكنه شرح لهم المفهوم الحقيقى للملكوت [مت13 مثلا. وشرح لهم أن الخلاص الحقيقى هو الخلاص من الخطية وليس من الرومان]. أما بالنسبة للفريسيين والكتبة وغيرهم من المعلمين فقد ساد عليهم الحرفية مع الرياء والكبرياء والإعجاب بالذات مع فراغ داخلى، وهذا ما واجهه المسيح بشدة وفي مجامعهم. وأنار المسيح الفهم الروحي للناموس، وإهتم هؤلاء بحرفيته دون إدراك لأعماقه الروحية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/father.html
تقصير الرابط:
tak.la/8pzfc62