نرى الأخوة المسلمين في الخارج على الجانب الآخر يهتمون باللغة العربية، رغبة أو اضطرارًا، حيث أن اللغة العربية كُتِب بها القرآن الكريم، وعلى المرء أن يعرف كيف يقرأ القرآن بلغته المكتوب بها وليس مجرد ترجمة لمعانيه.
وفي تلك النقطة نلاحظ للأسف بعض مسيحيو المهجر أو حتى بعض مسيحيو مصر يظنون أن اللغة العربية تخص المسلمين والثقافة العربية ولا علاقة لنا بها! وهذا خطأ!
اللغة العربية هي مجرد لغة كُتِب بها القرآن، ولكنها ليست لغة من ابتداعه. وفي يوم حلول الروح القدس على التلاميذ المذكور في سفر أعمال الرسل، كان هناك في ذلك اليوم عرب موجودين، ضمن جنسيات أخرى، سمعوا التلاميذ يتكلَّمون بألسنتهم بعظائم الله (الأعمال 2: 11). فنحن في مرحلة من تاريخنا كنا نتحدث بالهيروغليفية، ثم قمنا بتحويلها من كتابة النقوش الرمزية الهيروغليفية إلى الكتابة بحروف يونانية للتسهيل (اللغة القبطية)، وبعد دخول العرب إلى مصر تغيرت اللغة الرسمية للبلاد إلى اللغة العربية. وموضوع التحول اللغوي language shift -الذي حدث في بلاد عديدة، مثل النمسا وكندا والصين وأثيوبيا وفرنسا وأيرلندا وتركيا وأمريكا- هذا لا يعني الثورة على اللغة بكل ما فيها، أو -بسذاجة- رفض اللغة بكل ما يحيط بها لدرجة أن يشمل الهوية القبطية الأرثوذكسية.
نفس الحال عندما نرى حتى بعض المسلمون يريدون احتكار كلمة "الله"، وقد قمنا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت بتفنيد هذا الأمر، وإثبات أنها ليست من ابتداع الإسلام.
وأيضًا من الخطأ الظن بأنه لمجرد ترجمة الكتاب المقدس للغات العالم وترجمة القداس إلى الإنجليزية، فإنه لا حاجة للغة العربية. فالذي يظن هذا قد نسى أن الكنيسة الأم قد نَمَت وأنتجت ثِمارها الجميلة لأكثر من 1300 عام باللغة العربية. وأن الشعب القبطي قد استمتع بكل النعم السمائية من قداس وعِظات غنية وتفسيرات مستقيمة وكتب قوية من آباء قديسين وألحان وطقس وعالم بأكمله بكل ثقافته ومرادِفاته ومعانيه قد تَشَكَّل وترعرع وهو في العربية. وأنت، لمجرد حِرمانك لأولادك من اللغة العربية، قد حرمتهم من التمتع بما تستمتع به أنت من زخم النعم التي تقدمها لك الكنيسة الأرثوذكسية القبطية. فمثلًا، أنت تستمتع باللحن القبطي -الذي هو ينتمي للحن الشرقي- في القداس ولكن أولادك الذين يتحدثون فقط اللغة الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية لا يستطيعوا الانسجام في هذا اللحن الشرقي لأن لغتهم الغربية لا تستخدم هذا اللحن ولا تستطيع الاندماج فيه دون الشعور بعدم التوافق...
← للتوضيح: هل جربت أن تسمع قداس باللغة الألمانية أو الإنجليزية يُصَلَّي باللحن الشرقي؟ في الغالِب سوف تشعر أن هناك شيء غير سليم.. وهذا طبيعي لأن طريقة الغناء الشرقي تختلف جدًا عن الغربي، ولا يوجد في اللحن الغربي أسلوب "الطرب" والهذيذ وغيره من أساليب للغناء والتعبير عن المشاعر التي ميزت اللحن الشرقي عن الغربي. فمثلًا، حين يصلي الكاهن أثناء القداس ويقول: "واهدنا يا رب إلى ملكوتك" أو "شعبك.. شعبك... شعبك.. وكنيستك يطلبون إليك وبك"، فهو يطيل اللحن أثناء أداؤه لهذه الصلاة حتى يركز الشعب في هذه الطلبة وكأن الكاهن يقوم بإلقاء الضوء علي كلمة "اهدنا" أو يضع ألف خط تحت طِلبة "ارحمنا". فاللحن الشرقي له فلسفته الخاصة والتي تستدرج انتباه المستمع عن طريق إطالة اللحن أو إطالة نُطْق الكلمات حتى يأخذ المستمع وقته في استيعابها و"تدخل" الكلمة إلى قلب وعقل المستمع وتغيره أو تؤثر عليه. ولذلك فإن كنيستنا القبطية استخدمت هذه الفلسفة الجميلة للحن الشرقي، وَشَكَّلَت كل ألحانها وتسابيحها وقداساتِها. ومع الأسف كل هذا الجمال يتأثَّر حين نفقد اللغة العربية، شرقية الطبع، ونقوم بمجرد ترجمة الكلمات إلى لغة أجنبية، فلا تجد اللغات الغربية مكان لها في اللحن الشرقي.
