(2) الكنيسة في أيام الآباء الرسل:
كان الآباء الرسل على رأس كنيسة مُكونة من جميع الذين آمنوا بالسيد المسيح. وقد بدأت نواة هذه الكنيسة يوم العنصرة حيث: "اعتَمَدوا، وانضَمَّ في ذلكَ اليومِ نَحوُ ثَلاثَةِ آلافِ نَفسٍ" (أع 41:2).
لقد قام الآباء الرسل بتعميد هؤلاء أجمعين بالماء والروح، مُفوضين من قِبَل ربنا يسوع المسيح من قبل موته وقيامته وصعوده.. كما هو واضح من الآيات التالية:
* "وبَعدَ هذا جاءَ يَسوعُ وتلاميذُهُ إلَى أرضِ اليَهوديَّةِ، ومَكَثَ معهُمْ هناكَ، وكانَ يُعَمدُ" (يو 22:3).
* "فجاءوا إلَى يوحَنا وقالوا لهُ: يا مُعَلمُ، هوذا الذي كانَ معكَ في عَبرِ الأُردُن، الذي أنتَ قد شَهِدتَ لهُ، هو يُعَمدُ، والجميعُ يأتونَ إليهِ" (يو 26:3).
* "فلَمّا عَلِمَ الرَّبُّ أنَّ الفَريسيينَ سمِعوا أنَّ يَسوعَ يُصَيرُ ويُعَمدُ تلاميذَ أكثَرَ مِنْ يوحَنا، مع أنَّ يَسوعَ نَفسَهُ لم يَكُنْ يُعَمِّدُ بل تلاميذُهُ" (يو 1:4-2).
واضح هنا أن السيد المسيح بدأ يُعمِّد بنفسه، ثم فوّض رُسله الأطهار أن يعمدوا باسمه - بعد أن عمدهم طبعًا.
وفى بداية الكنيسة الناشئة نَمَا عدد المؤمنين إلى 5000 نفس "وكثيرونَ مِنَ الذينَ سمِعوا الكلِمَةَ آمَنوا، وصارَ عَدَدُ الرجالِ نَحوَ خَمسَةِ آلافٍ" (أع 4:4).
واستمر الآباء الرسل يعلِّمون ويضمون إلى الكنيسة الذي يَخلُصون..
* "وبقوَّةٍ عظيمَةٍ كانَ الرُّسُلُ يؤَدّونَ الشَّهادَةَ بقيامَةِ الرَّب يَسوعَ، ونِعمَةٌ عظيمَةٌ كانَتْ علَى جميعِهِمْ" (أع 33:4).
* "وكانوا لا يَزالونَ كُلَّ يومٍ في الهيكلِ وفي البُيوتِ مُعَلمينَ ومُبَشرينَ بيَسوعَ المَسيحِ" (أع 42:5).
* "وكانَتْ كلِمَةُ اللهِ تنمو، وعَدَدُ التلاميذِ يتكاثَرُ جِدًّا في أورُشَليمَ، وجُمهورٌ كثيرٌ مِنَ الكهنةِ يُطيعونَ الإيمانَ" (أع 7:6).
وعندما ثار اضطهاد شديد على الكنيسة بعد استشهاد استفانوس، تشتت الجميع "وحَدَثَ في ذلكَ اليومِ اضطِهادٌ عظيمٌ علَى الكَنيسَةِ التي في أورُشَليمَ، فتشَتَّتَ الجميعُ في كوَرِ اليَهوديَّةِ والسّامِرَةِ، ما عَدَا الرُّسُلَ" (أع 1:8).
"ما عَدا الرُّسُلَ".. هنا تعنى أنهم استمروا في أورشليم ليقودوا الكنيسة، وتصير كنيسة أورشليم بذلك مركزًا ومرجعًا للكرازة، ولم يتركوها بالرغم من المخاطر التي حدثت بسبب اضطهاد اليهود للكنيسة الناشئة.
ثم امتدت الكنيسة إلى السامرة..
* "فالذينَ تشَتَّتوا جالوا مُبَشرينَ بالكلِمَةِ. فانحَدَرَ فيلُبُّسُ إلَى مدينةٍ مِنَ السّامِرَةِ وكانَ يَكرِزُ لهُمْ بالمَسيحِ. وكانَ الجُموعُ يُصغونَ بنَفسٍ واحِدَةٍ إلَى ما يقولُهُ فيلُبُّسُ عِندَ استِماعِهِمْ ونَظَرِهِمُ الآياتِ التي صَنَعَها" (أع 4:8-6).
