3- الأبوكتاستاسيس وحرية الإرادة
تُنسب لأوريجانوس فكرة الأبوكتاستاسيس Apocatastasis أو استعادة الجميع وخلاصهم في النهاية بما في ذلك الشيطان نفسه. لكنه في كتاب ”المبادئ“ يبدو أوريجانوس متشككًا؛ إذ يقول: ”هل.. في مستطاع في بعض تلك المراتب، التي تنهج تحت سلطان إبليس وتذعن لمكره، العودة إلى الصلاح في الدهور المستقبلة، لأن فيها المقدرة على الاختيار الحر؟ أم أن المكر الدائم والراسخ... قد ينقلب إلى طبيعة فيها، على نحو ما، باعتيادها عليه؟“[30] يكمن تشكك أوريجانوس في خلاص الشياطين أو الأشرار إلى تمتعهم بحرية الإرادة. فضلاً عن ذلك يرى أن التعود على الخبث والمكر يتحول في هذا الكائن الذي يتمتع بحرية الإرادة إلى طبيعة راسخة فيه بسبب الاعتياد.[31] وهذا أمر في غاية الخطورة، لأنه يوحي بأننا عندما نعتاد على الشر تضعف الإرادة إلى الدرجة التي تجعل الخطية جزءًا من طبيعتنا إن جاز التعبير. فالاعتياد يحوّل الشر فينا إلى طبيعة! العادة تتحول إلى طبيعة ثانية [32] .second nature
يُلاحظ أن لغة أوريجانوس هي لغة التساؤل، وكأنه متردد في مسألة الأبوكتاستاسيس. لكن هذه العقيدة من عيوبها أنها تصف حالة من التذبذب في الحياة الأخرى، فحتى العذابات التي سيخوضها الأشرار ستتفاوت من حيث شدتها ومدتها ”ما دام في مستطاع كل كائن، بسبب قدرته على الاختيار الحر، أن يحرز تقدمًا أو يبوء بالفشل“.[33] بل أن هذا التذبذب ليس في حالة العذاب فقط بل في حالة المجد أيضًا. فيقول:
”وإذا ما حدث قط أن الشبع استحوذ على أحد هؤلاء الذين استقرت بهم الحال في درك أسمى من الكمال، لا أحسبني أنه يفرغ منه فيهوى على الفور، بل يجب أن ينحدر شيئًا فشيئًا وقطاعًا فقطاعًا، فيحتمل أنه في حال سقطة عارضة، يندم ويؤوب إلى نفسه. وعليه من انهيار تام، إنما في وسعه النكوص على أعقابه، والرجوع إلى حالته الأولى معيدًا ما أفلت منه عن طيش إلى نصابه“.[34]
لكن قوله بهذا التذبذب في حالة البشر في الأبدية يعود في المقام الأول لدفاعه عن حرية الإرادة. غير أن حرية الإرادة تبقى بمثابة شوكة في حلق عقيدة الأبوكتاستاسيس؛ لأنه كيف سيخلص الجميع إذا ”أراد“ البعض أن لا يخلُص! وبناء على ذلك، على الأرجح تكون فكرة الابوكتاستاسيس عند أوريجانوس على سبيل الترجي، كما يرى بعض الدارسين، وليس على سبيل اليقين، خصوصًا وأنه في بداية الفصل السادس في ”المبادئ“ يقول إنه يتحدث عن الأخرويات ”في رعدة وحذر، على سبيل الجدال والتمحيص أكثر منه على سبيل التأكيدات الثابتة والمحددة.. مسألة تمرن على قدر المستطاع عندنا، في الجدال أكثر منه في التحديد“.[35]
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفي بداية الفصل الأول في محتوى قاعدة الإيمان يؤكد أن النفس تنال ”مصيرًا يناسب ما تستحقه، عندما تبرح هذا العالم. فإمّا تحصل على ميراث الحياة الابدية والسعادة لو استحقت لها أفعالها ذلك، وإمّا تلقى في النار الأبدية والعذابات لو سارت بها إليها الخطايا التي اقترفتها برذائلها“.[36] كما يظهر في كتابات أخرى لأوريجانوس الفكرة التقليدية عن الدينونة الأبدية كما في العظات على إرميا، إذ يقول صراحة:
