أحاط تاريخ الثلاثين سنة الأولى من عمر المسيح الغموض، إلى أن ظهر المعمدان السابق للمسيح [ليمهد الطريق له ويعمده فيؤسس المعمودية]. وكان ظهور المعمدان كما كان ظهور إيليا لإصلاح مجتمع مزدهر لكنه كان يعانى من مرض خفى قد تقيح وقارب على الهلاك. كان مجتمعا يبدو متدينا ولكنه منحرف وفاسد. ورأى الله فيه أملا وإمكانية للإصلاح والتجديد. وكان كلاهما إيليا ويوحنا المعمدان متشابهان في أشياء كثيرة. فلقد ظهر كلاهما فجأة ليخيفوا الناس من أحكام مخيفة، ولكن لم يغفل كلاهما أن هناك أمل في الإصلاح. وظهر كلاهما في مظهر نسكى متقشف وملابس نسكية، بعكس عادات معاصريهم. جاء المعمدان فجأة من البرية كما جاء إيليا من برارى جلعاد. وكانت رسالتيهما متشابهتان. وتشابه غرض كليهما في أنهم برسالتيهما كانوا يعلنون بداية عصر جديد [المعمدان كسابق للمجئ الأول وإيليا كسابق للمجئ الثاني].
كان الوقت في كلا العالمين في روما وفي فلسطين قد قارب على ملء الزمان، ليس في توقع شيء معين بل في الإحتياج المطلق. لقد كان حكم أغسطس قيصر علامة ليس فقط على الوصول للحد الأقصى بل إلى حد الأزمة للعالم الروماني. وصل العالم إلى الحدود القصوى في أيام أغسطس، بالنسبة للسياسة والفلسفة والدين والمجتمع، هذا النضج كان إما أن يصل بالدولة الرومانية إلى الدمار أو التجديد والإصلاح. وكان يمكن الإحساس بأن الدولة لا يمكن أن تمتد لأكثر مما هي عليه، بل من الآن فصاعدا كان كل الهدف المحافظة على ما هو موجود من الأمم التي إستولوا عليها. كان مصير الدولة في يد رجل واحد هو قيصر وهو في نفس الوقت رئيس مجلس الشيوخ ورئيس لجيش مكون من 000,340 رجل، والكل خاضع لأوامره وهو أيضًا الرئيس الدينى ويؤلهونه. كانت كل القوى في يده. وإختلف الشعب ما بين فقراء لحد العوز وبين أغنياء مرفهين جدًا. وكان تعداد روما حوالى 2 مليون، ونصف عدد هؤلاء عبيد، وهناك من الباقين من هم من المحررين بعد أن كانوا عبيدا وأيضًا هناك أجانب. وكان لكل من هؤلاء نصيبه في إنهيار الإمبراطورية.
فلقد كان النظام السائد في معاملة العبيد، ما جعل العبيد كتلة ضخمة متقدة غضبا من الوحشية في المعاملة والظلم والدسائس والفساد. وكان هذا هو السبب الرئيسى لإنهيار الدولة الرومانية والمجتمع الروماني. أما المحررين بعد أن كانوا عبيدا، فلقد إجتمع فيهم الرذائل التي بدون خجل مع حقارة وخسة تصرفات العبيد. أما الأجانب من اليونان ومن سوريا فلقد جلبوا معهم كل الفساد. أما المواطنين الرومان فكانوا غارقين في المجون والفساد، يقضون أوقاتهم في المسارح والإستادات. ومع أنه في أيام أغسطس كان عدد المواطنين الرومان حوالى 000, 200 وهم مدعمين من الدولة، إلا أن عددهم كان يتناقص إذ إنصرف الناس عن الزواج إلى الفجور والدعارة، وإنتهت بذلك الحياة العائلية. وكانت الحياة في الأمم المحتلة أفضل كثيرًا، إلا أن سياسة الدولة الرومانية كانت تدمير القوميات ونشر الفكر اليوناني وسط الكل. وكانت المقاومة الحقيقية الوحيدة لهذه السياسة الرومانية هي من اليهود. وكان ترابطهم بسبب دينى، وكانوا متزمتين إلى أضيق الحدود، إلا أن هذا قد حقق لهم حماية إلهية. وكما كانت روما مركزا لجذب الكل، كان هذا سببا في فسادها المدمر. فوصلت روما إلى الحد الميئوس منه في الإصلاح.
