أسسها سنة 753 ق.م. روميولس Romulus الذي صار أول ملك لها. وقد بناها على أكمة واحدة من الآكام السبع هناك, ومع الزمن امتدت فشغلت كل الآكام. وإذ ازداد نفوذ هذه المملكة الصغيرة الناشئة -رومية- شيئًا فشيئًا صارت فيما بعد إمبراطورية. ثم استولت على حوض البحر الأبيض المتوسط كله. فكانت رومية - عاصمة الإمبراطورية الرومانية, قبلة أنظار العالم كله, وملتقى ساسة العالم وقادته. ومن رومية انتشرت العلوم والآداب والفلسفة, ولا يزال القانون الروماني يدرّس في كل أرجاء العالم إلى الآن. لكن بالرغم من كل هذا فقد كانت المدينة غارقة في أرجاس العبادة الوثنية وقبائحها واستولت عليها الخزعبلات - الأمر الذي يتضح مما ورد في الإصحاح الأول من الرسالة إلى أهل رومية. وعندما ولد المسيح كان بالمدينة كثيرون من اليهود الذين تشتتوا فيما بعد في كل أرجاء العالم.
ولا يُعْلَم يقينًا الوقت الذي فيه دخلتها المسيحية ولا على يد مَنْ دخلتها. لكن الأرجح أنه تمّ على يد اليهود أهل رومية الذين كانوا في أورشليم يوم الخمسين (أع 2: 10) إذ امتلأوا من الروح القدس وعادوا إلى رومية بدأوا يذيعون الإنجيل فيها. وقد احتدمت المناقشات -ولا تزال- فيما إذا كان بطرس هو أول من نادى بالإنجيل في رومية. فالكنيسة الكاثوليكية تنادي بهذا الرأي ضد كلام الكتاب المقدس صراحةً, وتخالفها فيه أغلب الكنائس الأخرى.
ولأن رومية كانت أهم مدينة في العالم فقد اشتهى بولس أن يذهب إليها للمُناداة فيها بالإنجيل.
لكن حالت عوائق كثيرة دون تحقيق أمنيته هذه "إنني مرارًا كثيرة قصدت أن آتي إليكم ومنعت حتى الآن" (رو 1: 13). لكن الله رتب له أن يذهب إليها لكي يحاكم أمام قيصر على أساس أن هذا كان حقًا يعطى لكل روماني. وكان بولس قد اكتسب الرعوية الرومانية بالمولد (أع 22: 25-28؛ 25: 11، 12). وبناء على رغبته أُرسل إلى رومية فوصل إليها فعلًا وأقام فيها سنتين (أع 28: 16، 30).
وفي سنة 64 م. قام الإمبراطور نيرون وأثار اضطهادًا شديدًا على مسيحيي رومية, ثم قام من بعده دومتيانوس وجدد الاضطهاد سنة 81 ب.م. وخلفه تراجانوس حيث أثار عليهم اضطهادًا أشد بين سنة 97 وسنة 117.
وفي رومية استشهد كل من بطرس وبولس حوالي سنة 68 م. الأول بصلبه منكس الرأس, والثاني بقطع رأسه.
أما شهرة رومية الحديثة فلا تنحصر في عظمتها الحالية فحسب بل أيضًا فيما تذخر به من الآثار القديمة النفيسة والكنائس الكثيرة, وأهمها كنيسة القديس بطرس التي تعتبر من أفخم كنائس العالم وأكثرها اتساعًا. وبها أيضًا الفاتيكان مقر البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية.
روما هي عاصمة الجمهورية ثم الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت فيما بعد عاصمة للعالم اللاتيني المسيحي. وتقع روما على الضفة الشمالية لنهر التيبر Tiber على بعد نحو خمسة عشر ميلًا من مصبه في البحر المتوسط، وهي تقع على خط عرض 53ً 41ْ شمالًا، وخط طول 12ً.. 12 ْ شرقي جرينتش.
ولا يسعنا في هذا البحث أن نغطي تمامًا كل الخطوط العريضة للتاريخ القديم للمدينة الخالدة. ولعله من الأنسب أن نعرض للعلاقات بين الحكومات الرومانية والمجتمع، ومع اليهود والمسيحيين، بالإضافة إلى تغطية سريعة للتطور المبكر لقوة روما ومؤسساتها، حتى نلم بالخلفية التاريخية اللازمة لفهم الموضوعات الجوهرية:
أولًا - تطور دستور الجمهورية:
(1) الدولة الرومانية المبكرة: إن الأزمنة التاريخية للفترة المبكرة من تاريخ روما، لا يمكن الاعتماد عليها ككل، وأحد أسباب ذلك هو أن الغاليين (قدماء الفرنسيين) عند اجتياحهم للمدينة في 390 ق. م. دمروا الآثار التي كان يمكن أن تعطينا شهادة صادقة عن الفترة المبكرة.. ومن المعروف أنه كانت هناك مستوطنة قائمة في مكان مدينة روما قبل التاريخ التقليدي لتأسيسها (753 ق. م). وقد قامت الدولة الرومانية أساسًا نتيجة لتحالف عدد من العشائر المتجاورة، أو مجموعات من القبائل يحوط تاريخها الغموض. وقد شكلَّ رؤساء العشائر المجلس البدائي، أو مجلسًا من شيوخ القبائل مارس سلطة الحكم. إلا أنه كما يحدث عادة في تطور أي مجتمع بشري، أعقب ذلك نظام عسكري، أو نظام ملكي قضى على النظام المفكك للشيوخ ورجال الدين. ومن المحتمل أن تكون هذه المرحلة الثانية هي ذاتها فترة الحكم الأسطوري "للتركويين" Tarquins والذي يرجح أنه كان جزءًا من سيادة "الإتروسكانيين" Etruscans.
