8- تسديد الديْن الذي كان علينا
يقول القديس أثناسيوس الرسولي في معرض شرحه لأعمال السيد المسيح الخلاصية:
"فلقد كان الموت حتميًا، وكان لا بُد أن يتم الموت نيابة عن الجميع؛ لكي يوفي الدين المستحق على الجميع".[410]
واضح من آخِر عبارة في النص السابق أن الموت النيابي معناه: تسديد الدين المستحق على الجميع، كما شرح السيد المسيح في مثل العبد المديون.
"فَلَمَّا ٱبْتَدَأَ فِي ٱلْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشَرِ آلَافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَٱمْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَي ٱلدَّيْنُ. “فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلًا: يا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ ٱلْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ ٱلْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ ٱلدَّيْنَ" (مت 18: 24-27).
ويقول القديس بركلس:
"أصغوا إلى سبب مجيئه، وأعطوا المجد لقوة ذاك الذي تجسّد. كان الجنس البشري غارِقًا في الدين وغير قادر على سداد ما عليه؛ لأننا جميعًا بيد آدم وَقَّعنا على صك الخطيئة، والشيطان استعبدنا جميعًا، وظلَّ يعرض ديوننا، مُستخدمًا جسد معاناتنا كورقة (حجة) لديه. هناك وقف ذلك المُزَوِّر الشرير يهددنا بديوننا ويطالبنا بإرضائه. وعليه كان لا بُد من حدوث أحد أمرين: إما فَرْض حكم الموت على الجميع، "إذ الجميع أخطأوا"، أو أن يَتَوَفَّر البديل الذي يحق له الالتماس نيابة عنا. لا يوجد إنسان كان بإمكانه أن يخلصنا؛ لأنه حينها سيكون مسئولاً عن الدين أيضًا، ولا ملاك يستطيع أن يفدينا، لأن الفدية كانت تفوق قدراته، وبناء عليه فإن الوحيد الذي هو بلا خطيئة يجب أن يموت من أجل أولئك الذين أخطأوا. كان هذا هو الطريق الوحيد المتبقي لكسر قيود الشر"(410ب).
يقول القديس كيرلس الكبير:
"لأن بآلامه حَلَّت علينا بركات. وهو دفع ديوننا بدلًا عنا؛ وحمل خطايانا، وكما هو مكتوب "هو حمل خطايانا وجًلد عوضًا عنا" (إش 53: 6)[س] "وهو حمل خطايانا في جسده على الخشبة" (1بط 2: 24). حقًا إننا "بِحُبُرِهِ شُفِينَا " (إش53: 5) ".[411]
ونفس الحقيقة يشرحها أبونا الطوباوي مصباح الأرثوذكسية القديس أثناسيوس الرسولي:
"ولما كان من الواجب وَفَاء الدين المستحق على الجميع، إذ -كما بَيَّنَّا سابقًا- كان الجميع مستحقين الموت، فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا. وبعدما قدّم براهينًا كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع، لكي يبرّرهم ويحررهم من المعصية الأولى، ولكي يثبت أنه أقوى من الموت، مُظْهِرًا جسده الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع".[412]
لاحِظ هنا في سياق شرح القديس أثناسيوس أنه أكّد على حقيقة الموت النيابي عوضًا عن الجميع، وأن الدين الذي كان علينا هو الموت، وأن الرب أراد أن يحررنا من المعصية الأولى أي الخطية الأصلية أو الجدية.
فالسيد المسيح، بموته على الصليب، نيابة عن جنس البشر، قد وَفَّي العقوبة المقررة على الإنسان.
فقد حمل عنا العار واللعنة التي أصابت جنس البشر، بسبب الخطية، وكذلك حمل عنا عقوبة خطايانا، وحوّلها إلى خلاص، وذلك بقبوله الموت مصلوبًا على خشبة العار واللعنة، ليحولها إلى أعظم علامة فخر وبركة.
“اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ". (غل 3: 13).
"نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِٱلْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱللهِ" (عب 12: 2).