ساد في روما فلسفتين الرواقية والأبيقورية. الأولى نشرت وسطهم الكبرياء، وكان هذا متفقا مع ميولهم، والثانية أشبعت شهوتهم. وكلاهما قاد لفكرة الإلحاد واليأس، أحدهما قاد الناس لتجنب كل فكر طموح، والآخر أغرقهم في الشهوانية. فإنصرفوا لتمجيد ذواتهم وعبادة المادة. وتوقف الإيمان بحياة أخرى بعد الموت. ولقد نادى الرواقيون القدماء بأن الروح تستمر بعد الموت في الوجود، وقال المحدثين منهم بإنطلاق الروح للإتحاد بعالم الأرواح ولكنهم أحاطوا هذا الفكر بالشكوك والغموض، حتى أنهم وصلوا بالناس لعدم الأمل في الحياة بعد الموت فجعلوا الناس بلا تعزية. أما شيشرون فكان الوحيد الذي نادى بخلود الروح، ولكنه أحاط كلامه بالشكوك. وأنكر غيرهم وجود الروح أصلا. أما الأمل الوحيد كان في المدرسة الأفلاطونية الحديثة، ومع أنه كان لها بعض الأخطاء، إلا أن أفكارهم أوجدت نقاط إتصال مع الإيمان الجديد.
وبينما أعطت روما حرية التدين للشعوب المختلفة إلا أنه وسط هذا الجو كان من الصعب أن يقبل الناس أي إيمان حقيقى. ووصل الأمر لأن عامة الناس قالوا عن التدين الحقيقى أنه مجرد خرافات. وإنتشرت العبادات الحقيرة بين الناس. أما الفلاسفة فقد إنقسموا ما بين من يقول أن الأديان كلها حقيقية وبين من يقول أن كلها زائفة. أما الدين الذي إجتمعت عليه الدولة كلها فهو تأليه الإمبراطور وعبادته، والرفض الحقيقى لهذا كان من جانب اليهود وقيل من جانب البريطانيين أيضًا. وإنتشرت فكرة التأليه إلى زوجات الأباطرة وأبنائهم بل حتى عشيقاتهم، بل ألهوا بعض المخلوقات. وهناك أشخاص تم تأليههم وصل عددهم 53 شخصا من رجال الدولة، في الفترة من أيام أغسطس إلى أيام دقلديانوس. وإنتشرت الخرافات في العبادات وألهوا الأرواح التي كانوا يرتعبون منها. وإتبع الرومان ديانات عجيبة وإلتزموا بطقوسها، وكلما إزداد غموض ديانة إنجذبوا لها. ولذلك وجدنا البعض من الرومان يتحولون لليهودية. وقدم الرومان العبادة للشهوات غير الطبيعية وكانوا خلالها يجدفون بطريقة بشعة. ولقد ساد الفساد عبادات الرومان، وسادت عباداتهم تشخيص الآلهة والتنجيم وتحضير الأرواح وغيرها من العبادات الفاسدة. وكل هذا أدى لإنهيار الدولة. ولم يعرف هؤلاء الوثنيون معنى الضمير كما نعرفه الآن ولم يعرفوا معنى لحقوق الإنسان. القوة هي الحق في نظرهم. وتوقف في نظرهم قدسية الزواج. وكان فساد الفتيات والفجور سببا أساسيا في إنهيار وضياع فكرة الزواج فإنهارت الأسر. وساد وسط هذه المجتمعات الإجهاض. وكان قتل الأطفال مسموحا به. وإنتشرت هذه الرذائل أيضًا وسط الفلاسفة.
