1- الغنوصية ونظرية الطبائع (Gnostic Theory of Natures)
في (كتاب المبادئ 2: 9: 5) يتحدث أوريجانوس عن مقاومة الغنوصيين، ماركيون وفالنتينوس وباسيليدس، الذين اعتقدوا بأن النفوس خُلقت غير متساوية بل من طبائع مختلفة. كما يزعم هؤلاء الهراطقة بأن ”الكائنات الأرضية بعضها ينال مصيرًا أكثر غبطة لدى مولده... “. هذه النظرية الغنوصية عن الطبائع يمكن أن نفهم خلفياتها من خلال القديس إيريناؤس في كتابه ”ضد الهرطقات“. فبحسب المنظومة العقائدية لفالنتينوس الغنوصي، هناك:
”ثلاث أنواع من البشر: روحيين، ماديين، وحيوانيين.. هذه الطبائع الثلاث.. تشكّل ثلاث أنواع من البشر. المادية (somatic) تمضي طبعًا إلى الهلاك، والطبيعة الحيوانية (psychic) إذا اجتازت الجزء الأفضل ستجد راحة في المكان المتوسط، أما إذا اختارت الأردأ فهي أيضًا تمضي إلى الهلاك. ولكن هم يؤكدون أن المبادئ الروحية (pneumatics) التي زرعت بواسطة الأكاموث إذ أنها انتظمت وتغذت هنا من ذلك الوقت حتى الآن في النفوس البارة.. وأخيرًا ببلوغها الكمال، فإنها ستُعطى كعرائس لملائكة المخلص“.[8]
هذه النظرية الغنوصية عن الطبائع تعلم أن البشر يولودون بطبيعة من ثلاث طبائع، وبناء على ذلك يتحدد قدرة الشخص على الإيمان ومعرفة الله وبالتالي الخلاص. الحيوانيون أو النفسانيون فقط يبدو أن لهم حرية إرادة، وقد يستحقون الخلاص إذا اختاروا أن يعيشوا حسنًا. لكن بقية الناس، الخلاص يتحدد بطبيعة الشخص، والأعمال هنا ليس لها محل من الإعراب.
فيما بعد يقول القديس إيريناؤس إن الغنوصيين يحاولون إثبات نظريات الطبائع الثلاث من نصوص الكتاب المقدس، ويوظفون كلام المسيح عن المرأة التي خبأت الخميرة في ثلاثة أكيال دقيق، واعتبروا هذا إشارة إلى ”ثلاثة أنواع من البشر: الروحي، والحيواني، والمادي“. ويذكرون أن زكا العشار مثلاً ينتمي للنوع الروحي؛ بفضل التصاقه الفوري بالمخلص. أمّا الحيوانيون فيترددون في اتباع المخلص وهم يشبهون مَن قال للمسيح: ”ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي“ (لو 9: 59). لكن بحسب رأي الغنوصيين، فإن أصحاب الطبيعة الروحانية يذهبون على الفور للمناداة بملكوت السموات (انظر لو 9: 60).[9]
القديس إكليمندس السكندري أيضًا في كتابه ”المتفرقات“ في سياق حديثه عن الإيمان يتكلم عن باسيليدس، وهو غنوصي آخر، إذ يقول:
”يعتبر أتباع باسليدس الإيمان أمرًا يخضع للطبيعة، كما يعزونه للاختيار“[10]. ثم يقول بهذه الطريقة لا يصبح الإيمان ”نتيجة مباشرة للاختيار الحر إذا كان ميزة طبيعية“، وبالتالي أي شخص لا يؤمن لا يستحق الجزاء الواجب ”لكونه ليس سببًا (في عدم إيمانه)“، والعكس صحيح لأن الذي يؤمن لا يكون سببًا في إيمانه أيضًا.[11] كما يتحدث القديس إكليمندس عن أتباع باسليدس ”الذين لم يعيشوا حياة مستقيمة، زاعمين أن لديهم الحق في أن يخطئوا بفضل كمالهم، أو أنهم سيخلصون على أية حال بحكم طبيعتهم، حتى إذا أخطأوا، بسبب الاختيار المتأصل فيهم“.[12] يبدو أن أتباع باسليدس عندما ضمنوا الخلاص، أدى ذلك إلى نوع من الاستباحة وترك الجهاد، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويتعارض مع كلام الكتاب المقدس عن مواصلة السعي والجهاد ضد الشهوات.
