كانت أعمال هيرودس السيئة وراء بؤس حالته في أيامه الأخيرة. فخوفه من ضياع عرشه جعله يضحى بالآلاف وكان من بينهم من أقربائه الأقربين. ومع كل هذا لم يهدأ هذا الطاغية السفاح. بل قتل زوجته المحبوبة لديه مريم وأبناءها بل لقد وصل إلى حافة الجنون. وقد أصيب بأمراض مؤلمة عند نهايته وفشلت معه كل محاولات أطباءه الذين فعلوا معه المستحيل، إذ كان يتشبث بالحياة بشدة. وعندما إقتربت نهايته قام اثنين من الربيين المحبوبين والأكثر إحتراما عند الشعب وهما يهوذا ومتياس، بإزالة النسر الذهبي الذي وضعه هيرودس على أكبر أبواب الهيكل في محاولة منهم لإزالة أثار حكم هيرودس الوثنى. فقام هذا الطاغية في محاكمة هزلية كان فيها هو المدعى والقاضى وحكم بحرق الربيين الغيورين أحياء هم وأربعين من أتباعهم، بينما كانت إجاباتهم خلال المحاكمة في منتهى النبل والغيرة على هيكل الله. وقام بعزل رئيس الكهنة الذي إعتبره شريكا في المؤامرة.
وحينما عرف أن نهايته قد إقتربت جمع كل نبلاء وكبار البلد وطلب من أخته قتلهم حتى لا يفرح الشعب بموته بل يتحول فرحهم إلى أحزان بسبب موت هؤلاء. ولكن أخته وزوجها كانوا حكماء فلم ينفذوا أمره، وكان هذا مع موت هيرودس سبب فرح للشعب. وقبل موته بخمسة أيام جاء من أغسطس قيصر خطاب كان كشعاع أعطى هذا الطاغية نوع من الفرح، إذ سمح أغسطس بقتل ابنه أنتيباتر. وكان أنتيباتر هو القاتل الحقيقى لنصف إخوته ألكسندر وأريستوبولوس بإفتراءات ظالمة. وبعد خمسة أيام من إعدام ابنه أنتيباتر مات هذا الطاغية بعد حكم حوالى 37 سنة. وضاع العرش من نسله بعد عدة سنوات، هذا العرش الذي عمل المستحيل وسفك دماء كثيرين من أجله. وكانت زيارة المجوس خلال فترة ملك هيرودس الطاغية هذا.
وقبل موته حدد هيرودس مَنْ يخلفه من أبنائه.، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكان أول وعد منه لإبنيه ألكسندر وأريستوبولوس أبناء مريم زوجته ليصبحوا ملوكا. ولم تعرف المناطق التي عينهم عليها. وبعد إعدام الأخوين بسبب مؤامرة أنتيباتر كان الوعد الثاني بوراثة العرش لإبنه أنتيباتر وفي حالة موت أنتيباتر يرث العرش هيرودس ابن مريم. وبعد أن إكتشف هيرودس مؤامرة أنتيباتر الكاذبة لقتل أخويه أعطى هيرودس الوعد الثالث لإبنه هيرودس أنتيباس (المعروف في العهد الجديد). ولكن مرة رابعة وقبل موته بأيام كان لهيرودس تدبيرا آخر، فأعطى لإبنه أرشيلاوس الشقيق الأكبر لأنتيباس (وكلاهما كانوا أولاد مالثاكى السامرية) الملك ، وجعل أنتيباس رئيس ربع على الجليل وبيرية، وفيلبس (ابن كليوباترا من أورشليم) رئيس ربع على شرق الأردن. وكانت هذه التغييرات تعكس شكوكه وكرهه لعائلته وخوفا من غدرهم. ومع أن الإمبراطور أعطاه الحق في تعيين من يخلفه إلا أنه كان من الحصافة أن حدد هو الأسماء وترك إعتمادها للإمبراطور. ولكن قام الجيش مباشرة بإعلان أرشيلاوس ملكا، ولكن كان أرشيلاوس من الذكاء أنه ترك اللقب حتى يتم إعتماده من الإمبراطور. وقضى أرشيلاوس ليلة موت أبيه والليالى التالية في إحتفالات صاخبة مع أصدقائه. ولم يشعر أهل أورشليم بالراحة أو الإقتناع بسهولة بالرغم من إعلان أرشيلاوس عفو عام وتعديل في السياسة. وسرعان ما حدثت حالة سخط وحزن إذ علم الشعب بقتل الربيين وقاموا بثورة، سرعان ما أخمدها أرشيلاوس بذبح ليس أقل من 3000 شخص في محيط الهيكل.