ولكن بين كل هذا كان هناك ثلاثة أشياء كعلامة على أن وقت الدولة الرومانية قد إقترب... معاملة العبيد/ أحمال الفقراء/ اللهو والمتع الحسية. فعن معاملة العبيد.. كان كلا العبيد رجالا ونساء بلا حماية ويعاملونهم بوحشية، يلقونهم للوحوش للتسلية، أو يدفعونهم للقتال في الإستادات ومن يبقى يتحرر. وإذا مرض العبد أو تقدم به السن يلقى خارجا إلى أن يموت من العوز. وكان الفقراء... بلا أي رعاية أو مصدر دخل ويعاملونهم بوحشية وبلا رحمة. ولم يعرف القدماء أي رحمة بهؤلاء سوى في العهد القديم والعهد الجديد. ولم يعرف المجتمع الروماني أي شيء عن الزكاة للفقراء بل تركوهم يموتون جوعا بدلًا من أن تطول أعمارهم وهم بلا فائدة للمجتمع. وإحتقر المجتمع الروماني كل العاملين باليد ما عدا الفلاحين. كان المجتمع يدمر نفسه بلا أمل في إصلاح، فكلا الفلسفة والدين عند الرومان عاجزين عن تقديم شيء يصلح المجتمع. ولقد شعر بعض الفلاسفة بنذر الإنهيار ولكنهم لم يقدموا حلولا.
هل كان يتصور أحدًا أن هناك مملكة للمسيح على وشك أن تأتي وسط كل هذا الفساد. لقد إحترقت روما وكل مقادسها يوم 19 ديسمبر سنة 69 م. وبعد ثمانية أشهر ويوم 9 أغسطس سنة 70 م. إحترقت أورشليم وهيكلها. ولم يكن هذا مصادفة بل هو ترابط يشير لأن كنيسة المسيح ستقوم على خرائب عاصمة الوثنية وخرائب اليهودية الجاحدة المرتدة.
وكما كان ظهور المسيح فجأة ولا نعرف الكثير عن حياته قبل الثلاثين من عمره، هكذا كان ظهور يوحنا المعمدان الذي لا نعرف عنه خلال الثلاثين سنة سوى أنه كان في البرارى إلى يوم ظهوره لإسرائيل (لو1: 80). لم يتشبه يوحنا بالأثينيين، فهو لم يشبههم في طعامهم وملبسهم، فهو كان يأكل الجراد والأثينيين يمنعون أكل أي شيء فيه حياة كاللحوم والأسماك والجراد. [الأثينيين هم طائفة يهودية صوفية فلسفية زاهدة]، لكنه فقط عاش لله 30 سنة في البرية. وعن يسوع فلقد خرج من بيته وعمله كنجار مباشرة إلى خدمته، أما يوحنا فقد إحتاج 30 سنة إعداد في البرية. وقد حدد القديس لوقا بالضبط ميعاد ظهور المعمدان، ليس فقط لتحديد الوقت ولكن لنرى صورة للمجتمع اليهودي وظروفه أيام ظهور المعمدان ثم المسيح. فكانت الأحداث تشير لإقتراب ملكوت الله. فلقد كان الوالى الروماني هو الحاكم المطلق لليهودية، واليهود يكرهون الرومان ويعرفون أنهم الوحش الرابع في رؤيا دانيال. وكانت رئاسة الكهنوت مقسمة ما بين حنان وقيافا وكلاهما لا يستحق هذا المنصب. ولقد أخذ بيلاطس منصبه قبل ظهور المعمدان بفترة قليلة. وإستمر بيلاطس وحنان وقيافا في مراكزهم خلال خدمة المسيح وحتى صلب المسيح. ولقد إنقسمت مملكة هيرودس الكبير إلى أربعة أقسام. فكانت اليهودية تحت إدارة روما مباشرة. وكان ربعين آخرين تحت حكم اثنين من أولاد هيرودس، هما أنتيباس وفيلبس. وكانت هناك إمارة صغيرة هي الأبلية وهى تحت حكم ليسانيوس.