يقول القديس كيرلس الكبير:
"اليوم الثامن الذي فيه أتى المسيح ثانيةً إلى الحياة مُسَمِّرًا في صليبه الصَّك الذي كان علينا "إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ" (كو 2: 14)، ومات لأجل الجميع لكي يُبعدنا عن الموت والخطايا، ويخلصنا من العقاب والآلام".[413]
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفي رده على مَنْ ينكرون حقيقة تجسد كلمة الله قال القديس كيرلس الكبير:
“When they say that the Word of God did not become flesh, or rather did not undergo birth from a woman according to the flesh, they bankrupt the economy of salvation, for if he who was rich did not impoverish Himself, abasing Himself to our condition out of tender love, then we have not gained his riches but are still in our poverty, still enslaved by sin and death, because the Word becoming flesh is the undoing and the abolition of all that fell upon human nature as our curse and punishment. If they so pull up the root of our salvation, and dislodge the cornerstone of our hope, how will anything else be left standing? As I have said, if the Word has not become flesh then neither has the dominion of death been overthrown, and in no way has sin been abolished, and we are still held captive in the transgressions of the first man, Adam, deprived of any return to a better condition; a return which I would say has been gained by Christ the Savior of us all”[414]
"عندما يقولون إن كلمة الله لم يَصِر جسدًا، أو بالأحرى لم يُولد من امرأة حسب الجسد، فإنهم يُبطلون تدبير الخلاص، لأن لو كان الغني لم يُفقِرُ ذاته، واضعًا ذاته لحالتنا من محبته الكثيرة، إذًا نحن لم نكتسِب غِناه بل ما زِلنا في فقرنا، وما زِلنا مُسْتَعْبَدِينَ بالخطية والموت، لأن صيرورة الكلمة جسدًا هو حَل وإلغاء كل ما وقع على الطبيعة البشرية مثل لعنتنا وعقوبتنا. لو هم اقتلعوا جذر خلاصنا، حجر زاوية رجائنا، فكيف سيبقى أي شيء آخر قائمًا؟ كما قلت من قبل، لو أن الكلمة لم يَصِر جسدًا لا تكون سيادة الموت قد سقطت، ولا تكون الخطية قد أُبطلت بأي شكل من الأشكال، ونحن ما زِلنا أَسْرَى في تعديات الإنسان الأول، آدم، محرومين من أي عودة إلى حالة أفضل؛ الوعود التي أريد أن أقول أننا قد نلناها بواسطة المسيح مُخلّصنا جميعًا".[415]
وبذلك يكون القديس كيرلس الكبير قد شرح في ذلك أن اللعنة والموت الواقعان على الجنس البشري، هما عقوبة، وليسا مجرد نتيجة فقط.
لذلك فربنا يسوع المسيح هو المُخَلِّص الحقيقي والوحيد لجنس البشر الذي قيل عنه "وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلَاصُ. لِأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع 4: 12). لقد خلصنا الرب يسوع، بأن مات عنا، ولأجلنا؛ ومحا صك خطايانا، الذي كان ضدنا، ورفع عنا حكم الموت الذي وقع على جنسنا، بسبب خطية آدم، وبسبب خطايانا الشخصية الفعلية.
"وإذ كنتُم أمواتًا في الخطايا وغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أحياكُمْ معهُ، مُسامِحًا لكُمْ بجميعِ الخطايا، إذ مَحا الصَّكَّ الّذي علَينا في الفَرائضِ، الّذي كانَ ضِدًّا لنا، وقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الوَسَطِ مُسَمِّرًا إيّاهُ بالصَّليبِ، إذ جَرَّدَ الرّياساتِ والسَّلاطينَ أشهَرَهُمْ جِهارًا، ظافِرًا بهِمْ فيهِ" (كو 2: 13-15).
لهذا تسبح الكنيسة مخلصنا الصالح من أجل خلاصه العجيب الثمين الذي قدمه للبشرية على الصليب. "صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (1تي 1: 15).
لذلك بشّر الملاك الرعاة قائلًا لهم: "أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ." (لو 2: 11). واعترف أهل السامرية بأنه مخلص العالم. "وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ" (يو 4: 42).