وقد آل اتحاد العشائر إلى وحدة سياسية متجانسة. وتم تنظيم المجتمع على أساس "تيموقراطي" Timocracy (حكومة مبنية على أساس الثروة أو الحسب) وتحولت إلى مركز سياسي صناعي اجتماعي، واقيم معبد "الكابيتول" (Capitoline) للآلهة "جوبيتروجونو ومنيرفا" (وهي آلهة اتروسكانية تشبيهًا بالآلهة الهيلينية)، كمعبد عام لكل الشعب، ولكن الرومان مدينون -قبل كل شيء- لأولئك الملوك الأجانب بتدريبهم على النظام والطاعة التي تمثلت فيما بعد في مفهوم " السلطة الحاكمة."
ثم انتقلت امتيازات الملوك إلى القناصل، وكان تقلص فترة الحكم إلى سنة واحدة، وقيام مبدأ جماعية الحكم، هما أقدم النتائج لإساءة استخدام السلطة غير المحدودة. إلا أن حجر الزاوية الحقيقي للحرية الرومانية، كان - على ما يبدو - ما يسمي " بقانون فاليريا" (Valeria) الذي قضى بألا يحكم على أي مواطن بالموت بدون أن يسمح له باستئناف القرار إلى مجلس الشعب.
(2) الصراع بين الأشراف والعامة: استغرق الصراع بين طبقتي الأشراف والعامة -بعد إنشاء الجمهورية- أكثر من مائة وخمسين عامًا، وكانت طبقة الأشراف تتكون من أحفاد شيوخ العشائر، أو رجال السياسة على وجه التحديد، أما العامة فكانوا أحفاد العبيد السابقين أو الغرباء الذين جذبتهم روما بالفرص المتاحة في الصناعة والتجارة، وقد تمتعوا بامتياز الاشتراك كأعضاء في المجلس العسكري، إلا أنهم لم يشتركوا في هيئة القضاة، ولم يكن لهم نصيب في الألقاب الشرفية أو في الرواتب ، ولا في معرفة القانون المدني الذي كانت تتوارثه العائلات الشريفة كتقليد شفهي.
وكانت أول خطوة اكتسبها "العامة" في زحفهم نحو المساواة السياسية، عندما استطاعوا أن يستخلصوا من الأشراف امتياز اختيار ممثلين لهم من بينهم وهم " التربيونيون" (Tribunes) أي المدافعون عن حقوق الشعب، وقد اكتسبت وظيفتهم في مساعدة العامة المظلومين حق " الفيتو " أي الاعتراض، والذي عن طريقه كان يمكن إيقاف أي حكم يصدره الحاكم، وكانت عملية تدوين القانون في " الاثنى عشر لوحًا " ذات فائدة واضحة بالنسبة للطبقات الدنيا، لأن كل ما عانوه من مظالم، كان بسبب التفسير المتعسف للقوانين الشرعية التي كانت غامضة بطبيعتها، ثم أدى الغاء منع التزاوج بين الطبقات المختلفة الى امتزاج تدريجى بينها.
(3) مجلس الشيوخ والحكام: (Senate & Magistrates) :
لقد جعل الملوك من مجلس الشيوخ مجرد هيئة استشارية، إلا أنه في ظل الحكم الجمهوري، استرد مجلس الشيوخ سلطته. وتعد سلطة مجلس الشيوخ أهم سمة ميزت الحكومة الجمهورية، رغم عدم تقنين ذلك بأي تشريع أو دستور. ويرجع ذلك جزئيًا إلى انكماش سلطة الحكام، ومن جهة أخرى إلى كيفية اختيار أعضاء مجلس الشيوخ. وكان تحجيم سلطة الحكام نتيجة لزيادة عددهم، مما أدى إلى تقلص الامتيازات الفعلية لكل منهم، كما أدى أيضًا إلى انكماش نفوذهم كجماعة. وكانت زيادة عدد الحكام أمرًا يستلزمه اتساع حدود الدولة وتطور الإدارة، كما كان ذلك أيضًا نتيجة لتذمر العامة وهياجهم. ولعل أحداث 367 ق. م. تعتبر نموذجًا لتوضيح أثر هذه العوامل. فعندما اقتحم العامة بالقوة قلعة تفرد النبلاء بالارتقاء الى وظيفة " قنصل " التي كانت أعلى مراتب السلطة، فإن ضرورة وجود حاكم آخر على قدر من الكفاءة العامة، هيأت الفرصة لتعويض النبلاء بامتياز آخر، فانشئت وظيفة " الوالي " Practor)) والتي كانت مقصورة في البداية على أعضاء الطبقة الأرستقراطية القديمة. وفي ظل الدستور الدائم أصبحت وظائف الحكم خمس وظائف هي: "القنصل" (Consulship) و" الوالي" (Praetorship) ، و" المحتسب" (aedulship) و" القاضي" (Tribunate) والقسطور (مراقب حسابات Quaestorship) وكان اختيار شاغلي هذه الوظائف الخمس يتم بالانتخاب سنويًا.
سبق أن ذكرنا طريقة اختيار أعضاء مجلس الشيوخ كعامل في تطور سلطة المجلس الأعلى. وقد مارس كبار موظفي الدولة التنفيذيين - في البداية - حق اختيار أعضاء جدد لمجلس الشيوخ، ليظل عدد الشيوخ في معدله الطبيعي، وهو ثلثمائة عضو، ثم انتقلت هذه المهمة فيما بعد إلى المراقبين (Censors) الذين كانوا ينتخبون كل خمس سنوات، إلا أن العرف، والقانون - اللاحق - حددا أن يكون الاختيار من بين المواطنين المتميزين، وكان أعلى مستوى للتميز بين المواطنين في المجتمع الروماني، هو خدمة الدولة، أو بتعبير آخر شغل وظائف الحكم العامة. وقد تبع ذلك أن صار مجلس الشيوخ في حقيقته مجلسًا يضم كل الحكام السابقين الأحياء، كما ضم كل الحكمة السياسية وخبرة المجتمع، ولذلك كانت له مكانة عظيمة لدرجة أنه رغم أن التعبير عن الرأي لم يعطه القانون أي قوة ملزمة، إلا أنه كان - بالضرورة - مرشدًا لسلوك الحاكم الذي كان - عمليًا - خادمًا للمجلس لا رئيسًا له.
