1- فما هو سبب هذا الخطب (الشر) العظيم؟ إنه الفكر المتطفل والفضولي، إنها الرغبة في معرفة سبب كل الأحداث (التي تحل بنا)، ومحاولة الدخول في نزاع مع عناية الله غير المدركة ولا موصوفة؛ تلك العناية الفائقة لكل فحص واستقصاء. ومع هذا لا يخجل الإنسان من هذا الموقف الفضولي المملوء تهورًا.
2- تُرى من فاق بولس في حكمته؟ أخبرني ألم يكن إناءً مختارًا؟ ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟ ألم يتكلم المسيح فيه؟ ألم يكشف الله له عن أمور لا يُنطق بها؟ ألم يسمع ما لا يحق لإنسان أن ينطق به؟ ألم يُختطف إلى الفردوس وارتفع إلى السماء الثالثة؟
![]() |
3- ألم يجوب البحر والبر يجذب البرابرة (أي الوثنيين) ليصيروا مسيحيين؟ ألم يمتلك قدرات كثيرة ومتنوعة للروح؟ ألم يقم النظام (والترتيب الحسن) لدى شعوب بأكملها وفي المدن؟ ألم يضع الله بين يديه المسكونة كلها وسلّمها له؟
ومع هذا كله فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوته وامتلائه بالروح -إذ خصه الله بهذه الامتيازات- عندما يتأمل في عناية الله، لا في كل جوانبها بل في جانب واحد منها، اسمع كيف يًصاب بالدهشة، كيف يأخذه الدوار، كيف يتراجع سريعًا خاضعًا أمام (سمو الله وتدبيره) الفائق الإدراك.
4- فإنه لم يبحث عن عناية الله الملائكة ولا رؤساء الملائكة أو الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات غير المنظورة ولا عنايته بالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر، ولا في سهره على الجنس البشري بأكمله واهتمامه بالحيوانات غير العاقلة والزروع والعشب والأهوية والينابيع والأنهار، لا عن ولادتها ونموها وقوتها بموجب الطبيعة ولا عن أي شيء آخر شبيه.
5- لكنه تناول عناية الله الخاصة باليهود واليونانيين وأفاض في بحث هذه النقطة وشرح كيف دعا الله الأمم ورفض اليهود ثم تكلم عن الشفقة التي أتم بها الخلاص لهؤلاء وأولئك.
6- وحينما أدرك هذا، اكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية أُصيب بالدوار أمام استحالة تفسير عملها، وأخذته الدهشة والذهول أمام عناية الله غير المحدودة ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مدركة، فتراجع في مهابة متعجبًا وهو يقول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه" (رو 11: 33).
7- لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، فقال "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟!" [تابع (رو 11: 33)]. إنه لم يقل أن أحكامه بعيدة عن الفحص فحسب بل وبعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان على فهمها، بل ولا حتى أن يبدأ في استقصائها. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف كيف بدأ تخطيطها!
8- وإذ قال "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" أنهى حديثه -وقد امتلأ تعجبًا وانذهالًا- بأنشودة شكر قال فيها "لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا. من سبق فأعطاه فيُكافأ. لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد آمين" (رو 11: 34-36).
9- هذا هو ما يريد أن يقوله بولس الرسول: إنه ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير، لا يستعير من أحد قدرة المعرفة أو الذكاء المتوقد، فهو يعمل ويتُم كل العجائب، وهو نفسه بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها. هو نفسه الخالق، وهو نفسه الذي دعَىَ غير الموجود إلى الوجود، يدبر ويحفظ كل شيء حسب إرادته!
10- "منه وبه وله كل الأشياء" (رو 11: 36).
إن هذه كلمات من يريد أن يظهر أن الله نفسه خالق كل الكائنات ومبدعها، مدبر حياتها وحافظها. وفي موضع آخر يتحدث بولس الرسول عن النعمة الموهوبة لنا فيقول: "شكرًا لله على عطيته التي لا يُعبر عنها" (2كو 9: 15). وهو يظهر أن سلام الله المعطى لنا، ليس فقط فائق على كل نطق وكل وصف، بل ويتخطى كل عقل. لهذا السبب قال: "سلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم" (في 4: 7).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
11- فإن كان عمق غنى الله وحكمته وعلمه بلا حدود، وإن كانت أحكامه بعيدة عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، وإن كانت مواهبه لا يُنطق بها، وسلامه يفوق عقلي وعقلك وعقل كل أحد، بل وعقلي بطرس وبولس، وفهم رؤساء الكهنة وكل الطغمات السماوية، أخبرني أي عذر لك في محاولتك الغبية المملوءة جنونًا، لكي تتفهم ما لا يمكن إدراكه، محاسبًا أعمال عناية الله؟!