هيرودس أنتيباس:- إمتد حكمه أكثر من 43 سنة على الجليل وبيرية، وهما مناطق خدمة المسيح والمعمدان الأساسية. وكان حكم أنتيباس فاسدا أكثر من أخيه أرشيلاوس ولم تكن له مواهب أبيه لكن كان له مفاهيم دينىة أعمق من أبيه، وبالرغم من فساده كان ضميره يقيده بعض الشيء. وكان ضعفه المتأصل فيه قد جعله خاضعا تمامًا لزوجته حتى خربت كل ثروته. كان طماعا شرها بخيلا مرفها فاسدا وشكاكا، محتالا كالثعلب. ومثل والده أشبع رغباته في البناء، ولكي يرضى الإمبراطور كان يطلق أسماء الأمبراطور على ما يبنيه. فقد بنى مدينة طبرية سنة 22 ب.م. شمال بحيرة طبرية في الجليل تكريما لطيباريوس قيصر. وكانت قبل ذلك منطقة مقابر. وبحسب الفكر اللاوى تكون مدينة دنسة، لذلك تحاشى اليهود لفترة طويلة السكن فيها. ولأن المدينة كانت مكانا مملوءا بالبوص، إتخذ البوص رمزا للمدينة التي كانت فخمة وسكن فيها هيرودس أنتيباس الذي بنى فيها أيضًا قلعة حصينة وقصرا فخما منقطع النظير ليسكن فيه. ومن سكن في المدينة كانوا مغامرين ومعظمهم من اليونانيين.
فيلبس:- كان أفضل إخوته. وككل عائلة هيرودس قدم الخضوع لقيصر، وأطلق إسمه على المدينة التي بناها عند منابع الأردن وأسماها قيصرية فيلبس. وبعد أن جعل مدينة بيت صيدا ميسورة الحال غيَّر إسمها إلى جولياث على اسم ابنة أغسطس. وكان حاكما عادلا معتدلا إستمر حكمه 37 عاما. وكان حكمه مختلفا تمامًا عن عائلته، فكانت الأرض هادئة وخيرها كثير وشعبها راضى وسعيد.
أما من خضع للولاة الرومان فكان لهم الأسوأ خصوصا بعد أن إنتهى حكم أغسطس قيصر. ففى أيام أغسطس لم يجرؤ أحد في كل الدولة الرومانية أن يتعدى على يهودي، وهذا ما سجله الفيلسوف اليهودي فيلو السكندرى. ولذلك إلتزم اليهود بأن يقدموا يوميا وفي أعيادهم ذبيحة عن الإمبراطور وشعب الرومان، ويقدمون صلوات عنهم في المجامع لأن الإمبراطور سمح لهم بحرية العبادة. ولكن الأمر إختلف بعد أن ملك طيباريوس قيصر وجعل اليهودية ولاية تابعة يرسل لها الولاة الرومان. إذ كان لطيباريوس مشاعر عدائية لليهود واليهودية، بينما كان هو نفسه لا يهتم بأى ديانة. وتحت حكمه قام الولاة الرومان بإضطهاد اليهود حتى ما عاد لهم إحتمال على الصبر والإحتمال. وقام أول الولاة الذين عينهم طيباريوس على اليهودية بتغيير رياسة الكهنوت 4 مرات حتى وجد في قيافا الأداة الصالحة الخاضعة للطغيان الروماني. ولقد ساد حكم هؤلاء الولاة عدم الإهتمام بمشاعر اليهود وإغتصاب حقوقهم. وربما كان الأسوأ أيام بيلاطس الذي سادت أيامه الرشوة والوحشية والسرقة والإضطهاد والإهانة والقتل من خلال محاكمات باطلة. وبينما إحترم الولاة قبل بيلاطس الوساوس اليهودية في تزمتها، كان لبيلاطس موقف التحدى والمواجهة لهم مرات ومرات في اليهودية والسامرة والجليل حتى تدخل الإمبراطور شخصيا. وفي وسط هذه الظروف السياسية ظهر يوحنا المعمدان ليبشر بإقتراب ملكوت الله مما جعل اليهود يفرحون. ولكن وجد آخرين لم يهتموا.