وعندما أصبح للعامة حق تولي وظيفة الحكم، فقدت طبقة النبلاء أهميتها السياسية، إلا أن أفراد عائلات أغنياء العامة فقط هم الذين أمكنهم أن ينتفعوا من هذا التوسع في الامتيازات، حيث كان المنصب السياسي يتطلب تحررًا من العمل لكسب العيش، كما كان يتطلب أيضا النفوذ الشخصي. وسرعان ما اندمجت هذه العائلات من عامة الشعب مع النبلاء وشكلت طبقة ارستقراطية جديدة استندت بصفة أساسية على ما تملكه من ثراء. وكانت الكرامة الناتجة عن شغل الوظائف العامة، هي عنوان الامتياز، وكان مجلس الشيوخ هو أداتها، فلم تكن في روما -أبدًا- ديمقراطية حقيقية إلا نظريًا، فقد كان ممثلو العدد المحدود نسبيًا من عائلات الطبقة الارستقراطية، يشغلون بصفة مطلقة وظائف الحكم في كل الفترة الممتدة من القضاء على الامتيازات القديمة المبنية على الدم (في 287 ق. م.) إلى بداية فترة الثورة (في 133 ق. م). وأولئك فقط هم الذين دخلوا مجلس الشيوخ عبر وظائف الحكم. ولم يكن ثمة فرق بين الإدارتين الجمهورية والسيناتورية (مجلس الشيوخ).
وقد نمت بذور الثورة السياسية والاجتماعية خلال فترة الحرب البونية (مع قرطاجنة) الثانية والفترة التي تلتها، وقد نتج عن تعطيل السلطة العسكرية للبرلمان، سابقة خطيرة في انتهاك روح الجمهورية، حتى إن " كورنيليوس سكيبيو Cornellllius Scipio)) يعتبر سابقًا " لماريوس" (Marius) و" يوليوس قيصر " و" أوغسطس قيصر ". كما كان الذهب الذي تدفق من الأقاليم إلى روما طعمًا لجذب طمع أعضاء مجلس الشيوخ ، مما أدي إلى ظهور أسوأ نوع من الاحتراف السياسي. وقد انحلت الطبقى الوسطى - أي طبقة صغار الفلاحين - لأسباب عديدة، فقد جذبت الخدمة في البلاد الغنية - المغلوبة على أمرها - في الشرق، الكثيرين منهم، وتسبب رخص ثمن العبيد في أن تصبح الزراعة الحرة غير مربحة، وأدى ذلك إلى ازدياد عدد المزارع الكبيرة، وحلت زراعة الكروم والزيتون - جزئيًا - محل زراعة الحبوب، وهو الأمر الذي لم يناسب عادات وقدرات الطبقة القديمة من الفلاحين.
أما السبب المباشر للثورة فكان عدم قدرة مجلس الشيوخ على ضبط سلوك أعضائه من الراديكاليين أو المتطرفين، لأنه مع نمو روح الطموح السياسي، بإزدياد الأسلاب المادية المكتسبة، حوَّل القادة الطموحون انتباههم الى الشعب، وسعوا لتحقيق أغراضهم بالتشريعات الشعبية بغض النظر عن موافقة مجلس الشيوخ التي كان يستلزمها القانون والعرف. وكان معنى فقدان مجلس الشيوخ لحق المبادرة، انهيار سلطته، وقد كان له، في قوة استخدام القضاة المدافعين (Tribunes) لحق الفيتو (أو الاعتراض) - سلاح لإجبار الحكام المعاندين، على الخضوع ، لأنه كان في الامكان إغراء أي واحد من القضاة المدافعين العشرة، لأن يستخدم حق الفيتو لمنع مرور أي تشريع شعبي. إلا أن هذا السلاح قد انكسر عندما أعلن " طيباريوس جراكوس" (Tiberius Gracchus) في 133 ق. م. أن القاضي المدافع الذي يعارض رغبات الشعب، لا يعتبر ممثلًا للشعب.
(4) المبادئ الأساسية: ولا يسعنا هنا أن نتابع تقلبات الصراع المدني في القرن الأخير من عصر الجمهورية، بل سنكتفي بالقليل لنبين المبادئ العامة التي كانت تكمن تحت سطح الظواهر السياسية والاجتماعية. وقد سبق أن وجهنا النظر إلى التطور المشئوم لنفوذ القادة العسكريين، وازدياد التركيز على مطالب الشعب، وكان أهم الاتجاهات في تلك الفترة. وكان اتحادهما معًا مدمرًا لسيادة حكومة مجلس الشيوخ. وقد قام " ماريوس " - بعد أن اكتسب مجدًا حربيًا منقطع النظير - بتشكيل اتحاد سياسي مع " جلوشيا" (Glaucia) و" ساتورنينوس" (Saturninus) - زعيمي حزب الشعب في المدينة في عام 100 ق. م. وكانت هذه خطوة فاصلة في مسار الثورة. إلا أن أهمية السيف سرعان ما تغلبت على أهمية جمهور الشعب، في الاتحاد الذي تم. وكانت المسائل الدستورية تحسم لأول مرة في الحروب الأهلية بين " ماريوس " و" سولا" (Sulla) بالقوة العسكرية. وقد أدى الالتجاء المتكرر إلى القوة الغاشمة، إلى تعتيم مفهوم القيود الدستورية وحقوق الأقليات. وقد بدت على مجلس الشيوخ - بالفعل - أعراض الشلل الجزئي في عصر " جراتشي" (Gracchi) وازداد عجزه بشدة عندما فصل السيف أعضاءه الأقوياء. وقد استنفذ قوته في حرمان الناس من حماية القانون، وفي اغتيال الأعداء السياسيين. لقد أنتصر حزب الشعب اسميًا، إلا أن روما ظلت - نظريًا - دولة حضرية لها مركز سياسي واحد، فلم يمارس حق الانتخاب إلا في روما وحدها. وتبع ذلك أن الجماعات السياسية الفعلية، كانت تتكون - بصورة كبيرة - من العناصر التافهة التي كانت كثيرة العدد جدًا في المدينة، وكان يسوقها القادة السياسيون المحنكون، وبخاصة الذين جمعوا في أنفسهم، القدرات العسكرية، والقدرة على التلاعب بالألفاظ. فقد كان "سولا" (Sulla) و"كراسوس" (Crassus) و"يوليوس قيصر" و"أنطونيوس" ثم "أوكتافيوس" Octavius، أشبه ما يكونون بالزعيم السياسي في العصر الحديث. وعندما بلغ أولئك الرجال أوج قوتهم، أصبح الصراع على السيادة، عملية ضرورية لاستبعاد الأضعف، وبقاء الأصلح، مما أدى إلى قيام "الملكية" وعندما حصل أوكتافيوس على لقب "أوغسطس" Caesar Augustus والسلطة القنصلية (في 27 ق. م.) وقع التحول الكامل.