12- إن كان بولس الذي أدرك الإلهيات بعمق وامتلأ رجاءً صادقًا غير منطوق به وغمرته كل هذه المواهب نجده يتراجع. وإن كان قد ارتفع فوق حدود طاقته لعله يفهم فلم يقدر حتى أن يدرك مبادئ تدابير الله -فإن هذا محال- أفلا يُحسب ذاك الذي يريد السير في طريق مناقض لترتيب العناية الإلهية أشقى الجميع وأكثرهم جنونًا؟!
13- في الواقع إن بولس لم يكتف بهذا، بل عندما تعرض لمعرفة الأمور الإلهية في رسالته إلى أهل كورنثوس أظهر كيف -ولو أننا عرفنا الكثير- لكن مع ذلك فإن معرفتنا محدودة وفي غاية الضآلة. وعبّر عن هذا على وجه التقريب بهذه الكلمات"وإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا، فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف" (1كو 8: 2). لقد أكد لنا أننا الآن نعرف بعض المعرفة، أما الجانب الأعظم منها فسنعرفه في الدهر الآتي "لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض" (1كو 13: 9-10).
14- ولم يكتف بولس بهذا، بل عندما أراد أن يوضح الفارق بين معرفتنا هنا ومعرفتنا في الحياة الأخرى لجأ إلى هذا التصوير: "لما كنت طفلًا، كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر. ولكن لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، ولكن حينئذ وجهًا لوجه" (1كو 13: 11-12).
15- هل لمست مدى الفارق بينهما؟ إنه كاختلاف معرفة الطفل الصغير عن معرفة الرجل الناضج، وكاختلاف الرؤية في مرآة عن التطلع وجهًا لوجه، إذ تشير المرآة إلى التعبير الغامض، أو بطريقة أخرى أقل وضوحًا من رؤية الأشياء على حقيقتها. فلماذا هذه الحماقة وهذا الجنون في أن نجابه عبثًا وباطلًا الأشياء الممنوعة؟ لماذا إذن لا نصدق قول بولس "من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟!" (رو 9: 20).
16- تأمل كيف يليق بنا الخضوع لإرادة الله في صمت!
إنه بلا شك لا يقصد بقوله هذا أنه يود أن يفقدنا إرادتنا الحرة، حاشا! لكنه يؤكد أنه ينبغي على الباحث الالتزام بالصمت كالطين في يد الخزاف، لا يقاوم ولا يجادل. وقد ذكر الخزاف والطين ليذكّرنا بطبيعتنا، فإنهما في درجة واحدة من حيث وجودهما (لأن الخزاف هو أيضًا مخلوق من الطين).
17- ومع هذا يخضع الطين للخزاف (رغم أنهما من نفس المادة)، فأية مغفرة يترجاها الإنسان وهو يتجاسر مجادلًا إرادة الله جابله، مع أن الفارق بينه وبين الله الذي خلقه لا نهائي؟ أذكر أيها الإنسان مَنْ أنت - ألست طينًا وترابًا ورمادًا؟ ألست بخارًا (حرفيًا دخان)؟ ألست عشبًا؟ ألست زهرة عشب؟
18- إن الأنبياء يذكرون دائمًا كل هذه التشبيهات ويتسابقون في أن يصوروا قدام عيونا وضاعة طبيعتنا. أما الله الذي تود أن تُخضعه لفضولك الطائش فهو لا يخضع للموت أو التغيير. إنه سرمدي، لا بداية له ولا نهاية، غير مدرك، فائق لكل فهم وكل منطق، غير موصوف ولا منظور!
هذه الصفات لا نستطيع إدراكها أنا وأنت، أو حتى الرسل والأنبياء، بل ولا القوات السماوية -رغم طهارتها- وهي قوات غير منظورة وغير جسدية وتحيا على الدوام في السماء (في حضرته).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-providence-of-god/wisdom-of-God.html
تقصير الرابط:
tak.la/w3jw9yr