كانت الإسكندرية عاصمة العالم اليهودي في الغرب. وكانت إنطاكية هي الأقرب لأورشليم. وكان تعداد اليهود في إنطاكية ضخمًا. ولكن يهود الإسكندرية كانوا الأكثر تأثيرا فكرًا وثروة. أما أثينا فكانت الماضى وإقتصرت في ذلك الزمان على الفنون والجمال. أما الرومان فكانوا سادة ذلك الزمان وغزوا كل العالم. أما الإسكندرية فكانت كميناء شهير بتجارته قد أصبحت ملتقى لكل اللغات والأفكار والفلسفات. ولم تكن الإسكندرية من المدن القديمة مثل طيبة ومنف، ولكنها كانت جديدة أسسها الإسكندر الأكبر، وإمتلأت بكل الجنسيات واللغات. ولذلك صارت عاصمة لليهودية الهيللينية. وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت أكثر شهرة وإتساعًا من روما نفسها. وإنقسمت الإسكندرية إلى خمس أحياء كبيرة، وإمتلأت بالقصور والحدائق ووصل تعدادها للمليون نسمة من الشرق والغرب، وهؤلاء إنجذبوا بالتجارة والثروة التي فيها وللدراسة والملاهى والمسارح. وإختلط فيها كل شيء شرقى وغربى من أوروبا وآسيا وإفريقيا. وأتى كل هؤلاء بكنوزهم كمدينة تجارية وساحل مشهور وكان بها خمس موانئ. وكان ثلثى قمح مصر يذهب إلى روما كنوع من الجزية عبر أسطول كبير. وفي مركب من هذا النوع أبحر بولس الرسول مع الأسرى إلى ميناء بطيولى. وكانت تجارة الهند تمر عبر موانئ الإسكندرية. وقيل أنه يمكنك أن تحصل على أي شيء في الإسكندرية ما عدا الـــ snow (الثلج المتساقط من السماء).
وكان عدد اليهود في مصر يقارب المليون نسمة أي حوالى ثمن سكان مصر في ذلك الوقت. وكان إنتشار اليهود راجعا لعدة عوامل:-
1) الشتات أيام نبوخذ نصر ملك بابل.
2) الأغلبية منهم ذهبوا نتيجة للميزات التي أعطاها الإسكندر الأكبر لليهود، إذ كان لهم نفس مميزات المقدونيين. ثم تشجيع البطالمة لهم، ثم تشجيع يوليوس قيصر.
3) من هربوا من إضطهاد أنطيوخس إبيفانيوس.
وأخذ اليهود حوالى ربع المدينة كمجتمع يهودي لهم. وكانت تجارة القمح في أيدى اليهود. وإمتلأت المدينة من المجامع اليهودية. وكان لهم مجمع ضخم ليجذب أي يهودي غريب. وكان من ضخامته يضاهى السنهدريم في أورشليم ويضم 70 شيخا من اليهود. وفي أثناء إضطهاد أنطيوخس إبيفانيوس لليهود لجأ كثير من اليهود إلى الأسكندرية. وجاء معهم ابن الكاهن الأعظم أونيا بأورشليم وكان أنطيوخس قد قتل أونيا. وإستقبله بطليموس بترحاب شديد وأعطاه هيكلًا وثنيًّا غير مستعمل ليقيموا فيه هيكلا لهم. وكان هذا حوالى سنة 160 ق.م. وإستمر هذا الهيكل حتى تدمير أورشليم. وظن اليهود أن في هذا الهيكل تنفيذا لنبوة "يكون للرب مذبح في وسط أرض مصر..." (إش19). أما يهود أورشليم فلم يعترفوا به، وحتى يهود الإسكندرية كانوا في المواسم المقدسة كالفصح يذهبون إلى هيكل أورشليم لتقديم ذبائحهم وتقدماتهم. وأطلق الأورشليميون على هذا الهيكل، بيت أونيا.
وإمتد وجود اليهود جنوبًا إلى إثيوبيا وغربًا إلى القيروان. ومن القيروان نشأ التمرد على الرومان على يد باركوكبا، وهذا التمرد أخمده الرومان بدموية شديدة مرعبة. وكان رئيس الكهنة اليهودي في هيكل الإسكندرية له إعتباره الملحوظ كرئيس ورأس للمجتمع اليهودي في الإسكندرية.