ثانيًا - اتساع سيادة روما:
ارجع إلى الجزء المختص ب،"الإمبراطورية الرومانية والمسيحية" هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت.
ثالثًا - الحكومة الإمبراطورية:
(1) السلطة الإمبراطورية: أظهر "أوغسطس" مهارة واضحة في المزج بين سيادته الخاصة والقوانين القديمة من الدستور الجمهوري، فقد قامت سلطته شرعًا وأساسًا على قوة التشريع والدفاع التي اكتسبها في عام 36 ق. م. ولكنها قامت على أساس أفضل في عام 32 ق. م. ثم على امتياز القنصلية الذي ناله في عام 27 ق.م. وبفضل الامتياز الأول صارت له السلطة أن يدعو مجلس الشيوخ وغيره من المجالس للانعقاد، وأن يعترض على قرارات أي حاكم. أما الامتياز الثاني، فقد خوِّل له رئاسة القوات العسكرية، وبالتالي إدارة المقاطعات التي تستقر فيها جيوشه، إلى جانب الإشراف العام على حكومات المقاطعات الأخرى. ومن ثم حدث التمييز في 27 ق. م. بين المقاطعات الإمبراطورية التي يديرها ممثلون عن الإمبراطور، وبين المقاطعات الخاضعة لحكم مجلس الشيوخ، والتي كان يحكمها الجهاز الإداري للدولة. وكان حكام هذه المقاطعات أو الأقاليم، يسمون " ولاة" (أو Procnsul) وقد ورد ذكر اثنين منهم في العهد الجديد، هما " غاليون " في أخائية (أع 18:12). و"سرجيوس بولس" في قبرص (أع 13: 7). وجدير بنا أن نقارن بين السلوك المتعقل لأولئك الحكام الرومانيين المتمرسين، وسلوك الغوغاء الهائجين الذين تعاملوا مع بولس في أسيا الصغرى وفي اليهودية وفي اليونان.
(2) ثلاث طبقات من المواطنين: كان المواطنون الرومانيون ينقسمون إلى ثلاث طبقات اجتماعية: أعضاء مجلس الشيوخ، والفرسان، والعامة. وكان الجهاز الاداري كله متجانسًا مع هذا التقسيم الثلاثي. وكانت طبقة الشيوخ تتكون من أحفاد الشيوخ، ومن الذين خوَّلهم الأباطرة امتياز ارتداء رداء "التونك" tunic (العباءة) ذي الحزام الأرجواني العريض، كعلامة للعضوية في هذه الطبقة. وكانت وظيفة "القسطور " بابًا للانضمام إلى مجلس الشيوخ. فكانت المؤهلات لعضوية مجلس الشيوخ هي الانتساب إلى تلك الطبقة، إلى جانب حيازة أملاك لا تقل قيمتها عن مليون " سترس" (عملة رومانية قديمة - أي ما يعادل نحو خمسة وأربعين ألف دولار). وقد نقل طيباريوس قيصر حق انتخاب الحكام من الشعب الى مجلس الشيوخ، الذي كان - عمليا - هيئة مغلقة. وفي ظل الامبراطورية، كان للقرارات الصادرة عن مجلس الشيوخ قوة القانون. كما اكتسب مجلس الشيوخ سلطات قضائية، فكان يجتمع كمحكمة للنظر في الجرائم الهامة، والاستماع الى الاستئناف في القضايا المدنية من المقاطعات الخاضعة له. أما طبقة الفرسان فكانت تتكون ممن يمتلكون ثروة لا تقل عن أربعمائة الف " سسترس " مع امتياز ارتداء الشريط الضيق الأرجواني فوق " التونك" (العباءة). وقد ملأ الأباطرة بالفرسان العديد من المراكز والوظائف الإدارية والمالية الهامة في إيطاليا، والمقاطعات التي تحت حكمهم.
رابعا - الديانة الرومانية:
(أ) الآلهة: كانت الديانة الرومانية -في الأصل- أكثر تماسكًا من الديانة الاغريقية، لأن الآلهة التي آمنت بوجودها العقلية اللاتينية غير الخيالية، كانت خالية تمامًا من السمات البشرية. فكانت الآلهة، بالنسبة لهم، هي التأثيرات أو القوى التي توجه الظواهر المرئية للعالم المادي. والتي كانت لازمة للخير المادي للبشرية. ولا يحق لنا أن نفترض وجود نظام للعقائد اللاهوتية في الفترة البدائية. وقد دخلت الاعتبارات الأخلاقية -بدرجة محدودة- في موقف الرومان من آلهتهم.وكانت الديانة الرومانية شبيهة بتعاقد، آلي فيه الناس على أنفسهم أن يقدموا ذبائح معينة، وأن يقوموا بشعائر وفروض مختلفة، وفي المقابل ، توقعوا من الآلهة العون الفعَّال في انجاح مشروعاتهم وسائر أمور حياتهم. وكان الرومان -بالطبيعة- يعبدون عدة آلهة، كنتيجة منطقية لمفاهيمهم عن الالهة. ولأنه قبل بزوغ فجر العلم، لم يكن في العالم الطبيعي شبيه بالوحدة، فلابد أنه ليس ثمة وحدة في السماء. وكان لا بُد من وجود روح ضابطة حاكمة لكل شيء هام أو مجموعة أشياء، ولكل شخص ولكل عملية في الطبيعة، ومن ثم كان عدد الآلهة يفوق عدد البشر أنفسهم.
