في وقت الشدة والحزن المرير، أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: "صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة" (لو22: 40).
وكما أوصاهم هكذا فعل، مقدّمًا نفسه مثالًا لكل إنسان، ونائبًا عن البشرية في أوجاعها وأحزانها التي استحقتها لسبب الخطية..
في اتضاع عجيب جثا السيد المسيح على ركبتيه وصلى، بكل الانسحاق، وبنفس منسكبة، وفي ضراعة عميقة، وصراخ من القلب.. "وإذ كان في جهادٍ كان يصلي بأشد لجاجةٍ. وصار عرقه كقطرات دمٍ نازلةٍ على الأرض" (لو22: 44).
هذه الصلاة الحارة العميقة قد اجتذبت انتباه السمائيين "وظهر له ملاك من السماء يقويه" (لو22: 43). ربما كان الملاك يردد ذلك النغم الخالد (لك القوة والمجد والبركة والعزة).. أو كان يردد تسبحة الثلاثة التقديسات (قدوس الله قدوس القوى قدوس الحي الذي لا يموت).. أو ليعلن إعجاب السمائيين بذلك الحب العجيب الذي احتمل الأحزان لأنه "إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى" (يو13: 1)..
في كل الأحوال فإن ظهور الملاك قد أكد مشاركة الجند السمائيين في وقت التجربة والحزن والألم.
وقد وصف معلمنا بولس الرسول تلك الصلوات الحارة والمنسحقة التي قدمها السيد المسيح أثناء آلامه وأحزانه فقال: "الذي في أيام جسده إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت. وسُمع له من أجل تقواه. مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي" (عب5: 7-9).
كل ما قيل عن تضرعات السيد المسيح أمام الآب في وقت الآلام والأحزان، ينبغي أن ننظر إليه في ضوء أن الابن الوحيد قد أخلى ذاته آخذًا صورة عبد (انظر فى2: 7). ولكنه مع هذا بقى هو هو نفسه كلمة الله القادر على كل شيء. ولكن من حيث إنه قد تجسد، وصار نائبًا عن البشرية "إذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب" (فى2: 8).
ولذلك يقول: "مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به" (عب5: 8). أي أنه مع كونه ابن الله الذي له نفس جوهر الآب وقدراته وإرادته، فإنه كنائب عن البشرية قد أظهر الطاعة في قبوله للآلام والأحزان، مُرضيًا لقلب الآب السماوي.
وهو في صلاته وتضرعه، كان يطلب من أجل خلاص البشرية من براثن الموت وقبضته. وقد أقامه الآب من الأموات، بنفس القدرة الإلهية التي أقام بها هو نفسه، والتي أقامه بها الروح القدس. لأن قدرة الثالوث هي قدرة إلهية واحدة. ولكنه مع كونه ابنًا قد تضرع إلى الآب من أجل القيامة من الأموات لأنه في هذا قد ناب عن البشرية في استرضاء قلب الآب السماوي، وفي إيفاء العدل الإلهي حقه بالكامل.
يقول الكتاب "وسُمع له من أجل تقواه" (عب5: 7). فلم يكن الأمر تنازلًا عن حق العدل الإلهي الذي لا يمكن أن يتغير.. بل بالفعل أوفى الإنسان يسوع المسيح حق العدل الإلهي، واستجاب الآب لما طلبه ابن الإنسان البار القدوس الذي بلا خطية، حينما قدّم نفسه ذبيحة إثم إذ حمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين.
هذا الذي أخلى ذاته في الجسد على الأرض من مجده الإلهي المنظور، حينما قَبِلَ أن يوجد في صورة عبد ولم يحسب مساواته لله اختلاسًا بل صار في شبه الناس (انظر فى2: 6). "وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب" (فى2: 8).
يتكلّم معلمنا بولس الرسول عن مجد اتضاعه فيقول: "ولكن الذي وضع قليلًا عن الملائكة، يسوع نراه مكللًا بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت. لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد" (عب2: 9).
