[16- "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي"، "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيح" (1كو 11: 1).
يا له من كلام يثير الدهشة! كم عظيمة هي جسارة معلمنا بولس في الكلام!
كم هو طابق الصورة حيث يمكنه أن يحض آخرين على أن يقتدوا به كما هو بالمسيح! هو لم يتصرف هكذا بدافع من تمجيد ذاته بل يعني ضمنًا أن الفضيلة شيء سهل. كما لو كان هو قال: "لا تخبرني قائلًا: أنا عاجز عن الإقتداء بك، فأنت معلم وعظيم. لأن الفرق بيني وبينك ليس كعظم الفرق بيني وبين المسيح ومع ذلك أنا أقتدي به".
ومن الناحية الأخرى إذ يكتب إلى أهل أفسس لم يقحم أي ذكر عن نفسه بل قادهم مباشرة إلى المستهدف مباشرة: "كونوا متمثلين بالله" (أف 5: 1). لكن في هذا الموضع إذ كلامه موجّه إلى أشخاص ضعفاء، يضع نفسه في الوسط. وبجانب هذا أيضًا هو يشير إلى أنه من الممكن هكذا أيضًا الإقتداء بالمسيح. لأن الشخص الذي ينسخ ويحاكي الطبعة الكاملة للختم ينسخ ويحاكي النموذج الأصلي.
فتعالوا لنرى بأية طريقة هو تبع المسيح لأن هذا الإقتداء لا يحتاج لوقت وفن بل فقط قصد مستقيم. هكذا لو مضينا لمرسم رسام لن نتمكن من نسخ الصورة حتى لو رأيناها عشرة آلاف مرة. لكن أن نحاكي بولس سوف نتمكن من ذلك فقط بالسماع. فهل تشاءون أن نأتي بلوحة أمامكم ونرسم لكم أسلوب حياة بولس؟ حسنًا فلنقدمها لأن تلك الصورة ستكون أبهى من كل صور الأباطرة، لأن مادتها لن تكون من مواد الرسم المعتادة بل مادتها هي عمل الله، ولكونها من نفس وجسد، النفس هي عمل الله وليس البشر وكذلك أيضًا الجسد.
وهذان يوجدان مشتركان في الكل بلا استثناء، ومن حيث النفس كنفس فهي لا تختلف عن أي نفس من جهة كونها نفس لكن قصد القلب هو الذي يبين الفرق. ومن جهة الجسد لا يفرق عن أي جسد آخر من حيث كونه جسد لكن جسد بولس هو مثل جسد أي شخص آخر لكن الأخطار فقط هي التي تجعل جسد شخص أبهى عن غيره، ونفس الشيء ينطبق أيضًا على النفس.
![]() |
6- فلنفترض أن لوحنا هو نفس بولس: هذا اللوح كان مغطى مؤخرًا بالهباب (والصماد) ومملوء بخيوط العنكبوت (لأن لا شيء أسوأ من التجديف) لكن عندما جاء من يحول كل شيء ورأى أنه لم يكن عن طريق التكاسل أو البلادة رُسمت خطوط لوحته بل بسبب عدم الخبرة ولأنه لم تكن له درجات ألوان التقوى الحقيقية (لأنه كانت له فعلًا الغيرة لكن لم توجد هناك ألوان إذ لم تكن له الغيرة التي بحسب المعرفة)، فأعطاه الله درجة لون الحق أي النعمة وفي لحظة أظهر صورة ملكية.
لأنه إذ حصل على الألوان وعرف ما كان فيه من جهل لم ينتظر بل في الحال ظهر فنان رائع جدًا. فأولًا أظهر رأس الملك إذ كرز بالمسيح، بعدها أيضًا بقية الجسد، جسد الحياة المسيحية الكاملة. نحن نعرف أن الرسامين يغلقون على أنفسهم وينفذون عملهم بتدقيق عظيم وفي هدوء ولا يفتحون الباب لأي أحد، لكن هذا الإنسان (بولس) أظهر لوحته على مرأى من العالم وفي وسط مقاومة عامة وصخب واضطراب وعمل في وسط مثل هذه الظروف هذه الصورة الملوكية دون أن يفلح أحد في إعاقته. ولذلك قال: "صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَم" في وسط الأرض والبحر والسماء وكل المسكونة والعالم المادي والعقلي كان يرسم هذه الصورة التي له.