ينبغي كذلك مُلاحظة أنه ليس لكون المسيحية موجودة في كل أنحاء العالم، والغرب يشاركوننا -بشكل صوري- في الدين، هذا يعني أن ما يعيشه الغرب هي المسيحية التي نؤمن بها.. فمظاهر عيد الميلاد: الكريسماس Christmas (شجرة، هدايا، مأكولات)، أو كما يطلقون عليه Xmas لإضفاء معنى علماني غير مسيحي عليه. أو عيد القيامة والذي يُطْلَق عليه هذا الاسم الغريب والغير مسيحي: الإيستر Easter (بيض ملون وأرانب!). كل هذا قشور من أصل تم إهماله من قِبَل كثيرين. فالاعتماد على هذا للارتباط بالمسيحية هو وَهْم، وكذا الاعتماد فقط على كنيسة المهجر المبتدئة هو خطأ.. فالكنيسة ما زالت تَتَحَسَّسْ طريقها في المجتمع وترى كيف تتعامل مع الصعوبات الجديدة والضغوط النفسية وحرب المجتمع والإعلام والحريات المغلوطة وخلافه.. وينبغي الفهم الجيد لموضوع تأثير اللغة على الهوية، وارتباط الأبناء المسيحيون بالكنيسة القوية التي في مصر.
فبالرغم من التراجم التي تمت للكنائس الأرثوذكسية خارج مصر، فإن تشكيل الهوية الأرثوذكسية القبطية لا يعتمد فقط علي ترجمة الكتاب المقدس والقداس، حيث أن المصادر التعليمية (الوعظ والكتب التفسيرية والترانيم وغيرها) التي تُشَكِّل فهمك للفكر المسيحي الأرثوذكسي -المختلف جدًا عن الفكر الغربي الذي انحرف معظمه عن الفِكر المستقيم أو الفكر الأرثوذكسي- أو الأخلاق والفضائل المسيحية والثقافة القبطية، كلها تُصدَر باللغة العربية.
ولا يمكن علاج هذه المُعْضِلَة بتراجِم، لأن:
1. ترجمة كل أو حتى اليسير من كنوز الكنيسة الأم يحتاج إلى جيش من المترجمين المتمرسين وهذا غير متوافر علي الإطلاق،
2. لا يمكن مشاهدة عِظة لمدة ساعة عن طريق قراءة الترجمة (subtitles) لأن هذا غير عملي ويُفْقِد المشاهد التركيز،
3. الترجمة دائمًا تكون ظالِمة للمحتوَى أو الأصل العربي، وفي أغلب الأحيان تفشل تمامًا في نقل المعنى والروح والرسالة.
← وعلى سبيل التوضيح: نرى أنه حتى ما بعد محاولات الترجمة للتراث القبطي، قد تكون هناك صعوبات.. فهناك قصة حول شخص مصري في الولايات المتحدة الأمريكية كان يريد قراءة كتابًا مهمًا لأحد الآباء المشهورين في مصر، وكان الكتاب مُتَرْجَم بالفعل للغة الإنجليزية، ولكنه أُصيب بإحباط بعد البدء في القراءة لكون الترجمة ليست بالمستوى المطلوب، مما أساء لرسالة الكاتِب، ولم توصِل فكرته بصورة جيدة. وحُرِم القارئ من تِلك المعرفة بسبب قيود اللغة التي لم يُصِرّ أهله على تعلُّمها. وهذه الحادِثة المؤسفة تَتَكَرَّر مع الكثير ممن أرادوا فهم العقيدة الأرثوذكسية المصرية، وفشلوا بسبب عدم معرفتهم باللغة العربية.