* "ولكن لَمّا صَدَّقوا فيلُبُّسَ وهو يُبَشرُ بالأُمورِ المُختَصَّةِ بملكوتِ اللهِ وباسمِ يَسوعَ المَسيحِ، اعتَمَدوا رِجالًا ونِساءً" (أع 12:8).
امتد الإيمان إلى دمشق (أع 9)، ثم انتشر إلى الأمم أيضًا بإيمان كرنيليوس ومعموديته (راجع أع 10)، ثم إلى فينيقيَة وقُبرُس وأنطاكيَة (أع 19:11-25) وسائر أنحاء العالم.
في تلك الفترة كان يعمل الآباء الرسل مع الإخوة والكهنة (راجع أع 1:15-6، 22-23)، وكان الإيمان ينتشر من مكان لمكان بواسطة المؤمنين العاديين، ولكن كانت الكنيسة تمتد تحت إشراف ومتابعة الآباء الرسل..
* فمثلًا في السامرة: قيل: "ولَمّا سمِعَ الرُّسُلُ الذينَ في أورُشَليمَ أنَّ السّامِرَةَ قد قَبِلَتْ كلِمَةَ اللهِ، أرسَلوا إليهِمْ بُطرُسَ ويوحَنا" (أع 14:8).
إن ذهاب بطرس ويوحنا إلى السامرة، أعطى للكنيسة هناك الصفة الرسولية القانونية.. فلم يكن الأمر متروكًا لأي إنسان أن يُؤسس أي كنيسة بأي نوعية من الإيمان، بل كان هناك دائمًا المَرجِع الرسولي المُعتَمد.
وفي قصة اهتداء شاول للمسيحية، كان لا بد له أن يذهب إلى الكنيسة التي في دمشق، ليعرف المسيح معرفة حقيقية، وليقبل المعمودية المُقدَّسة، بالرغم من أن السيد المسيح ظهر له شخصيًا وتكلَّم معه فمًا لفم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.. "وفي ذَهابِهِ حَدَثَ أنَّهُ اقتَرَبَ إلَى دِمَشقَ فبَغتَةً أبرَقَ حَوْلهُ نورٌ مِنَ السماءِ، فسَقَطَ علَى الأرضِ وسمِعَ صوتًا قائلًا لهُ: "شاوُلُ، شاوُلُ! لماذا تضطَهِدُني؟". فقالَ: "مَنْ أنتَ يا سيدُ؟". فقالَ الرَّبُّ: "أنا يَسوعُ الذي أنتَ تضطَهِدُهُ. صَعبٌ علَيكَ أنْ ترفُسَ مَناخِسَ". فقاَلَ وهو مُرتَعِدٌ ومُتَحَيرٌ: "يا رَبُّ، ماذا تُريدُ أنْ أفعَلَ؟". فقالَ لهُ الرَّبُّ: "قُمْ وادخُلِ المدينةَ فيُقالَ لكَ ماذا يَنبَغي أنْ تفعَلَ" (أع 3:9-6).
لقد حل الروح القدس يوم الخمسين في شكل نار وهبوب ريح عاصف وتكلُم بألسنة، وهذا حدث مرة واحدة.. إذ صار الروح القدس حالًا في الكنيسة تمنحه بسلطان من السيد المسيح، مثلما نفخ الله مرة واحدة في آدم نسمة حياة، وظلت هذه النفخة تنتقل من آدم إلى حواء، إلى كل الأجيال، دون احتياج أن ينفخ الله مرة أخرى في أي أو كل إنسان يُولد على الأرض.
* وفي قيصرية: كان موضوع إيمان كرنيليوس ودخول الأمم إلى المسيحية، يحتاج مراجعة الكنيسة الأم في أورشليم.. "فسَمِعَ الرُّسُلُ والإخوَةُ الذينَ كانوا في اليَهوديَّةِ أنَّ الأُمَمَ أيضًا قَبِلوا كلِمَةَ اللهِ. ولَمّا صَعِدَ بُطرُسُ إلَى أورُشَليمَ، خاصَمَهُ الذينَ مِنْ أهلِ الخِتانِ، قائلينَ: "إنَّكَ دَخَلتَ إلَى رِجالٍ ذَوي غُلفَةٍ وأكلتَ معهُمْ". فابتَدأَ بُطرُسُ يَشرَحُ لهُمْ بالتَّتابُعِ قائلًا: ... فإنْ كانَ اللهُ قد أعطاهُمُ المَوْهِبَةَ كما لنا أيضًا بالسَّويَّةِ مؤمِنينَ بالرَّب يَسوعَ المَسيحِ، فمَنْ أنا؟ أقادِرٌ أنْ أمنَعَ اللهَ؟". فلَمّا سمِعوا ذلكَ سكَتوا، وكانوا يُمَجدونَ اللهَ قائلينَ: "إذًا أعطَى اللهُ الأُمَمَ أيضًا التَّوْبَةَ للحياةِ!" (أع 1:11-18).