(2) وفي فترة مبكرة، أصبحت الحكومة علمانية بشكل واضح، وصار الكهنة خدامًا للمجتمع، لممارسة الطقوس والفرائض، التي فقد العديد منها - في فترة مبكرة - روحها التي كانت لها قبلًا. وكان الحكام الممثلين الحقيقيين للمجتمع في علاقته بالآلهة، سواء في السعي نحو معرفة الإرادة الإلهية بالتكهنات أو في تقديم الذبائح الهامة.
(3) لم يُقم الرومان - في البداية - تماثيل لآلهتهم. ويرجع هذا جزئيًا - إلى نقص المهارة الفنية، ولكنه يرجع أساسًا إلى غموض مفاهيمهم عن ألآلهة، وقد اكتفوا بالرموز للإشارة إلى وجود الآلهة، فمثلا كانت " الحربة " ترمز للاله " مارس " (المريخ Mars) إله الحرب. وقد دخلت إليهم عملية تمثيل الآلهة في شكل آدمي عند اتصالهم بالإتروسكانيين والإغريق. وقد دعا "التركويون" Traquins الصناع الإتروسكانيين المهرة والفنانين إلى روما فصنعوا من الطين المحروق التماثيل الدينية وواجهات معبد الكابيتول.
وقد استقرت أنماط الآلهة الاغريقية، عندما أصبح للثقافة اليونانية التأثير الأقوى في صياغة حضارة روما. وعندما صار شكل آلهة الإغريق مألوفًا لدى الرومان في أعمال الحفر، حلت آلهة الإغريق بالتدريج محل الآلهة الرومانية، والتي كانت متطابقة معها اسميًا، كنتيجة للتشابه الحقيقي أو الخيالي بينها.
(4) كان ادخال آلهة جديدة أمرًا سهلًا نسبيًا ، لأن تعدد الآلهة يمكنه -بطبيعته- أن يسمح بذلك لعدم محدوديته. وقد ازداد عدد آلهتهم تبعًا لاتساع إدراكهم للظواهر الطبيعية. وإلى جانب ذلك، كان من المعتاد دعوة آلهة المدن المهزومة لنقل إقامتها إلى روما، ومساعدة الرومان في أعمالهم. إلا أن أغزر مصدر للتوسع كان كتب الكهانة والعرافة (الكتب السيبليانية). وقد تم جلب هذه الكتب إلى روما من "كومي" Cumae مركز عبادة الإله أبولو. وكان الناس يلجأون إليها في وقت الأزمات لعلهم يكتشفون فيها طقوسًا خاصة يمكنها أن تضمن لهم العون الإلهي. وكانت طقوس العبادة في الكتب السيبليانية إغريقية تمامًا. ومع دخول القرن الخامس قبل الميلاد، اُدخلت عبادة " أبولو " إلى روما.. كما وجدت عبادة " هرقل " وعبادة "ديوسقوروس " طريقها إلى هناك في نفس الوقت تقريبًا. ثم حدث مزج الآلهة "ديانا" الإيطالية بـ"أرطاميس" اليونانية. كما حدث الخلط بين مجموعة "سيرس"Ceres و"ليبر"Liber و"ليبرا" (Libera) ومجموعة الآلهة الأجنبية: "ديمتر" Demeter و"ديونيسيوس" Dionysus و"برسيفوني" Persephone، وهكذا تم تحويل العبادة الرومانية إلى عبادة هيلينية. وبانتهاء الحرب البونية الثانية، وجد آلهة الإغريق الكبار، مكانًا لهم على نهر التيبر. أما آلاف الآلهة الصغيرة المحلية التي لم تجد لها نظائر في آلهة جبل الأوليمب، فقد طواها النسيان.
(ب) الانحلال الديني: لقد تسرب عنصر الفساد سريعًا إلى الديانة الرومانية، من الروافد التي استمتدها من الديانة الإغريقية، لأن دخول العنصر الهيليني إليها، جعلها -بصفة خاصة- معرضة لهجمات الفلسفة. وكانت فلسفة الشك قد تفشت بالفعل بين الطبقة المثقفة في المجتمع اليوناني. وقد جعل الفلاسفة من الآلهة موضوعًا للاستهزاء. وقد ثبتت الفلسفة اليونانية أقدامها في روما في القرن الثاني قبل الميلاد. وصار من المألوف أن ينظر الرومان إلى أثينا كمدينة جامعية، يجب إرسال أبناء الطبقة الأرستقراطية إليها لإتمام تعليمهم في مدارسها وعلي أيدي فلاسفتها. وهكذا بانتهاء الحقبة الجمهورية، غاب الإيمان الديني عن الطبقات العليا الى حد بعيد. وخلال القلاقل والحروب الأهلية، أهملت حتى الطقوس الخارجية وتهدم العديد من المعابد.ولم يكن - أبدًا - ثمة علاقة بين الديانة والسلوك، إلا عندما كان الإيمان بالآلهة، يستخدم لضمان تنفيذ الوعود بالقسم بها.
وقد حاول أوغسطس بكل طريقة أن يستعيد الديانة القديمة، فأعاد بناء ما لا يقل عن اثنين وثمانين معبدًا في روما، فوق أطلال المعابد القديمة. وقد حدثت نهضة دينية في ظل الإمبراطورية في العبادة الرسمية، وظل الناس يعتقدون في الخرافات حتى عندما تبنت الطبقات العليا فلسفة الشك، ولم تعد الديانة الرسمية للدولة تستهويهم، إذ أنها لم تقدم شيئًا للعواطف أو الآمال، ومن جهة أخرى، انجذبوا بشدة إلى السمة الغامضة السرية في العبادات الشرقية. وكان هذا السبب في انتشار الديانتين المصرية والسورية في كل الإمبراطورية، وكان لهما تأثيرهما البالغ في الحياة الأدبية للناس، ويمكن أن نعزو - جزئيًا - نجاح الديانة اليهودية والانتصار النهائي للمسيحية، إلى نفس الأسباب.