وكان أن ذهب أرشيلاوس إلى روما يطالب بالملك تاركا الحكم لأخيه فيلبس. وذهب من قبله أنتيباس. ثم ذهب فيلبس لتدعيم أخيه أرشيلاوس وباحثا هو أيضًا عن حقوقه. وذهب بعده كثيرين منهم من أيد هذا ومنهم من أيد ذاك. وقامت ثورات في أورشليم أُخمِدت بالسيف والصلب والنار. ووسط كل هذا التنافس بين أفراد عائلة هيرودس وصل وفد من فلسطين إلى روما يطالبون بإزاحة عائلة هيرودس من الحكم لجرائمهم العديدة، وكان هؤلاء يطالبون بما يشبه الحكم الذاتى إذ كانوا يطالبون بضم مدنهم من فلسطين إلى سوريا فلهم جميعا الإنتماء للفكر اليوناني. فكان أن إعتمد أغسطس قيصر فكرة هيرودس في تقسيم مملكته إلى أجزاء وجعل أرشيلاوس رئيس ربع لاغيا لقب الملك، على أنه إذا وجده خلال حكمه مستحقا يمنحه لقب ملك. (الفكرة في لقب رئيس ربع أن يكون رئيسا على مجموعة من الناس متجانسة في الأفكار). وكانت منطقة حكم أرشيلاوس هي اليهودية وأدومية والسامرة. وكان على أرشيلاوس أن يسدد لخزينة الدولة الرومانية 600 وزنة. وعلى أنتيباس 200 وزنة وعلى فيلبس 100 وزنة.
وبدأ أرشيلاوس حكمه بسحق كل مقاومة من خلال مذابح جماعية لكل خصومه. وفاق أرشيلاوس أبيه في وحشيته ودمويته وأنانيته وموت مشاعره، بل ولم يكن له مواهب أبوه في الإدارة والحكم، ونتيجة فساد حكمه حرمه أغسطس قيصر بعد 6 سنوات ونفاه إلى بلاد الغال. وكانت عودة العائلة المقدسة من مصر خلال فترة حكم أرشيلاوس. ولكنهم عادوا إلى الناصرة في الجليل ومنها كان اسم يسوع الناصرى. وهذا ما أشار إليه القديس متى في إنجيله أنه يُدعى ناصريا (مت2: 23)، فإنجيل متى مكتوب لليهود الذين يعرفون النبوات "ويخرج قضيب من جذع يسى" (إش11: 1) (قضيب = غصن. وغصن تعني نازارت وهى نفس كلمة ناصرة = نازارت). ولم تذكر الأناجيل إلا كلمات قليلة عن حياة الرب يسوع في طفولته وشبابه، فالإنجيل لم يكتب سيرة ذاتية عن المسيح. بل قدم الإنجيل تعاليم المسيح وفدائه لأجل خلاصنا.
هناك قول شائع "إذا أراد إنسان أن يكون غنيا فليتجه إلى الشمال (أي إلى الجليل) وإذا أراد أن يكون حكيما فليتجه إلى الجنوب (أي اليهودية) وذلك ليتعلم الناموس. فقرب الجليل من عالم الأمم وإتصالهم بمراكز التجارة الكبيرة القريبة منهم وتواصلهم الدائم مع الأجانب الذبن يمرون بالجليل، جعل الجليليين منفتحين على العالم وليسوا مثل أهل اليهودية المنغلقين على أنفسهم. وبالنسبة لليهودية كان الجليل مقرا للأمم أما مدارس الربيين في اليهودية فهي في المكان المقدس. وكان أهل اليهودية ومدارس الربيين لا يتعاطفون مع أهل الجليل ولا أرض وتراب الجليل. أما أهل اليهودية فكانوا يميلون للتأمل في الأحداث الماضية وتوقع ما سيأتى. وهذا وصل بهم إلى حالة من التعصب. وكلما إتجه المسافر للجنوب تتزاحم في ذهنه أحداث التاريخ الماضى والأفكار التي تأتى على الفكر حول المستقبل. وكان المسافر من الشمال متجها للجنوب يتحاشى المرور بالمدن الكبيرة التي يكثر فيها الأمم الوثنيين. وكان اليهود يكرهون وثنية هؤلاء الوثنيين ويحتقرون تفاهة طقوسهم وأفكارهم بالمقارنة مع ناموسهم. هذا الناموس الذي تبحروا في دراسته حرفًا حرفًا، ما هي الخطايا وكيفية التكفير عنها بالذبائح، ما هو المحلل وما هو المحرم، وما هي العقوبات هنا في هذا العالم أو العالم الآتى. وكان اليهودي ينحنى بتواضع وتوقير للربيين الكبار ويرى في هذا أنه يوقر الله، فالربيين هم وكلاءه وهم الذين يوضحون لهم إرادة الله.