يسهب القديس إكليمندس في شرح النظرية الغنوصية المغلوطة عن الطبائع ليقول إن مسألة الإيمان أو عدمه لن ”تندرج تحت أي من المدح أو اللوم لأنها ضرورة طبيعية“. ويقول: ”إذا جُذبنا مثل الأشياء غير الحية بسلاسل قوى طبيعية، فإن الاستعداد وعدم الاستعداد والحافز، التي هي أمور سابقة، ستكون مجرد زوائد“.[13] ثم يعلق القديس إكليمندس بأنه لا يعجز عن تصور حيوان يتحرك لأسباب خارجية تحت سيادة الضرورة، ويضيف ”أي مكان سيكون بعد لتوبة ذاك الذي كان ذات مرة غير مؤمن؟“[14]
سنجد أيضًا القديس إيريناؤس في كتابه ضد الهرطقات يعترض على هذه النظرية ومبينًا تبعاتها السلبية، فيقول: ”لو أن البعض خلقوا أشرارًا بالطبيعة وآخرون خلقوا صالحين، فإن هؤلاء الأَخرين لن يكونوا مستحقين للمديح لكونهم صالحين، لأنهم خلقوا هكذا، ولا الأولون مستحقون للتوبيخ، لأنهم هكذا خلقوا (اصلاً). ولكن حيث أن جميع البشر هم من نفس الطبيعة، وقادرون أن يمسكوا بالحق وأن يعملوه- فالبعض بعدل ينالون المديح... أما الآخرون فيلامون وينالون دينونة عادلة، بسبب رفضهم لكل ما هو صالح وجميل“.[15]
لكن أيريناؤس بفكره اللامع يقول إنه لو كان الأمر بخلاف ذلك فإننا سنجد الإنسان الصالح ليس شاكرًا لله، بل لن يحسب الشركة مع الله ثمينة، لأنه غير قادر أن يكون ”أي شيء آخر سوى ما خُلق عليه“، ولن يرى هذا الإنسان أن ”الصلاح شيء ثمين يستحق السعي إليه“، لأن الصلاح سيأتي إليه دون أي محاولة منه. فالصلاح الذي يأتي تلقائيًا بالطبيعة ليس له قيمة على الإطلاق. وإذا امتلك الإنسان ”الصلاح تلقائيًا وليس بالاختيار.. فلن يدرك حقيقة أن الخير جميل، ولن يجد فيه أي متعة“. [16] لذلك فإننا ندرك حكمة الله في إعطائنا حرية الاختيار، وأنه قصد بذلك أن نقدر قيمة الصلاح والجمال ونشعر بقيمة الخير.
ثم يقتبس إيريناؤس حث بولس لنا بأن نركض في الميدان، ”لكي نكلل ونحسب الإكليل ثمينًا، أي ذاك الذي نربحه بجهادنا، ولكنه لا يطوق رؤوسنا من تلقاء نفسه. وكلما جاهدنا أصعب، كان غاليًا أكثر.. في الحقيقة إن تلك الأشياء التي تأتي تلقائيًا لا ننظر إليها بتقدير عالٍ مثل التي نصل إليها بعناية واهتمام كبيرين“.[17]
يبدو أن أوريجانوس فهم كل كلام سابقيه، لذا نجده يقاوم هذه النظرية في تفسيره على إنجيل متى، تعقيبًا على مَثل الشبكة المطروحة في البحر قائلاً: ”لأن أسباب وجود سمك جيد وسمك رديء لا يكمن في نفوس السمك... لأن ليست الطبيعة التي فينا هي علة الشر، بل الاختيار الواعي هو الذي يسبب الشر. وهكذا طبيعتنا ليست هي عِلة البر، كما لو كانت عاجزة عن اقتراف الإثم.“[18]
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
في موضع آخر من كتاب ”المبادئ“ يفند أوريجانوس مدرسة فالنتينوس الغنوصية بأنهم يقولون إن الشجرة الصالحة ليس في وسعها أن تثمر ثمرًا رديًا (انظر مت 7: 18)، فإذا سألتهم كيف أخطأ بولس واضطهد كنيسة الله، وكيف أخطأ بطرس وأنكر المسيح؟ قالوا ”إن أحدهم -لا علم عند أحد به سوى الله- كان في بولس، وبأنه ليس بطرس هو مَن أنكر وإنما آخر هو الذي أنكر فيه“.[19] لكن أوريجانوس ببلاغة وإيجاز يجيب على هذا بأنه إن صح هذا الكلام، فلماذا قال بولس أنه اضطهد كنيسة الله، ولماذا بكى بطرس تائبًا؟!