هل تودون رؤية الأجزاء الأخرى أيضًا من الرأس إلى أسفل؟ أم تودون أن نبدأ وصفنا إلى أعلى؟ فتأملوا تمثال من ذهب أو بالحري شيء أثمن من الذهب كالذي يمكن أن يوجد في السماء، غير مثبت في موضع واحد بل كان يسرع من أورشليم إلى إلليريكون (رو 15: 19)، ومنطلقًا إلى أسبانيا ويحمل كما لو كان أجنحة ليطير إلى كل أنحاء العالم. وأي شيء يمكن أن يكون أجمل من هاتين الرجلين التي زارت وافتقدت كل الأرض التي تحت الشمس؟ ونفس هذا الجمال أعلن عنه منذ القديم النبي بقوله: "مَا أَجْمَلَ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ ببشارة ِالسَّلاَمِ!" [(إش 52: 7) بحسب النص].
هل رأيتم كم جميلة القدمين؟ هل تودون رؤية الحضن (الصدر) أيضًا؟ تعالوا ودعوني أبين لكم هذا أيضًا، وسوف ترونه أكثر بهاء جدًا من أي جمال آخر، بل وأجمل من صدر المشرع القديم موسى. لأن موسى حمل لوحين من حجر لكن هذا الإنسان (بولس) حمل داخله المسيح شخصيًا، وكانت الصورة التي حملها بولس هي ذات صورة الملك (المسيح). لأجل هذا السبب هو مهوب أكثر من كرسي الرحمة والكاروبيم. لأنه لا يصدر منها صوت مثل الذي لبولس، بل منها خرج صوت يتكلم أساسًا عن أشياء مادية بينما من لسان بولس جاء كلام عن أشياء فوق السماوات.
أيضًا من كرسي الرحمة جاء كلام عما يختص باليهود فقط، بينما كلام بولس كان إلى العالم كله. كان كرسي الرحمة هذا (يقصد بولس) أبهى حتى من السماء، ولم يكن يلمع بنجوم متنوعة ولا بأشعة الشمس، بل شمس البر ذاته كان هناك ومن خلال بولس أرسل أشعته. أيضًا من حين لآخر في سمائنا هذه يمكن لأي سحابة أن تغطي السماء أحيانًا بظلمة، أما صدر بولس فلم يمكن مطلقًا لأي عاصفة أن تعبر عليه وتكتسحه. أو بالحري عبرت عليه بقوة عواصف كثيرة لكن لم يمكنها أن تطفئ نوره بل بالحري في وسط التجارب والأخطار لمع نوره أكثر.
لذلك أيضًا عندما كان مقيدًا هو شخصيًا بسلاسل واصل هتافه قائلًا "كلمة الله لا تقيد" (2تي 2: 9). هكذا دومًا بواسطة هذا اللسان كان كلام الله يرسل أشعته. ولا مخاوف ولا أخطار جعلت هذا الصدر كئيب. ربما يبدو الصدر متفوقًا على القدمين، لكن مثلما القدمين جميلتين كذلك هذا الصدر.
هل تودون أيضًا رؤية البطن مع جمالها؟ اسمعوا ما يقوله عنها: "إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْمًا إِلَى الأَبَدِ لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي" (1كو 8: 13)، "حَسَنٌ أَنْ لاَ تَأْكُلَ لَحْمًا وَلاَ تَشْرَبَ خَمْرًا وَلاَ شَيْئًا يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ" (رو 14: 21)، "اَلأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَالْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ" (1كو 8: 13). أي شيء يمكن أن يكون أجمل في نوعه من هذه البطن التي تعلمت هكذا أن تكون هادئة وتعلمت كل تعفف وعرفت كيف تجوع وكيف يتم تجويعها وأيضًا كيف تكابد العطش؟ لأنه كما الحصان المُدَرَّب بلجام ذهبي، هكذا أيضًا سارت هذه البطن بخطوات محسوبة وتغلبت على ضرورات الطبيعة. لأن المسيح كان يسير فيها. ولكونها تعففت هكذا، من الواضح تمامًا أن كل جسد الرذيلة بجانبها قد زال وولى.
هل تودون أيضًا رؤية اليدين، تلك التي له الآن؟ أم تودون بالحري أن تعاينوا أولًا شرها السابق؟ فشاول "كَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالًا وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ" (أع 8: 3)، ليس بيدي إنسان بل بيدي وحش مفترس. لكن بمجرد قبوله ألوان الحق والخبرة الروحية، لم تعد هاتين يدي إنسان بل يدين روحيتين لكونها مقيدة يوم بعد يوم بالسلاسل. ولم تعد تضرب أحد بل هي تُضرب مرات بلا عدد. بل حدث أن أفعى وقرت هاتين اليدين، لأنها لم تعد بعد يدي إنسان ولذلك لم تتشبث الأفعى بها.