إن المحبة تتألق حينما تتألم.. وهي تبرهن على نفسها حين تبذل وتعطي..
مجد المحبة هي أن تحب. كما أن مجد الينبوع هو أن يروي ويسقي ويغسل.. فمبارك هو ذاك الذي أخلى ذاته من المجد بالتجسد.. وبذل ذاته متجسدًا بالصليب..
وهكذا "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا، ويدخل إلى مجده" (لو24: 26). "لذلك رفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فى2: 9-11).
وردت هذه النبوة عن السيد المسيح في سفر إشعياء (انظر إش53: 10) لتوضيح أن ذبيحة الصليب هي لخلاص الأثمة والخطاة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأنه يقول أيضًا "بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها" (إش53: 11).
اتحد اللاهوت بالناسوت في السيد المسيح اتحادًا تامًا كاملًا منذ اللحظة الأولى للتجسد الإلهي. وهذا الإتحاد هو الذي عبّر عنه القديس كيرلس الكبير بعبارة [طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة μία φύσις του Θεού Λόγου σεσαρκωμένη] .
وبسبب هذا الاتحاد الذي يفوق العقل والإدراك، صار لذبيحة الصليب فاعلية غير محدودة في خلاص الخطاة. لأن الآب وضع عليه خطايا كثيرين ليبررهم. "أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم.. يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها.. هو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين" (إش53: 10-12).
هذا الفداء العجيب الذي دبّره الآب السماوي، في وحدة المشيئة مع الابن والروح القدس، قد اشترك فيه الأقانيم الثلاث. فالآب بذل ابنه الوحيد، والابن بذل ذاته، والروح القدس لم يكن غريبًا عن الكلمة حينما كان معلقًا على الصليب "المسيح الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب" (عب9: 14).
لو كانت ذبيحة الصليب هي ذبيحة إنسانية مجردة، لما كان لها القدرة أن تكفر عن خطايا كثيرين -أي ما لا يعد من الملايين- ولما كان لها القدرة أن تسحق الشيطان وتحطم سلطانه وقوته. ولكن لأن الناسوت هو ناسوت كلمة الله، ولأن هذا الناسوت كان متحدًا باللاهوت بلا انفصال، فقد أمكن أن تكون هذه الذبيحة هي ذبيحة إلهية مخلّصة ومانحة للحياة. لهذا قال السيد المسيح: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يو11: 25).
فكل ما فعله ابن الله المتجسد من أجل خلاصنا، فقد فعله بأقنومه المتجسد الواحد والذي لم يفترق إلى طبيعتين من بعد الاتحاد.
لكل هذه الأسباب، أرسل الله ابنه الوحيد المولود من الآب قبل الدهور، ليتجسد من العذراء مريم في ملء الزمان، وليحرر البشر من الخطية ومن الموت الأبدي، وليعلن حب الله غير المحدود.. حب الله الأبدي غير الموصوف.
لماذا سر الآب بأن يسحق الابن المتجسد بالحزن؟
كانت مسرة قلب الآب أن يصالح العالم لنفسه في المسيح. هذه المسرة ملؤها التضحية ودافعها المحبة.
لم يكن الخصام بين الله والإنسان شيئًا يسر قلب الله. ولم يكن ممكنًا أن تتم المصالحة بدون سفك دم، وبدون كفارة حقيقية تستعلن فيها قداسة الله كرافض للشر والخطية في حياة الإنسان.
وفي كل ذلك احتمل السيد المسيح في طاعة كاملة لأبيه السماوي، وفي اتضاع عجيب؛ احتمل كل الأحزان التي تفوق الوصف. وقال بفم إشعياء النبي: "السيد الرب فتح لي أذنًا، وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهري للضاربين وخدّيَّ للناتِفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (إش50: 5، 6).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/garden.html
تقصير الرابط:
tak.la/zmavv84