← ولتوضيح مدى خطورة الحِرمان من المصادر العربية التي تشرح العقيدة والفِكر اللاهوتي للكنسية القبطية، فإن هناك واقعة حقيقية حدثت في أحد بلاد المهجر، حيث أن بعض الخدام وغيرهم من القائمين علي تعليم الإيمان والعقيدة داخل الكنيسة اضطرُّوا إلي اللجوء إلى كتب عن المسيحية باللغة الإنجليزية والتي أصدرتها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، ظَنًّا منهم أنها الأقرب إلى العقيدة الأرثوذكسية المصرية! و لكن للأسف، انتهى البحث في هذه الكتب الغريبة عن كنيستنا بتشتت ذِهنهم عن العقيدة المستقيمة، ولم يقدروا أن يُمَيِّزوا الأخطاء في هذه الكتب (التي يعتمد بعض الحديث منها على فكرة الحركات الآبائية المُحْدِثة Neo-Patristic Movements) بسبب عدم قدرتهم علي القراءة باللغة العربية، وبالتالي لم يستطيعوا أن يُقارِنوا بين ما هو مكتوب في هذه الكتب وبين كتب العقيدة واللاهوت التي تصدرها كنيستنا القبطية! والنتيجة الطبيعية لهذا الخطر الحقيقي هو نَشْر تعاليم خاطئة بين الشعب، لأن معلمي العقيدة لهذا الشعب لا يقرأون اللغة العربية، وبالتالي فقد حُرِمُوا من فَهْم العقيدة الأرثوذكسية من كتب الكنيسة القبطية، خاصة و أن أعظم الكتب عن العقيدة متوافرة باللغة العربية فقط، وإن وُجِدَ منها أي ترجمة، فهي ترجمة ضعيفة و غير مُجدِيَة! لذلك فإن التحدث والاستماع باللغة العربية غير كافي، وينبغي أيضاً قراءة اللغة العربية الفُصْحَى، حتى لا نَظْلِم وَنَحْرِم أولادنا من كافة المصادر الرائعة لكنيستنا عن الأيمان والتعليم المسيحي السليم.
لذلك نحن نريد أن لا ننخدع بفكرة أن الاهتمام بتعليم اللغة العربية ليست قضيتنا بل هي قضية غير المسيحيين الذين يَتَعَبَّدون باللغة العربية، ونحن لنا الحرية في اختيار أيَّة لغة للعِبادة. للأسف، هذا واقع غير مُتاح لنا لأن كنيستنا القوية -التي لا يوجد لها مثيل بين كنائس العالم والتي تقف ضد تيارات شَرِسة وَبِدَع وأفكار غريبة عن الفكر والإيمان الذي تسلمناه من ربنا يسوع المسيح والرسل والكنيسة الأولَى- ما زالت تستخدم اللغة العربية، ولا تزال كنائسنا خارج مصر تعتمد وتستند وترضع من هذه الكنيسة (الأم). إلى أن تصل كنائسنا خارج مصر إلى مرحلة من النمو الروحي والى أعماق الثقافة الأرثوذكسية القبطية بلغات أجنبية، فإننا في أشد الاحتياج للاستمرار في التمسك باللغة العربية حتى لا نَحْرِم أولادنا من هذه النِّعَم وهذا العالم الأرثوذكسي الجميل السمائي الذي لا يشابهه أي كنيسة غربية.
لا نَتَعرَّض هنا فقط لفكرة اللغة العربية والإنجليزية.. فإن كان هناك بعضًا من التراث القبطي تم ترجمته للإنجليزية -وهو غير كاف من ناحية المحتوى أو قد يكون بعضه غير مناسب من ناحية الدقة- فما هو الحال مع بلاد تتحدث لغات أخرى مثل فرنسا وألمانيا وكندا والسويد وإيطاليا، أو بلاد في آسيا وأفريقيا وغيرهم.. فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية أصبح لها -منذ منتصف القرن العشرون- تواجد في كل قارات العالم، في عشرات المدن، وبمئات الكنائس.. فما هو الحال في تلك البلاد التي لا يتحدث الجيل الجديد للأقباط فيها لا اللغة العربية ولا الإنجليزية، فتخيَّل كَمّ الحِرمان من التراث القبطي، والأهم من الفِكر والعقيدة الأرثوذكسية للكنيسة المصرية حبيس اللغة العربية، التي ظلَّت الكنيسة قرونًا تكتب به وتحافظ عليه وتنميه..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/ebooks/arabic-for-copts/islamic.html
تقصير الرابط:
tak.la/qtwta6k