* وفي أنطاكية: احتاج الأمر أن ترسل الكنيسة برنابا، لمراجعة إيمان هذه الكنيسة الناشئة "... ولكن كانَ مِنهُمْ قَوْمٌ، وهُم رِجالٌ قُبرُسيّونَ وقَيرَوانيّونَ، الذينَ لَمّا دَخَلوا أنطاكيَةَ كانوا يُخاطِبونَ اليونانيينَ مُبَشرينَ بالرَّب يَسوعَ. وكانَتْ يَدُ الرَّب معهُمْ، فآمَنَ عَدَدٌ كثيرٌ ورَجَعوا إلَى الرَّب. فسُمعَ الخَبَرُ عنهُمْ في آذانِ الكَنيسَةِ التي في أورُشَليمَ، فأرسَلوا بَرنابا لكَيْ يَجتازَ إلَى أنطاكيَةَ. الذي لَمّا أتى ورأَى نِعمَةَ اللهِ فرِحَ، ووَعَظَ الجميعَ أنْ يَثبُتوا في الرَّب بعَزمِ القَلبِ، لأنَّهُ كانَ رَجُلًا صالِحًا ومُمتَلِئًا مِنَ الرّوحِ القُدُسِ والإيمانِ. فانضَمَّ إلَى الرَّب جَمعٌ غَفيرٌ..." (أع 22:11-26).
وعندما قرّر الروح القدس أن يُعيِّن برنابا وشاول للرسولية، أمر الكنيسة أن تُتمم هذا الأمر تثبيتًا لفكرة سلطان الكنيسة في منح موهبة الكهنوت والعمل الرعوي.. "وبَينَما هُم يَخدِمونَ الرَّبَّ ويَصومونَ، قالَ الرّوحُ القُدُسُ: "أفرِزوا لي بَرنابا وشاوُلَ للعَمَلِ الذي دَعَوْتُهُما إليهِ". فصاموا حينَئذٍ وصَلّوا ووَضَعوا علَيهِما الأياديَ، ثُمَّ أطلَقوهُما" (أع 2:13-3).
واستمرت الكنيسة في أورشليم تُمثل المدينة الأم والكنيسة الرئيسية، والمَرجِع اللاهوتي لكل الكرازة في العالم، ولذلك عُقد بها أول مَجمَع مسيحي مسكوني لمناقشة مسألة التهود(1) (راجع أع 15).. "وانحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ اليَهوديَّةِ، وجَعَلوا يُعَلمونَ الإخوَةَ أنَّهُ: "إنْ لم تختَتِنوا حَسَبَ عادَةِ موسَى، لا يُمكِنُكُمْ أنْ تخلُصوا". فلَمّا حَصَلَ لبولُسَ وبَرنابا مُنازَعَةٌ ومُباحَثَةٌ ليستْ بقَليلَةٍ معهُمْ، رَتَّبوا أنْ يَصعَدَ بولُسُ وبَرنابا وأُناسٌ آخَرونَ مِنهُمْ إلَى الرُّسُلِ والمَشايخِ إلَى أورُشَليمَ مِنْ أجلِ هذِهِ المَسألَةِ" (أع 1:15-2).
وقد نوقشت هذه القضية في مَجمَع أورشليم مناقشة مستفيضة، وأُخذت الآراء، وتكلَّم كل واحد بملء حريته.. "فاجتَمَعَ الرُّسُلُ والمَشايخُ ليَنظُروا في هذا الأمرِ. فبَعدَ ما حَصَلَتْ مُباحَثَةٌ كثيرَةٌ قامَ بُطرُسُ وقالَ لهُمْ: "أيُّها الرجالُ الإخوَةُ، أنتُمْ تعلَمونَ أنَّهُ منذُ أيّامٍ قَديمَةٍ اختارَ اللهُ بَينَنا أنَّهُ بفَمي يَسمَعُ الأُمَمُ كلِمَةَ الإنجيلِ ويؤمِنونَ... فسَكَتَ الجُمهورُ كُلُّهُ. وكانوا يَسمَعونَ بَرنابا وبولُسَ يُحَدثانِ بجميعِ ما صَنَعَ اللهُ مِنَ الآياتِ والعَجائبِ في الأُمَمِ بواسِطَتِهِمْ. وبَعدَما سكَتا أجابَ يعقوبُ قائلًا: "أيُّها الرجالُ الإخوَةُ، اسمَعوني... لذلكَ أنا أرَى أنْ لا يُثَقَّلَ علَى الرّاجِعينَ إلَى اللهِ مِنَ الأُمَمِ، بل يُرسَلْ إليهِمْ أنْ يَمتَنِعوا عن نَجاساتِ الأصنامِ، والزنا، والمَخنوقِ، والدَّمِ" (أع 6:15-20).