ونحن المؤمنين أيضًا نعترف أنه مخلص جميع الناس: "لأَنَّنَا قَدْ أَلْقَيْنَا رَجَاءَنَا عَلَى اللهِ الْحَيِّ، الَّذِي هُوَ مُخَلِّصُ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا الْمُؤْمِنِينَ" (1تي 4: 10). فالسيد المسيح هو مخلصنا الصالح، لأنه سَدَّد دين البشر بموته.
عظيم هو شرح الآباء القديسين لحقيقة تحمُّل السيد المسيح العقوبة بدلنا، ونيابة عنا.
يقول القديس كيرلس الكبير:
"هم يقتادون رئيس الحياة إلى الموت، ومع ذلك، وهذا حدث لأجلنا، لأنه بقدرة الله وعنايته التي تعلو على الإدراك، آلامه قد أُعدت كفخ لاصطياد قوة الموت، وموت الرب صار مصدر تجديد الجنس البشري إلى عدم الفساد وجدة الحياة. وإذ حمل الصليب -الذي كان مُزمعًا أن يُصْلَب عليه- فإنه مضى إلى المصير المُحَدَّد له، ورغم أنه بريء، فقد احتمل حُكم الموت لأجلنا. فإنه احتمل في شخصه الحكم الذي حَكَمَ به الناموس ضد الخطاة. لأنه "صار لعنة لأجلنا" (غلا 3: 13) كما يقول الكتاب: "ملعون كل من عُلِّقَ على خشبة" (انظر تث 21: 23). لأننا جميعًا ملعونون لأننا لم نستطع أن نُتَمِّم ناموس الله. لأننا في أشياء كثيرة نَعْثُر جميعنا" (انظر يع 3: 2)، وطبيعة الإنسان قابلة للخطية بسهولة. وحيث إن الناموس يقول: "ملعون كل مَنْ لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (انظر غلا 3: 10؛ تث 27: 26)...
"إذًا، الذي حمله المسيح لم يكن بسبب ما يستحقه، بل كان هو على الصليب الذي ينتظرنا، والذي نستحقه (نحن) بسبب إدانتنا من الناموس. لأنه حُسبَ بين الأموات، ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا، لكي يكون لنا رئيسًا للحياة الأبدية بإخضاعه سلطان الموت لنفسه، هكذا أيضًا فإنه حمل على نفسه الصليب الذي نستحقه نحن، محتملًا دينونة الناموس على نفسه، لكي "يسد كل إثم فاه" كما يقول المرنم (انظر مز 107: 42)، إذ أن الذي بلا خطية قد احتمل الدينونة عن خطية الجميع".[416]
_____
[410] القديس أثناسيوس الرسولي. "تجسد الكلمة" (20/ 5) مرجع سابق، ص 62.
(410ب) القديس بركلس، القديس بركلس أسقف القسطنطينية، دراسة عن حياته وتعاليمه وترجمة العظات 1-5 عن العذراء، ترجمة: مينا عياد فوزي يسّي، مدرسة الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2022، العظة الأولي، ص 98.
[411] القديس كيرلس الكبير - تفسير إنجيل لوقا (العظة 153) مرجع سابق، ص 747.
[412] القديس أثناسيوس الرسولي. "تجسد الكلمة" (20/ 2) مرجع سابق، ص 61.
[413] القديس كيرلس الكبير - السجود والعبادة بالروح والحق، المقالة السابعة عشر: عن الأعياد المقدسة. مرجع سابق ص 691.
[414] St Cyril of Alexandria. (1995). On the Unity of Christ. (J. Behr, Ed., J. A. McGuckin, Trans.) (Vol. 13, pp. 59-60). Crestwood, NY: St Vladimir’s Seminary Press.
[415] القديس كيرلس الكبير- عن وحدة المسيح.
[416] شرح إنجيل يوحنا الإصحاح التاسع عشر، للقديس كيرلس الكبير، (يو19: 16-18). مرجع سابق، المجلد الثاني، ص 466-467.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/economy-of-salvation/paying-the-debt.html
تقصير الرابط:
tak.la/5pxmct2