ثم يؤكد أوريجانوس موقفه المسيحي من نظرية الطبائع بقوله: ”بالنسبة إلينا لا أحد يستطيع الخير دون الشر في كل خليقة عاقلة... فلا طبيعة إذن عاجزة عن تقبل الخير أو الشر، ما خلا طبيعة الله“.[20]
الشيء الخطير في نظرية الطبائع الغنوصية أنها تقول بإن الله لم يخلق الجميع في حالة من المساواة. بل كما رأينا هناك مَن هم سيخلصون بالضرورة ومَن سيهلكون بالضرورة. من المفارقة أن عقيدة سبق التعيين المزدوج double predestination التي اشتهر بها الكالفينيون اعتمدت على نفس هذا المبدأ. يقول كالفن بوضوح شديد: ”لم يخلق (الله) الجميع في حالة من المساواة؛ بل عيَّن البعض سابقًا للحياة الأبدية، والبعض الآخر للدينونة الابدية“.[21] وبالتالي نستطيع أن نحصل على قراءة غير كالفينية لـ(رومية 9) من خلال قراءة غير غنوصية لـ(رومية 9)، وتحديدًا بحسب أوريجانوس وآباء الكنيسة[22] الذين فسروا نص (رومية 9).
_____
[8] إيريناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب الأول، فصل 7، صفحة 40- 41.
[9] إيريناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب الأول، فصل 8.
[10] إكليمندس، المتفرقات، الكتاب الثاني، فصل 3.
[11] المرجع السابق.
[12] Clement of Alexandria, Stromateis, Books 1-3, trans. John Ferguson, Combined edition (Washington, D.C.: The Catholic University of America Press, 2005), 257.
[13] المرجع السابق.
[14] المرجع السابق.
[15] إيريناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب 4: 37: 2.
[16] نفس المرجع السابق 4: 37: 6.
[17] نفس المرجع السابق 4: 37: 7.
[18] Anti-Nicene Fathers, vol 9, p. 418- 419.
[19] أوريجانوس، المبادئ 1: 8: 2.
[20] أوريجانوس، المبادئ 1: 8: 3.
[21] Institutes 3: 21: 5.
[22] تجدر الإشارة إلى أن الدراسة التي أقدمها لم تتعرض لفكر القديس أغسطينوس أو تفاسيره على نص رومية 9. بشكل عام يعتبر فكر القديس أغسطينوس المبكر متوافقًا مع التيار العام للفكر الآبائي الذي يؤكد على حرية الإرادة الإنسانية، وتعيين الله المبني على علمه السابق. لكن في سياق مقاومة أغسطينوس للمانوية وبحسب بعض الدارسين انحرف إلى فكر قريب من الكالفينية، وهذا كما يتضح في رسائله إلى سمبلشيانوس. يحتاج هذا الأمر إلى دراسة منفصلة، وترجمة للنصوص الأولية لأغسطينوس، وهذا ما لم يتوفر للباحث أن يقوم به حتى الآن.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/origen-free-will/gnosticism.html
تقصير الرابط:
tak.la/8m934nn