ثم انتهى الاجتماع بقرار اتفق عليه الجميع، وتلتزم به كل الكنائس المحلية.. "حينَئذٍ رأَى الرُّسُلُ والمَشايِخُ مع كُل الكَنيسَةِ أنْ يَختاروا رَجُلَينِ مِنهُمْ، فيُرسِلوهُما إلَى أنطاكيَةَ مع بولُسَ وبَرنابا: يَهوذا المُلَقَّبَ بَرسابا، وسيلا، رَجُلَينِ مُتَقَدمَينِ في الإخوَةِ. وكتَبوا بأيديهِمْ هكذا: "الرُّسُلُ والمَشايخُ والإخوَةُ يُهدونَ سلامًا إلَى الإخوَةِ الذينَ مِنَ الأُمَمِ في أنطاكيَةَ وسوريَّةَ وكيليكيَّةَ... رأينا وقد صِرنا بنَفسٍ واحِدَةٍ أنْ نَختارَ رَجُلَينِ ونُرسِلهُما إلَيكُمْ مع حَبيبَينا بَرنابا وبولُسَ، رَجُلَينِ قد بَذَلا نَفسَيهِما لأجلِ اسمِ رَبنا يَسوعَ المَسيحِ. فقد أرسَلنا يَهوذا وسيلا، وهُما يُخبِرانِكُمْ بنَفسِ الأُمورِ شِفاهًا. لأنَّهُ قد رأَى الرّوحُ القُدُسُ ونَحنُ، أنْ لا نَضَعَ علَيكُمْ ثِقلًا أكثَرَ، غَيرَ هذِهِ الأشياءِ الواجِبَةِ: أنْ تمتَنِعوا عَمّا ذُبِحَ للأصنامِ، وعَنِ الدَّمِ، والمَخنوقِ، والزنا، التي إنْ حَفِظتُمْ أنفُسَكُمْ مِنها فنِعِمّا تفعَلونَ. كونوا مُعافَينَ" (أع 22:15-29).
واضح في هذا القرار المَجمَعي سلطة الكنيسة - مُمثلة في الآباء الرسل - في اتخاذ القرار، الأمر الذي لا يمكن أن يكون لشخص بمفرده بعيدًا عن الإجماع الكنسي. كما يتضح أيضًا طريقة الحوار والشركة والرأي، والرأى الآخر، وكيفية اتخاذ القرار بقيادة القادة الكنسيين.
لم يُترك الأمر للآراء والاجتهادات الفردية، ولم يُسمح إلاَّ بأن يكون القرار جماعيًا دون غياب دور القيادة الكنسية، حتى لا يكون نظام الكنيسة خاضعًا لأمزجة الناس واستحسانهم.
ولقد التزم الجميع بتنفيذ هذا القرار حتى المُعارضون، احترامًا للرأي الرسولي. وهذا ما يُحقق ويضمن وحدانية الفكر في الكنيسة.
وبالإجمال فإن الكنيسة المسيحية في عصر الرسل كانت هي الجماعة المُقدَّسة الملتحمة والملتفة حول الرسل، كآباء ومؤسسين وأعمدة وأساسات ومراجع للمحافظة على الإيمان الحق والتعليم السليم.
حقًا قيل عن المؤمنين الحقيقيين إنهم "مَبنيينَ علَى أساسِ الرُّسُلِ والأنبياءِ، ويَسوعُ المَسيحُ نَفسُهُ حَجَرُ الزّاويَةِ" (أف 20:2).
وقيل عن الآباء الرسل إنهم أساسات المدينة السمائية أورشليم الجديدة النازلة من عند الله.. "وسورُ المدينةِ كانَ لهُ اثنا عشَرَ أساسًا، وعلَيها أسماءُ رُسُلِ الخَروفِ الاِثنَيْ عشَرَ" (رؤ 14:21).
_____
(1) التهود هو إلزام الوثنيين الذين يرغبون في دخول المسيحية أن يعتنقوا اليهودية أولًا، ويلتزموا بالناموس والختان والتطهيرات اليهودية، وقد تبنى هذا الرأي اليهود المتنصرون المتشددون سكان اليهودية، بينما عارضه الوثنيون المتنصرون واليهود المتفتحون.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/apostolic-succession/church.html
تقصير الرابط:
tak.la/p95xanj