نرى أن القديس لوقا قد جمع بين حنان وقيافا في رئاسة الكهنوت. وكان الوالى كيرينيوس قد عَيَّن حنان رئيسا للكهنة وإستمر فيها 9 سنوات. ثم تم خلعه من رياسة الكهنوت وتعيين غيره 4 مرات حتى إستقرت رياسة الكهنوت لقيافا زوج إبنته. ووصف التلمود تصرفات رؤساء الكهنة في تلك الفترة بأوصاف مرعبة. ووجه التلمود تهمة خاصة لبيت حنان أنهم كانوا كالحيات يوسوسون في أذان القضاة ليؤثروا على أحكامهم. وبهذا فسدت الأخلاق، وإنحرفت أحكام القضاء فإنسحبت الشاكيناة من إسرائيل. وفي تطبيق لهذا نرى كيف أن أصوات العقلاء والحكماء من أعضاء السنهدريم، مثل نيقوديموس ويوسف الرامى، قد إختنقت وسط شر بقية الأعضاء في الحكم على المسيح. وهكذا كان غمالائيل بلا قوة وسطهم أثناء محاكمة تلاميذ المسيح من بعده. ويبدو أنهم أطلقوا على بعض أبناء رؤساء الكهنة، بل وبعض من عائلاتهم لقب رؤساء كهنة. وواضح من قول القديس لوقا "وفي أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا" وإستخدامه لإسمين كرؤساء كهنة، أنه مع أن حنان قد تم تجريده من حبريته إلا أنه إستمر مسيطرا على السنهدريم. وهذا يمكن فهمه أيضًا من (أع4: 6) حيث يظهر حنان على أنه الرئيس الفعلى، بينما يظهر قيافا كأنه واحد من السنهدريم إذ يقول "مع حنان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر، وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة". وذهب القائد والجند بيسوع موثقا إلى حنان أولًا فكان حنان مشتركا في الإدانة النهائية للرب يسوع (يو18: 13).
كانت هذه الظروف السياسية والدينية تعلن عن إحتياج واضح لإسرائيل، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فكانت دعوة المعمدان بأن الملكوت قد إقترب وعليهم الإستعداد قد أيقظت صدى عميق في نفوس الشعب. وأيضًا أثارت بعض المخاوف وربما عدم التصديق. وكان ظهور يوحنا المعمدان في برية اليهودية وهى منطقة برارى مهجورة بجانب الأردن. ومن غير المعروف في أي الأماكن بدأ المعمدان يمارس عمل المعمودية ولكنه لم يقتصر على مكان واحد، فقد وجدناه بعد ذلك في بيت عبرة. وكانت دعوة المعمدان الرئيسية هي الإستعداد لملكوت الله الذي إقترب. وكان ينذر من لا يتجاوب ليخيفهم. وكانت المعمودية هي علامة على من يتجاوب مع دعوته ويتوب. كان ملكوت السموات هو رسالة المعمدان العظيمة التي يبشر بها، لكنه كان عمل المسيح العظيم. هذا الملكوت الذي كان العهد القديم يرفع أنظار الناس إليه، أما العهد الجديد فقد حققه. ولكن كانت هناك مقاومة داخلية لملك إسرائيل الآتى وأيضًا كانت هناك مقاومة خارجية من ممالك العالم.