كانت أراضى اليهودية قاحلة ومنعزلة ولكن فيها أورشليم المقدسة. وهذه العزلة ساعدت على زيادة الحياة التأملية. بينما كانت أراضى الجليل خصبة جميلة بمناظرها الطبيعية والبحيرة التي فيها. وهكذا قال موسى عن سبط أشير "يغمس رجليه في الزيت" (تث33: 24). وكان الربيين يقولون "أن تتعهد غابة من أشجار الزيتون في الجليل لهو أسهل من تربية طفل في اليهودية". وكان القمح والكروم وهكذا كل الثمار. وكانت تكاليف المعيشة في الجليل تعادل خمس تكاليف المعيشة في اليهودية. ولذلك إكتظت مدن الجليل بالسكان وقال يوسيفوس أنه كان في الجليل 240 مدينة وقرية تعداد كل واحدة لا يقل عن 15000 نفس. وإمتلأت الحقول بالفلاحين وبحيرة جنيسارات بالصيادين وكان الخير كثيرًا والعمل كثير فلم يكن هناك وقت للدراسة والتعصب. بالتالى لم تكن الجليل المكان المناسب للربيين.
وكان هناك اثنين من الربيين المشهورين في أراضى فلسطين هما أكيبا وخصمه خوزيه. وكانت تعاليمهم الدينية أكثر بساطة. وكان أكيبا أكثر ميلا للإعتدال والمعقولية، والتطبيقات الإنسانية للتقليد المتوارث. وأورد التلمود الفروق في تعاليم الربيين في اليهودية وبين الربيين في الجليل وكلها في إتجاه التخفيف من التشدد. وهذا ما جعل الربيين في اليهودية أن ينظروا بإزدراء لأراء هؤلاء الذين في الجليل. وبينما كانت لغة يهود اليهودية بعيدة جدًا عن اللغة النقية، إلا أن أهل اليهودية كانوا يعيبون على أهل الجليل دراستهم للغة وأخطاءهم اللغوية وأن الكثير من ألفاظهم كانت تقود لأخطاء مضحكة. ومع كل مركز الرابى خوزيه وعلمه سخرت منه فتاة من اليهودية إذ قالت عنه "الجليلى الغبى" إذ قال كلمات خاطئة عندما سألها عن الطريق. وكان ذلك قبل أن يعرف الناس من هو خوزيه.
في وسط الجليل هذه نما الطفل يسوع. وكان تعليم الأطفال يبدأ في المنزل، أولًا عن طريق ما يراه بعينيه ويسمعه وذلك قبل التعليم من الكتب. فكان الطفل يتعلم أولًا كيف يحترم أبويه. فكان إكرام الأب هو نموذج لإكرام إله إسرائيل. وكانت رعاية الأم والمحبة والعاطفة تجاهها هي تجسيد لمحبة الله لشعبه إسرائيل. وبحسب الناموس كانت عقوبة كسر وصية "إكرم أباك وأمك" عقوبة من أصعب العقوبات. وكان الطفل يعيش من أول يوم في جو دينى ويختنونه لينضم لشعب الله ويُنطق إسمه وسط صلوات طقس الختان. وتصير له كل البركات الموعودة لشعب إسرائيل وأيضًا تصبح عليه الواجبات المفروضة على كل إسرائيلى، فعليه أن يسلك في البر ملتزما بالناموس فقد صار مكرسا لله، وبعد ذلك عليه دراسة الناموس.
وكان أول تعليم يأتي من الأم. وكانت الممارسات التي يراها الطفل تحفر فيه أثرا لا ينسى. فكان يرى المازوزا التي توضع كبركة على أبواب المنزل، وهى عبارة عن بعض أيات من الناموس مكتوبة على ورق ومحفوظة في غلاف. وهذه يلمسها الداخل إلى البيت أو الخارج منه بأصابعه، ثم يقبل أصابعه التي تلامست مع اسم الله المقدس. وهذا ما نشأ عليه الطفل تيموثاوس وتربى عليه في بيت جدته لوئيس وأفنيكى أمه، وشرحا له معنى هذه الممارسة بينما هم في الشتات. وكان يرى طقس يوم السبت ووجبة السبت المخصصة للإحتفال بيوم السبت مثل إشعال مصباح خاص بيوم السبت. وهكذا في بقية الأعياد والمناسبات مثل عيد التجديد، الذي طهر فيه يهوذا المكابى صاحب القلب الحديدى الهيكل من أثار الوثنية اليونانية. وكانوا يضيئون في أول ليلة من هذا العيد شمعة واحدة، ثم في الليلة الثانية شمعتين حتى الليلة الثامنة. وكانت الأم تشرح لإبنها معنى هذا. كانت الأم تحكى لإبنها تاريخ إسرائيل والمستقبل المجيد الذي ينتظرها، وهذا قبل أن يذهب إلى المدارس أو المجامع. ثم تأتى أفراح عيد الفوريم ثم الفصح وتجتمع العائلة في أورشليم، ويزيلوا كل أثر لخمير في المنزل. وبعد ذلك أعياد الحصاد ثم يوم الكفارة الذي لا ينسى، ثم أفراح وطقوس عيد المظال المبهجة والسكنى في مظال خارج المنزل. وكانوا فيه يقدمون الشكر لله على كل ما أعطاهم من خيرات.