ويجب أن نذكر أن الدولة لم تفرض أي نظام لاهوتي، وأن الإمبراطورية في البداية، قدمت نوعًا من الخليط الديني، وبسطت حمايتها على كل العبادات القومية، وكان تعدد الآلهة في روما، يعني - بطبيعته - التسامح. والشكل الوحيد للديانة الذي لم تكن الدولة تتحمله، هو الشكل الذي يهاجم نظام تعدد الآلهة ككل، إذ كان ذلك يعرض سلامة المجتمع للخطر، ويحرم الآلهة من التقدمات والخدمات الأخرى التي يتوقعون - في مقابلها - الرعاية من الآلهة.
خامسا : روما واليهود:
(أ) منطقة اليهودية تحت الحكم الولاة الرومانيين: صارت اليهودية جزءًا من ولاية سورية في عام 63 ق. م. وظل هيركانس -أخو آخر ملوك المكابيين- رئيسًا للكهنة ، وأوكلت إليه المهام القضائية إلى جانب مهامه الكهنوتية، إلا أن أنطونيوس وأوكتافيوس جعلا من فلسطين (40 ق. م.) مملكة ومنحاها لهيرودس - المدعو بالكبير - رغم أنه لم يحكمها فعليًا إلا بعد ذلك بثلاث سنوات. وقد ضمن سيادته عليها، وجود فرقة من الجيش الروماني متمركزة في أورشليم. وكان عليه أن يدفع الجزية لحكومة روما، وتقديم المساعدات للجيش الروماني > وقد بنى هيرودس مدينة قيصرية تكريمًا لأوغسطس قيصر، وقد جعلها الولاة الرومان- فيما بعد - مقرًا للحكومة. وعند موت هيرودس في عام 4 ق. م. قسمت المملكة بين أبنائه الأحياء الثلاثة، وقد وقع القسم الأكبر في نصيب أرخيلاوس الذي حكم اليهودية والسامرة وأدومية تحت لقب "إثنارك" (Ethnarches) - أي "نائب ملك" - (انظر 2 كو 11: 32) حتى 6 م. حين عزل وانكمشت مملكته لتصبح مجرد ولاية. وظل الولاة الرومان يحكمونها إلى 41 م، حين تولى هيرودس أغريباس (حفيد هيرودس الكبير) الملك على البلاد -التي كانت ضمن مملكة جده- حتى عام 44 م. ثم في 53 م تولى عرش اليهودية أغريباس الثاني.
وبعد سقوط أورشليم وانتهاء الثورة الكبرى في 70 م.، ظلت فلسطين ولاية منفصلة، وأضيفت فرقة من الجيش إلى القوات العسكرية في البلاد، وكانت تعسكر عند أطلال أورشليم، وبالتالي أخذ الحكام الرومان لقب "براتوريون" (Praetorion) عوضًا عن لقب (procurator) "بروكيوراتور" الذي كان يطلق على الولاة من قبل (ويترجم كلاهما في العربية إلى "الوالي").
وقد تم تسجيل عدة معاهدات بين الرومان واليهود منذ عهد المكابيين، ومن المعروف أن اليهود وُجدوا في روما منذ 138 ق. م. ثم تزايدت أعدادهم في العاصمة بعد عودة "بومبي " الذي جلب معه الكثيرين من الأسرى. ويتحدث شيشرون عن جموع غفيرة من اليهود في روما في 58 ق. م. ويذكر أن قيصر كان متعاطفًا معهم. وباكتسابهم مودة أوغسطس، استردوا حق جمع الأموال لإرسالها إلى الهيكل في أورشليم. وقد قدم أغريباس مائة ثور في الهيكل عند زيارته لهيردوس، كما أمر أوغسطس بتقدمة يومية من ثور واحد وحملين، وبوجه عام، أبدت الإدارة الرومانية اهتمامًا ملحوظًا بديانة اليهود، فقد أعفاهم الرومان من الخدمة العسكرية، ومن المثول أمام المحاكم في يوم السبت. إلا أن طيبارويس قيصر ضيَّق على إجراء الطقوس اليهودية في روما في 19 م، كما طردهم كلوديوس من المدينة في 49 م (انظر أع 18: 2)، ولكن هذا لم يدم - في كلتا الحالتين - طويلًا.
(ب) اليهود الدخلاء: اشتهر اليهود في روما بمحاولة اكتساب دخلاء لليهودية، وتضم الكتابات الأدبية من عصر أوغسطس عدة إشارات إلى حفظ السبت. ولم يكن مطلوبًا - دائمًا - من الدخلاء من الأمم أن يحفظوا كل فرائض الناموس. ولعل قائد المئة في كفر ناحوم كان أحد أولئك الدخلاء (لو 7: 5). وكذلك كرنيليوس قائد المئة (أع 10: 1)، والإمبراطورة "بوبيا" (Poppaea).
ورغم انتشار اليهودية واكتسابها دخلاء، إلا أن اليهود أنفسهم عاشوا -في غالبيتهم- في عزلة تامة في أفقر أحياء المدينة أو ضواحيها في الجانب الآخر من نهر التيبر بالقرب من الملعب الكبير، أو خارج أبواب المدينة. ويتضح من النقوش أنه كانت هناك سبع جماعات، لكل منها مجمع خاص ومجلس من الشيوخ. وقد تم اكتشاف خمس جبانات، عليها العديد من النقوش اليونانية وبعض النقوش اللاتينية، ولكن ليس عليها نقوش عبرية.