كانت هناك أمال إستمرت ألاف السنين أن الملك القادم يُكَوِّن مملكة خاضعة له تحيا في البر، وأنه سيكتسح كل المقاومين وتخضع له كل ممالك الأرض. وكانت هذه الأمال مبنية على نبوات مثل "ويكون الرب ملكا على كل الأرض"(زك14: 9) وأيضًا (دا7: 13 ، 14). ومواصفات هذه المملكة 1) عالميتها 2) سماويتها 3) ديمومتها. وبقدر إتساع خليقة الله سيكون ملكوته مقدسا. كما ترتفع السموات عن الأرض والله عن الإنسان، هكذا ستكون صورة ملكوت الله بعد الإنتصار العظيم والنهائى الذي بلا نهاية. كان هذا هو تعليم إسرائيل ورجاءها العظيم. وحفظ الربيين في إسرائيل وفي الإسكندرية هذا الرجاء في قلوبهم كلما إشتدت ضيقتهم. وضعوا رجاءهم في شخص المسيا الآتى ليؤسس المملكة. وبمقارنة هذا الرجاء العظيم الذي عاشت عليه إسرائيل قرون عديدة، نرى تفاهة أفكار الأمم والأفكار الباهتة لأمم العالم اليوم.
ولكن في أيام المسيح تشوهت الفكرة ووضع الناس كل أمالهم في الحزب القومى ليؤسسوا هذه المملكة بالسيف، ولكن النتيجة كانت ما لخصه السيد المسيح "لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون" (مت26: 52). وقُتِل كل من قاموا بهذه الثورات. أما مفهوم الرب يسوع عن مملكته فشرحه لبيلاطس حين سأله"وقال له: «أنت ملك اليهود (يسأل بيلاطس عن موضوع الملك بحسب ما يفهمه العالم) أجاب يسوع: «مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يو18). [ولاحظ قول الرب الآن = والسبب كما قال القديس بولس الرسول أنه ليس الكل بعد قد خضع له الآن (عب2: 8). المسيح يملك الآن على قلوب من يؤمنوا به ويحبونه فملكوه على قلوبهم. ولكن في الدينونة سيملك على الكل، إما بالحب على من أحبوه. أو سيكون الباقين من أعدائه عند موطئ قدميه. هو الآن يؤسس ملكوته على من يؤمنوا به ويحبونه. وراجع أيضًا تفسير (1كو15: 24 - 28).]
وعند الربيين كانت عبارة ملكوت الله (ملكوت يهوه في الترجوم) وملكوت السموات هما متكافئتان. وعادة كان اليهود يستخدمون كلمة "السموات" بديلا عن "الله" حتى لا يستخدموا اسم الله على نحو غير ملائم أو بإفراط، وحتى لا تتعود الأذن على إستخدام الاسم المقدس. وغالبا فإن هذا هو السبب في إستخدام القديس متى تعبير ملكوت السموات في إنجيله فهو موجه لليهود. ويتضمن تعبير ملكوت السموات تضاد مع مملكة الأرض، فالله حين يملك على شعبه في الأرض يجعله يحيا في السموات [أف2: 6 + فى3: 20]. وعند اليهود ينبغى التمييز بين تعبير "ملكوت السموات" وتعبيرات مثل "مملكة المسيا" و"الدهر الآتى الذي للمسيا". و"أيام المسيا" و"الدهر الآتى" و"نهاية الأيام". فتعبير ملكوت السموات عند اليهود إختلط مع فكرة إعلان الإنتصار النهائى أيام مملكة المسيا. وقد توقع اليهود أنه بين قدوم المملكة والظهور النهائى الإنتصارى أن تكون هناك فترة إختفاء للمسيا. ويسبق ظهوره الإنتصارى الأخير فترة ألام وكرب شديد.