وكان غنى ومراكز اليهود في الإسكندرية سببًا في كبريائهم وتأكيدهم لذواتهم مما أثار كراهية المصريين لهم. بل أثارت بعض الكتاب ضدهم فألفوا كتبا ساخرة تعيد قصص التوراة بطريقة ساخرة، وقد نشأت هذه القصص في الإسكندرية وبدأها مانتو. وجاء بعده أبيون المعروف بإسم المخادع والكاذب الذي وضع كل سخريته ووقاحته على اليهود، وكان هدفه إثارة الناس ضد اليهود. وإدعى أبيون هذا أن اليهود يصطادوا يوناني كل سنة، الذي شاء حظه العاثر أن يقع في يد اليهود، ويجعلوه يسمن ثم يذبحونه ليقدمونه ذبيحة ثم يحرقونه مرددين عبارات الحلف والقسم بإبادة كل اليونانيين. وإعتبر اليهود خونة وإلا لماذا لا يقدمون عبادة للأوثان وأيضًا خونة للإمبراطور لأنهم لا يضعون تماثيله في هياكلهم. مقدمين له الإحترام والولاء فهو يحميهم. وكل هذا لإثارة احقاد السكندريين ضد اليهود بسبب غناهم. وهذا ما جعل فيلو يندب وضع اليهود طالبا أن يعاملوا معاملة البشر. ولقد إنتشرت هذه الأفكار والإشاعات عن اليهود التي قيلت في الإسكندرية إلى روما. بل إنتشرت حتى وسط فلاسفة روما خرافات عجيبة عن اليهود وصدقوها، ومنها أن اليهود أيام موسى كانوا بُرصًا فطردهم المصريين وهاجروا بقيادة المارق موسى، وأنهم يعبدون رأس حمار. ونظر لهم الرومان بنوع من الإزدراء والكراهية خصوصا مع إنعزالهم وشرائعهم وطقوسهم التي تخالف المجتمعات إلى عاشوا فيها. ورأى الروماني أن اليهود بعد خضوعهم للرومان لم يعد من حقهم أن يمارسوا شعائرهم. وصارت شعائر وعادات اليهود كفاصل بينهم وبين المجتمعات التي عاشوا فيها، ووصل الأمر لإعتبارهم أعداء.
وبالنسبة للرومان كانت الحياة السياسية والحياة المدنية متضافرتان ومتداخلتان بل كل منهما يُكَوِّن جزء من الآخر. ولذلك إعتبر شيشرون الفيلسوف أن لكل أمة إلهها. وطالما أن اليهود تحت حكم الرومان فعليهم أن يظهروا نوعا من التساهل مع الديانة الرومانية ولا يهاجموا آلهة روما. وهذا الوضع طبعًا إزداد سوءًا بعد خراب أورشليم. وفهم شيشرون هذا على أنه إنتصار لآلهتهم على هذا الإله الغير المرئى وأن جنس اليهود إختفى لإحتقارهم آلهة الرومان. وكانت سخرية الرومان من اليهود لاذعة من الختان الذي رأوه أنه كشريعة لا معنى لها. وهكذا راحة السبت. وكان يحلوا للرومان أن يسيروا وسط الجيتو اليهودي ليسخروا من اليهود ومن صلواتهم وتسابيحهم يوم السبت.