سادسًا - روما والمسيحيون:
(أ) دخول المسيحية: لا يمكن تحديد متى دخلت المسيحية إلى روما على وجه التدقيق، فقد كانت هناك بالفعل جماعة مسيحية موجودة في روما عند وصول الرسول بولس إليها (أع 28: 15)، والتي أرسل إليها رسالته قبل بضع سنوات (في 58 م). ومن المعتقد -بعامة- أن ما جاء بخصوص طرد اليهود من روما في عهد كلوديوس قيصر، لما حدث بينهم من اضطرابات بسبب " كرستوس " (Chrestus) في نحو 49 م.، لدليل على انتشار المسيحية في روما على أساس أم أن كلمة " كرستوس" (Chrestus) إنما يقصد بها كلمة " كريستوس"((Christus أي " المسيح ". ويرجح البعض أن المسيحية قد دخلت عاصمة الامبراطورية على يد بعض الرومان الذين كانوا في أورشليم في يوم الخمسين وآمنوا واعتنقوا المسيحية (أع 2: 10، 41). ولا يسعنا هنا مناقشة أسباب الاعتقاد التقليدي بأن الرسول بطرس جاء إلى روما مرتين، مرة قبل سنة 50 م، ومرة أخرى بعد وصول الرسول بولس إليها. وأنهما معًا قد اسسًا الكنيسة هناك. وإنما يتركز حديثنا هنا على موقف الحكومة والمجتمع من نحو المسيحية بعد استقرارها في روما. ومن ثم يكفينا هنا أن نذكر القارئ بأن الرسول بولس كان مسموحًا له أن يبشر بحرية، بينما كان -اسميًا- في سجن (في 1: 13)، وأنه منذ 64 م. كان المسيحيون هناك كثيرين جدًا (كما يذكر المؤرخ الروماني تاسيتوس).
(ب) التسامح الديني والتحريم : لم تكن الدولة الرومانية - في بادئ الأمر - تفرق بين المسيحيين واليهود. فاستمتع المسيحيون مع اليهود بالتسامح بل والحماية التي أضيفت على "اليهودية" كديانة قومية لأحد الشعوب التي تضمها الامبراطورية، ولم تصبح المسيحية دينًا محرمًا قانونًا إلا بعد أن صار التمييز بينها وبين اليهودية واضحًا. وهناك سؤالان يسترعيان الانتباه: (1) متى تم التمييز بين المسيحية واليهودية؟ (2) ومتى أُعلن ان الاعتراف باعتناق المسيحية يعتبر جريمة ؟ إن هذين السؤالين لفى غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ الكنيسة في ظل الإمبراطورية الرومانية:
(1) لو قبلنا الفقرة التي اقتبسناها عن " سوتينوس " مع اعتبار أن " كرستوس " يقصد بها " المسيح "، لرأينا أنه في ذلك الوقت كان المسيحيون ممتزجين باليهود. كما أن قصة " بومبونيا جرايسينا" (Pomponia Graeccina) التي قدمها زوجها للقضاء لاعتناقها دينًا غريبًا (كما يذكر تاسيتوس)، كثيرًا ما تؤخذ دليلا على أنه في 57 م، كان للمسيحية أتباع من طبقة الحكام الارستقراطية. إن وصف التهمة بمعرفة السلطة المعاصرة - والتي نقل عنها تاسيتوس - لينطبق على اعتناق اليهودية أو أي ديانة أخرى من ديانات الشرق العديدة، من وجهة نظر الرومان في ذلك الوقت. حيث أن " بومبونيا " عاشت حياة التقشف الشديد منذ عام 44 م. ولما كانت هناك أدلة أخرى على أن " بومبونيا " كانت مسيحية، فإن الاتهام غير المحدد، والذي ذكره تاسيتوس، يعتبر دليلًا جزئيًا على أن المسيحية لم تكن قد عرفت بعد كدين متميز.
وفي وقت حريق روما في 64 م، كان الشعب يعرف المسيحيين، واتهمهم نيرون كجماعة، بحرق المدينة، مما يدل على أن عددهم كان قد أصبح كبيرًا في ذلك الوقت. كما أن الامبراطورة " بوبيا" (Poppaea) - التي يرجح أنها اعتنقت اليهودية - أنارت المحكمة الإمبراطورية بخصوص هرطقة المسيحيين وانفصالهم عن المجتمع.
(2) عند محاولة تحديد الزمن - بالتقريب - الذي أصبحت فيه المسيحية محرمة رسميًا من الحكومة الإمبراطورية، فمن الأيسر أن نتخذ -كنقط بداية- بعض التواريخ التي لا جدال فيها، والتي لا بُد أن يكون قرار التحريم قد صدر فيما بينها.ومن الواضح أنه في وقت الحريق الكبير (64 م) لم يكن اعتناق المسيحية معتبرًا أساسًا للتجريم، فقد كان الرسول بولس قد أطلق سراحه من السجن بقرار من المحكمة الإمبراطورية (2 تي 4: 17)، علاوة على أن التهمة التي وجهت إلى المسيحيين كانت التآمر لحرق المدينة، وليست لاعتناق دين محرم. وقد أدينوا -كما هو واضح- بسبب موقف عدائي من نحو الجنس البشري. وعندما كان " بليني " الصغير حاكمًا على بيثينية في 112 م، كتب للإمبراطور تراجان رسالة مشهورة، طالبًا منه النصح والارشاد في محاكمة العديدين الذين كانت تهمتهم هي اعتناق المسيحية، ومستفسرًا بصفة خاصة عما إذا كانت المسيحية في حد ذاتها تستحق اللوم، أم أنها الأخطاء التي تصاحب - دائمًا - اعتناق دين جديد. واجابة الامبراطور توضح تمامًا أن اعتناق المسيحية كان يعتبر في ذلك الوقت ذنبًا، كما تؤكد أنه كان هناك قانون قائم فعلًا ضدها. ويستتبع ذلك أن القانون الذي صدر ضد المسيحية والذي كان الأساس لاضطهادها، لا بُد أنه صدر بين حريق روما في 64 م، وحكم بليني على بيثينية في 112 م. ولا يمكن أن نحدد بدقة، زمن صدور هذا القرار التشريعي الهام ، بالرغم من وجود الدليل الذي يؤيد النظريات العديدة عن مختلف الاحتمالات، فينسب التقليد الكنسي إلى حكم " دوميتيان" اضطهادًا عامًا، مما يعني أن المسيحية كانت بالفعل دينًا محرمًا في ذلك الوقت. وهناك إشارات في سفر الرؤيا (رؤ 6: 9) إلى ذلك، مع ما ذكره أكليمندس في رسالته إلى الكورنثيين عما حدث في روما من مصائب، وإدانة " أخيلوس جلابريو" (Achillus Glabrio) - وهو رجل من مرتبة القناصل، مع ابن عم الإمبراطور، " فلافيوس كليمنس" (Flavius Clemens)، و"فلافيا دوميتليا" (Flavia Domittillia) وآخرين معهم بتهمة الإلحاد واعتناق عادات يهودية في 95 م،فكل هذه دليل على الاضطهاد.