وكان تعبير ملكوت السموات عند اليهود يشير ليس لفترة معينة ولكنه يشير لحكم الله - أي يُعترف به ويعلن وفي النهاية يصبح كاملا. وفي كثير من الأحيان فهذا يساوى الإعتراف الشخصى بالله: أن يقرر إنسان حمل نير المملكة أو أن ينفذ الوصايا. والقرار يسبق التنفيذ، وأعطت المشناة سببا لهذا.. أنه في الكتاب سبقت صلوات الشيماه (تث6: 4 وما بعده)... التحذير من عدم تنفيذها (تث11: 13 وما بعده). وإعتبروا أن ترديد وتكرار الشيماه، أن هذا يعنى المعرفة الشخصية بقوانين يهوه. وهذا يعنى أن الإنسان قرر أن يحمل نير ملكوت الله وبعد ذلك ينفذ الوصايا. وقالوا أن وضع الأحجبة وغسل الأيادى هو أيضًا نوع من حمل نير ملكوت الله. [الأحجبة عند اليهود هي أيات مكتوبة يضعونها في علب من الجلد ويربطونها على جباههم وعلى أياديهم ويسمونها المازوزا في تنفيذ حرفى للآيات تث6: 8 ، 9] وقالوا أن شعب إسرائيل حمل نير ملكوت الله على جبل سيناء، وهكذا حين قبل إشعياء عمله النبوى من يد الله. ويشددون على أن هذا يجب أن يكون بإرادة حرة وبسرور. وقالوا أن أبناء عالي الكاهن وأبناء أخاب رفضوا ملكوت الله. وقالوا أن معرفة حكم الله في كلا الإيمان المجاهر به وفي ممارسته عمليا وتنفيذه سيؤسس ملكوت الله، وسيظهر بإعلان كامل عند مجئ المسيا، وسيملك الله على كل العالم. وسيظهر عدم إيمان إسرائيل في رفض 3 أشياء:- 1) ملكوت السموات و2) مملكة بيت داود و3) بناء الهيكل. وذلك بحسب (هو3: 5) "بعد ذلك يعود بنو اسرائيل ويطلبون الرب الههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب والى جوده في آخر الايام". وبعد فترة عدم إيمان إسرائيل سيأتى الخلاص الماسيانى وكل بركات العالم المستقبل أو الأيام الأخيرة.
ونأتى إلى تعاليم العهد الجديد بعد هذه اللمحة عن الفكر اليهودي. فنجد أن الروح واحد ولكن فكر الربيين وتعاليمهم تختلف. فتعليم المسيح أنه بغير الولادة من الماء والروح لا يقدر أحد أن يدخل ملكوت الله، بينما كان فكر الربيين هو أن ملكوت الله هو شيء يقرره الشخص ويحمله كنير. وهذا يعنى أنه لا بد من الولادة الجديدة حتى ندرك الأمجاد المعدة. وبتحليل 119 مكان تكلم العهد الجديد عن تعبير الملكوت، كان يتكلم عن ملك الله المعلن في المسيح. هذا الملكوت معلن الآن وسط الكنيسة ولكن وسط مقاومات وعثرات في العالم، ولكن الكمال في السماء. وكانت رسالة المعمدان دعوة الناس للخضوع لملكوت الله الذي سيعلن في المسيح. لذلك دعا يوحنا المعمدان الناس للتوبة وهذه تعني تغيير الفكر من فكر الخطية إلى البر وكانت علامة هذا المعمودية بالماء في الأردن. وكانت دعوة يوحنا لهؤلاء الذين بالرغم من خطاياهم كانوا شاعرين بأمان زائف أنهم لن يهلكوا فهم أولاد إبراهيم، فعاشوا في بر ذاتى غير مهتمين. وحذر المعمدان هؤلاء بأن يخافوا من مقاومة ملكوت المسيا الآتى. ودعا لأن تكون التوبة علنيا وفي الباطن، وهذا يؤدى لأن تكون للشخص ثمار صالحة وظاهرة. وكان هؤلاء يتصورون أن كأس غضب الله سينصب فقط على الأمم. وفسر التلمود قول إشعياء "قال الحارس أتى صباح وأيضًا ليل. إن كنتم تطلبون فاطلبوا.