ومع كل هذا تجمع اليهود وإنغلقوا على أنفسهم وصاروا أكثر تسامحا مع بعضهم البعض، وإزدادوا كراهية للآخرين، ورفضوا أن يشاركوا الآخرين الأكل والمعيشة وعلَّموا مَنْ ينضم إليهم كراهية الآلهة الوثنية.، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكانوا يطبقون كل قوانين الناموس بلا أي مرونة مما زاد في كراهية الرومان لهم حتى أن المؤرخين الرومان حين ذكروا أن طيباريوس نفاهم إلى سردينيا أغفلوا ذكر هلاكهم من الجو الصعب. ومن الصعب تحديد ميعاد أول يهودي وصل إلى روما العاصمة. على أن التاريخ يذكر أن بومبى أتى بيهود أسرى وتم بيعهم كعبيد. وكان العبيد اليهود في روما مثار مشاكل وبلا فائدة لسادتهم وتمسكوا بعادات أبائهم، ولم يتكيفوا مع العادات الوثنية لأهل بيت سادتهم. لذلك وجد السادة الرومان أنه لمن الحكمة أن يطلقوا العبيد اليهود أحرارا أو في مقابل فدية بسيطة. وكوَّن هؤلاء العبيد المحررين مجتمعا يهوديا، وأنشأوا مجمع خاص بهم هو مجمع الليبرتينيين (المحررين) (أع6: 9). وبدأوا في تكوين ثروات وبدأوا يتزايدون فكان عددهم حوالى 40000 أيام أغسطس قيصر ووصل العدد إلى 60000 في أيام طيباريوس قيصر. وكان منهم تجار ورجال مال ومنهم ممثلين. وفي وسط مدينة كروما مليئة بالإغراءات حاول بعض اليهود أن يخرجوا من المجتمع اليهودي ويتمثلوا بالرومان، بل حاولوا في يأس إزالة علامتهم المميزة في أجسادهم كرجال.
وبينما كان الشعب معادى لليهود كان القياصرة على صداقة معهم. ولكن أغسطس قيصر حصرهم في جيتو خاص بهم في روما يعانى من الفقر. وكانت قبورهم تدل على فقرهم وبلا أي علامات سوى رسومات للمنارة الذهبية. ومع هذا إنتشروا في روما وصارت لهم مجامع في كل مكان وأعطوا لها أسماء أغلبها أسماء رومانية والقليل منها أسماء يهودية. فكان هناك أسماء للمجامع مثل أغسطس وأغريباس، هذا عن المجامع الكبيرة التي تم إكتشافها، ولكن كان هناك الكثير الذي لم يكتشف لها أي أثر. وما وجد من أثار على قبورهم كان يعبر عن فقدان الأمل في أي أبدية مثلما وُجِد نقش على أحد المقابر "أنا لم أكن وهكذا أصبحت" وكذلك "أنا كنت والآن أنا غير موجود". وهذا اليأس ساعد على إنتشار المسيحية بينهم إذ تتكلم عن أبدية مفرحة.
وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يمنع من إنتشار اليهودية في الدولة الرومانية وفي روما ما عدا الفترة التي نفاهم فيها طيباريوس قيصر إلى سردينيا، إذ أرسل 4000 منهم ليحاربوا قطاع الطرق في سردينيا. بل هم كان لهم إمتيازات إستثنائية، وكان لهم كامل الحقوق الدينية. وكان مسموحا لهم أن يرسلوا الجزية إلى هيكل أورشليم. وكانت القوانين تعتبر أن الوالى المحلى الذي ينقل هذه الأموال لمكان آخر غير هيكل أورشليم أنه يدنس المقدسات [كان لليهود ولاة محليين منهم في بعض المدن الرومانية]. ولأنهم لا يسمح لهم دينيا بحمل السلاح يوم السبت أعفوا من الخدمة العسكرية، وأعفوا من الذهاب للمحاكم يوم السبت وفي أيامهم المقدسة. وفي توزيع أنصبة القمح لو جاء دورهم في التوزيع يوم السبت، كان لهم أن يحصلوا على نصيبهم في اليوم التالي. بل أن حتى فاسباسيان وتيطس بعده راعوا هذا ليهود روما حتى بعد الحرب الأخيرة وخراب أورشليم. وكل هذه المميزات كانت لهم بالرغم من إحتجاجات سكان تلك المدن. لذلك كان اليهود ينتحبون بشدة مع ترانيم عند موت القيصر. وكان ذلك في تجمعات لعدة أيام حول جثمان قيصر الذي سيحرق. بل حتى طيباريوس الذي نفاهم كان هذا راجعا لتأثير أحد أصدقائه ثم توقف هذا الأمر بالنفى. وحتى حين تم تنفيذ أمر النفى لم يمنع هذا وجود بعض اليهود بحجج مختلفة في روما. ومع زوال أمر النفى عادوا وكونوا مجتمع يهودي ثانية. ولما جاء فيلو إلى روما وجد مجتمع كبير من اليهود يساندونه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/alex-rome.html
تقصير الرابط:
tak.la/7q7amwq