كانت الحياة في إسرائيل دينية من بدايتها وكانوا يلقنون الأطفال الوصايا ليحفظونها. وذلك بالإضافة لأن الطفل كان يُحفر في ذهنه وقلبه هذه الممارسات التي يراها، وأيضًا تقليد ما يرى أبائه يمارسونه أمامه. وكان على الأب أن يعلم ابنه التوراة، فمن إستلم التوراة من الله على جبل سيناء كان رجلا. وكان عليه أن يعلم ابنه الصلوات والترانيم والمزامير التي تتلى كل يوم والمزامير التي ترنم عند الذهاب لأورشليم في المواسم.
وكانت المدارس منتشرة في البلاد وكان الأطفال يذهبون للمدارس في سن الخامسة أو السادسة. وكانت هناك أكاديميات للدراسات العالية. وإعتبروا أن الحياة في مكان ليس به مدارس هو عمل غير قانونى. وكان لفترة طويلة لم يكن غريبا أن تدور المناقشات اللاهوتية في الهواء الطلق. ولكن تعليم الأطفال كان في المدارس والمجامع، وكان التعليم يتم إما وقوفا للمدرس والتلاميذ أو جلوسًا في حلقة. وكان المدرس يواجه التلاميذ. أما وجود كراسى ودكك للطلبة فبدأ في وقت متأخر. وكان على التلاميذ إحترام المدرس والتعليم بأعلى درجة من الإحترام. وكان التعليم يشتمل على قراءة وكتابة الحروف وتعليم الناموس. وكان التعليم بصبر لا يعرف الكلل ويمتزج فيه الشدة مع الشفقة. وكانوا يعلمون الأطفال بشاعة الخطية وتبعاتها الثقيلة وأثارها المخيفة. ويعلمونهم الإلتزام بالنقاوة والسلوك بأدب وذوق.
وحتى العاشرة كان الطفل يتعلم الناموس ويكون الكتاب الذي يستعمله هو الكتاب المقدس. ومن العاشرة حتى الخامسة عشرة يتعلم المشناة (كتاب التقاليد). وبعد هذه السن ينتقل الطالب للأكاديميات للمناقشات اللاهوتية ولم يكن هذا التقدم الدراسى للجميع ولكن بحسب قابلية وإستعداد كل واحد للتعليم. ودراسة الكتاب كانت تبدأ بسفر اللاويين ويلى هذا بقية أسفار موسى الخمسة، ثم الأنبياء وأخيرا بقية الكتب المقدسة (هذه تسمية اليهود لبقية العهد القديم = هاجيو جرافا). وكانت الدراسة بالمدارس مدعمة بالمجامع والتأثير العميق للحياة المنزلية. وفي أيام الإضطهاد اليوناني كانوا يفتشون البيوت ومن يجدوا عنده نسخة من الكتاب المقدس كان يعاقب بشدة. ولكن مع هذا كان منتشرا وجود نسخ من الكتاب المقدس في البيوت. أما بعد إنتصارات يهوذا المكابى كثر عدد من يقتنى نسخة من الكتاب المقدس في المنازل وهذا كان للأغنياء. وكان البعض يقتنى أجزاء من الكتاب ويكون هذا مصدرًا للفرح إذ إقتنت العائلة كنزا عزيزا عليهم. ولكن المدارس كانت تحتفظ في مكتباتها بعدة نسخ. وللحفاظ على دقة الكتاب وعدم تحريفه كان نسخه بواسطة أحد غير الكتبة المعتمدين يعتبر عملا غير قانونيا، مع إستثناء أنهم سمحوا بكتابة أجزاء لتعليم الأطفال.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/child.html
تقصير الرابط:
tak.la/5wm9ytx