إلا أن هناك أسسًا جديرة بالاعتبار في إرجاع نقطة انطلاق الاضطهاد إلى ما قبل عهد " دوميتيان "، فتشير رسالة الرسول بطرس التي كتبها من بابل -ولعل المقصود بها روما؟- إلى المسيحيين في أسيا الصغرى، إلى الاضطهاد الوشيك أن يقع بالمسيحيين (1 بط 4: 12 - 16). وكان هذا على الأرجح في السنوات الأخيرة من حكم نيرون. ويلاحظ أحد العلماء - وهو " ألارد" (Allard) - أن ذكر اضطهاد نيرون للمسيحيين - بغض النظر عن موضوع الحريق الكبير - في كتاب " سوتونيوس" (Suetonius) ، ووسط عدد من التشريعات، لهو دليل على صدور قانون عام، لا بُد قد ظهر في نفس زمن إقامة الدعاوي القضائية المرفوعة على أساس اتهام المسيحيين بالحريق العمد، أو بعد ذلك الزمن بقليل. وبوجه عام فإن النظرية التي تقول إن سياسة الحكومة الإمبراطورية قد تقررت -بالتحديد- في أثناء حكم نيرون، تحمل في ثناياها عوامل ترجيحها.
(ج) الاضطهاد: بالرغم من عدم معرفة نص القانون الأصلي، إلا أن المكاتبات بين بليني وتراجان، تمكننا من معرفة السياسة الإمبراطورية في معاملة المسيحيين خلال القرن الثاني الميلادي، فقد أصبح اعتناق المسيحية - في حد ذاته - موضع المؤاخذة ، إلا أن الحكام لم يقدموا الدعاوي القضائية بمبادرات منهم، بل كانوا يقيمون الدعوى بناء على تهم يقدمها مدّعون متطوعون ، ويطالبون قانونًا بإقامة الدليل على اتهاماتهم، كما كان يجب رفض المعلومات غير الرسمية أو التي يقدمها مجهولون. وكانت التوبة العلنية -بالارتداد عن المسيحية- تعفي المتهم من القصاص عما سلف. وكان السجود للآلهة وللإمبراطور أمام تماثيلهم، دليلا كافيا على التوبة، وإنكار المسيحية.
وكان موقف السلطات الإمبراطورية في القرن الثالث أقل تماسكًا، فبانتشار المسيحية، صارت المشكلة أكثر تعقيدًا، وأنصب الاضطهاد بصفة خاصة على الكنيسة كتنظيم، حيث اعتقدوا أنها تشكل قوة خطيرة. وفي 202 م أصدر " سبتميوس ساويروس" Septimius Severus مرسومًا يحرم -بصفة خاصة- اعتناق اليهودية أو المسيحية. وفي هذا المرسوم انحرف عن الأسلوب الذي رسمه تراجان، فمنح الحكام سلطة إقامة الدعوى المباشرة ضد المشتبه فيهم، وفي ذلك الوقت كوَّن المسيحيون جمعيات لدفن الموتى، وامتلاك مدافنهم، فحلت الملكية الجماعية محل الملكية الفردية. ويبدو أنهم في أيام حكم "ألكسندر ساويروس " اتخذوا أماكن عامة للعبادة علنًا في روما. ومن المعتقد أن " الإمبراطور فيليب" (244 - 249 م) كان مسيحيًا بقلبه. وقد مرت فترة من الهدوء النسبي تخللها اضطهاد "ديسيوس" (Decius - من 250 إلى 251 م) حينما اعتبرت عملية تقديم الذبائح دليلًا على عدم الانتماء للمسيحية .
أما تحت حكم فاليريان (257 م) فقد أعلن رسميًا عدم شرعية الهيئات المسيحية، وهدمت مدافن المسيحيين، إلا أن مرسومًا صدر في 260 م، أعاد تلك الممتلكات للمسيحيين (كما يذكر يوسابيوس).
وحدث اضطهاد قصير في عهد " أوريليوس" (274 م) متخللًا الفترة الطويلة من الهدوء، التي امتدت حتى صدور أول مرسوم للاضطهاد في عهد " دقلديانوس" (Diocletian - 24 فبراير 303 م). ويبدو أن المسيحيين كانوا قد اكتسبوا نوعًا من حق الوجود، حيث أن " دقلديانوس " - في البداية - لم يعتبرهم متهمين بجريمة كبرة تستوجب الموت، بل سعى إلى تحطيم تنظيماتهم بأن أمر بوقف اجتماعاتهم، وهدم كنائسهم، وإتلاف كتبهم المقدسة، وتجنب الناس لهم تحقيرًا لهم سياسيًا واجتماعيًا. ثم أمر - بعد ذلك - بالقبض على كل رجال الدين وقتلهم ما لم ينكروا الإيمان. وأخيرًا أمر جميع المسيحيين أن يقدموا الذبائح للآلهة. وهذا الاضطهاد الأخير - الذي استمر بطريقة غير منتظمة، وعلى درجات متفاوتة من الشدة والضراوة - انتهى بهزيمة " ماكسنتوس" (Maxentus) على يد قسطنطين (29 أكتوبر سنة 312 م). وقد قرر " مرسوم ميلان " الذي أصدره قسطنطين وليسينوس في السنة التالية (313 م) التسامح الديني، وأعاد للكنيسة أمرها وسلامها.
* انظر أيضًا: بابوات روما الكاثوليك، صور من مدينة روما، كتاب القديس العظيم مارمرقس الرسول بين كرسي الإسكندرية وكرسي روما لأمير نصر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/g6mwpd9