إرجعوا تعالوا" (إش21: 12) أن الصباح هو لليهود أما الليل فسيأتى على أمم العالم أما اليهود فسيهربون. ولقد إستقر في قناعة اليهود وبلا أي سند، أن لهم مكان ودور في العالم الآتى. وذلك فقط لعلاقتهم الجسدية بإبراهيم. ويتضح هذا ليس فقط من العهد الجديد بل من كتابات فيلو ويوسيفوس وأقوال الربيين. وكانت عبارة بركات وفضائل الأباء في فم الربيين. وصور الربيين إبراهيم أنه جالس على أبواب جهنم ليخرج أي إسرائيلى قد أودع فيه. وقال الربيين أن كل إسرائيلى من نسل يعقوب هو نبيل شريف وهو أعلى بما لا نهاية له بالنسبة حتى لأى مهتدى حديثا إلى الإيمان. وقالوا "وهل يقف الإسرائيلى على الأرض والمهتدى حديثا في السماء". وقالوا أن الله يحفظ المراكب في البحار ويسقط الأمطار بإستحقاقات إبراهيم. ولأجله إستحق موسى أن يصعد إلى السموات ليأخذ الناموس، ومن أجله غفر لهم الله خطية العجل الذهبي في سيناء. وأن بر إبراهيم لهو السند الحقيقى لإسرائيل. وقال المدراش في مبالغة كبيرة عن إبراهيم.. أنه حتى لو مات بنو إسرائيل روحيًّا وصاروا بلا عظام وبلا أوعية دموية فهم سيستفيدوا من بركات بر إبراهيم. لذلك كله قال لهم يوحنا المعمدان أن الله قادر أن يقيم من الحجارة المنتشرة على جانبى النهر أولادًا لإبراهيم. (هناك ما يسمى بالتلاعب اللفظى في قول المعمدان: فكلمة أولاد بالعبرية هي "بنيم" وكلمة حجارة بالعبرية هي "أبهانيم" وكلاهما مشتق من "بنا" من كلمة يبنى أو ينشئ أو يؤسس. وإستخدم الربيين الكلمة بمعنى التبنى. وبهذا كان كلام المعمدان فيه إشارة خفية للأمم الذين سيتبناهم الله وليصيروا أبناء له، [مع أنهم الآن وقبل المعمودية فهم كحجارة ميتة بالنسبة لشعب إسرائيل ابن الله البكر]. وإلحاقا لكلامه أنه يجب أن تكون لهم ثمار في حال توبتهم، قال أيضًا أن ملكوت المسيح هو في نفس الوقت مساويا لوضع الفأس على جذع الشجرة غير المثمرة. وكان طبيعيا أن تختلط الأمور على السامعين فظنوا أن المعمدان هو المسيا إذ كانت دعوته هي التوبة. وهذا كان قريبا جدًا من أفكارهم في قدوم مملكة المسيا، فكان يقال أنه لو تابت إسرائيل ولو ليوم واحد سيأتى ابن داود حالًا. ووجه المعمدان الناس للمسيح مقارنا بين المسيح وبينه، ليظهر عظمته فقال أنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه وهذا عمل العبيد، وأن معموديته ستكون بالروح ونار، وليست بالماء فقط مثله. وهذه المعمودية تقدس وتطهر فتُعِّد المعمد للملكوت. فكان المعمدان يطلب تغيير الفكر من الماضى إلى فكر المسيح الجديد.
لم تكن المعمودية التي مارسها المعمدان مع التائبين كعلامة لتوبتهم شيئا جديدا تمامًا، إذ كان اليهود يمارسون مع الأممى الوثنى الذي يريد أن يدخل لليهودية ويتمتع ببركات وعود الله لشعبه ثلاث طقوس:- 1) الختان 2) معمودية بالماء كرمز لنزع النجاسات الطقسية 3) تقديم ذبائح. ولكن لم تمارس المعمودية مع أي يهودي كعلامة للتوبة من قبل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/baptist.html
تقصير الرابط:
tak.la/4qhrw2d