وهل تودون أيضًا رؤية الظهر مشابهًا كما فعلت الأعضاء الأخرى؟
اسمعوا أيضًا ما قاله عن هذا الظهر أيضًا: "مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ. لَيْلًا وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ" (2كو 11: 24-25).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
7- لكن لئلا نحن أيضًا نسقط في عمق لا نهاية له ونُحمل بعيدًا ونمضي وراء كل عضو من أعضائه، هلموا لنترك الجسد ونتطلع إلى نوع آخر من الجمال وذاك الذي ينبع من ثيابه، هذه التي حتى الشياطين أظهرت احترام لها ولذلك بواسطتها طُردت الشياطين والأمراض هربت. وحيثما حدث أن بولس ظهر تتوارى كلها وتخرج من الموضع كما لو أن بطل العالم قد ظهر. وكما أن من جرحوا في الحرب يقشعرون لدى رؤية ولو جزء من سلاح من جرحهم، بنفس الطريقة لدى رؤية مناديل بولس فقط تقشعر وتهرب في الحال.
أين الآن الأغنياء ومن لهم أفكار رفيعة عن الثروة والمال؟ أين هم الذين يعددون ألقابهم وثيابهم الغالية؟ لو قارنوا أنفسهم بمتعلقات بولس سيكون في نظرهم كل ما يملكونه طين وقذارة. ولماذا أتكلم عن الثياب والزينة الذهبية؟ لماذا، حتى لو سيمنحني أحد العالم كله لأتملكه، فأني اعتبر أن مجرد ظفر لبولس أكثر قوة من كل تلك المملكة، فقره أعظم من كل ترف، إهانته أكثر من كل مجد، عريه أعظم من كل غنى، لا يمكن لأي طمأنينة أن تُقارن بالآم تلك الرأس المقدسة، لا يمكن مقارنة أي تاج ملكي بالحجارة التي جُعل هو هدفًا لها.
أيها الأحباء ليتنا نتوق لهذا الإكليل، ولو لا يوجد اضطهاد الآن ليتنا أثناء ذلك نعد أنفسنا له. لأن من نتكلم عنه لم يتمجد فقط بالاضطهادات، إذ قال هو أيضًا: "أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُه" (1كو 9: 27)، وفي هذا المجال يمكن للمرء الآن أن يدرك السمو بدون اضطهادات. وهو نصح أيضًا أهل رومية قائلًا: "لاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ" (رو 13: 14)، وأيضًا قال لتيموثاوس: "َإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا" (1تي 6: 8). لأننا لا نحتاج لاضطهادات لأجل هذه المقاصد.
وسعى الرسول لجعل الغني معتدلًا بقوله: "وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَكُونُوا أغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَك" (1تي 6: 9). لذلك لو نحن أيضًا نمرن أنفسنا هكذا، عندما ندخل الحلبة سوف نتكلل ولو أنه لا توجد أمامنا اضطهادات لكننا سنتلقى من هذه الأمور مكافآت كثيرة. لكن لو نحن دللنا الجسد وأشبعنا رغباته وعشنا حياة الخنزير، فحتى في وقت السلام سوف نخطئ ونحمل الخزي والعار.
ألا ترون مع من نحن نحارب ونصارع؟ مع قوات غير جسدانية. فكيف ونحن أنفسنا جسد لنا أن نفوز عليهم؟ لأنه إن كان المرء يحتاج للاعتدال في الطعام وعدم الإفراط عندما يصارع مع بشر فكم بالأولى عندما نصارع مع أرواح شريرة. لكن عندما مع شبع الجسد نكون مقيدين أيضًا بالثروة فمن أين لنا أن نغلب خصومنا؟ لأن الثروة سلسلة، قيد خطير لمن لا يعرفون كيف يستخدمونها، طاغية وحشي وعديم الإنسانية، يفرض كل أوامره بقسوة على من يخدمونه. لكن لو شئنا، يمكننا أن ننزل هذا الطاغي الفظيع عن عرشه وجعله يخضع لنا بدلًا من أمرنا.
فكيف يمكن تحقق هذا؟ بتوزيع كل أموالنا على الجميع وبهذا لن تكون الثروة سيد علينا بعد.]
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-paul-praise/imitatation.html
تقصير الرابط:
tak.la/vsmf2pf