”طالما نحن في هذه الحياة، نعتبر إناء من الفخار الخام، إمّا أن نكون مصنوعين من الرذيلة أو الفضيلة.. لكن حينما نعبر الزمن الحاضر ونصل إلى الحياة الأخرى، سوف نجوز في النار، سواء نار سهام الشرير المشتعلة أو في النار الإلهية بما أن إلهنا نار آكلة، وفي كلتا الحالتين سواء كنا أشرارًا أو صالحين، فإن بعد كسرنا لن يمكن إعادة تشكيلنا ولن نكون قابلين للإصلاح. هكذا طالما نحن في هذه الحياة، كأنما في يد الفخاري: إذا وقع الإناء من يديه، يمكنه أن يعالجه ويصلحه. فلنتب نحن عن خطايانا.. لأنه بعد خروجنا من العالم لن نتمكن لن نتمكن من الاعتراف بخطايانا وتقديم توبة“.[37]
وإننا نجد في تفسير رومية عبارة في منتهي الخطورة، في سياق شرحه لذلة وسقوط إسرائيل، إذ يقول إن إسرائيل ذلوا ولم يسقطوا (تمامًا)، ويقول إن هذا السقوط يختلف عن السقوط الذي تحدث عنه المسيح بشأن إبليس (انظر لو 10: 18). ويبرر ذلك بأن سقوط إسرائيل له توبة في ملء الزمن بعد ملء الأمم (رو 11: 12)، ولكن سقوط إبليس ليس له توبة. ”لكن بالنسبة للذي قيل عنه أنه سقط من السماء، لن تكون له أية توبة في نهاية الزمن“.[38]
يعتمد أنصار الأبوكتاستاسيس على فكرة أن صبر الله ليس له حدود، لكن أوريجانوس في تفسيره لرومية له رأي مختلف. فهو يعلق على آية ”لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلًا“ (تك 15: 16)، ويقول ”لذلك فإن الله يتحمل الجميع بصبر وينتظر عودة كل أحد. لكن هذا لا ينبغي أن يجعلنا غافلين أو مبطئين في التوبة، لأنه يوجد قدر محدود لصبره وتحمله“.[39]
في تفسير متأخر لأوريجانوس، هو تفسير يوحنا، نجده مترددًا بشأن فترة العقوبة التي سيقضيها الشخص في جهنم، كعقوبة تأديبية، في سياق تعليقه على مَثل عرس ابن الملك، ويسأل أوريجانوس هل سيظل الشخص مقيدًا في الظلمة الخارجية دائمًا أم أنه سيُحرر بعد فترة. وينتهي أوريجانوس بأن المسار الأكثر أمانًا ألا نعطي رأيًا في هذه المسألة طالما لم يرد بشأنها شيء في النص الكتابي.[40]
بناءً على ما سبق يتأكد كلام اللاهوتي هنري كروزيل أن أوريجانوس هو ”لاهوتي الإرادة الحرة بلا منازع“.[41] فهو في دفاعه عن حرية الإرادة يفند نظرية الطبائع الغنوصية، والعوالم المتعاقبة. أمّا في حالة إذا سلمنا بأنه آمن بفكرة الأبوكتاستاسيس، ولم يتراجع عنها في أواخر حياته، فهو مع ذلك يتمسك بحرية الإرادة حتى آخر لحظة، إذ ينادي بأن النفوس ستقضي وقتًا أطول أو أقصر، في تعذيبات أشد أو أخف، لأنها لا تزال تحتفظ بحرية الإرادة! وإن كنا لا نؤمن بهذه الحالة من التذبذب في الحياة الأخرى بحسب إيمان كنيستنا الأرثوذكسية، وفي ظل رفضنا لعقيدة المطهر، لا يمكننا أن نعتبر رأي أوريجانوس هنا مُجمعًا عليه آبائيًا.
غير أن بعض الدارسين يرون أن أوريجانوس قد تراجع عن فكرة الأبوكتاستاسيس، ومنهم اللاهوتي الأرثوذكسي جون مكاجن الذي ذكر أن أوريجانوس قد تراجع عن الفكرة واعتبرها فكرة حمقاء، وذلك في خطاب له أرسله لأصدقائه في الإسكندرية.[42] لكن القديس أغسطينوس في كتابه ”مدينة الله“ يؤكد أن العذابات التطهورية هي فكرة أفلاطونية، ويؤكد أن العذاب بعد الموت ليس للتطهير.[43] كما يقول القديس أغسطينوس أن هذا التعليم أنزل بأوريجانوس حرمًا كنسيًا عادلاً، وهذا ما حدث في مجمع القسطنطينية عام 553م، وقد أطلق أغسطينوس على هذه الفكرة ”وهم الرأفة السمحاء“.[44]
_____
[30] المبادئ 1: 6: 3.
[31] نفس المرجع السابق.
[32] يشير القديس يوحنا ذهبي الفم إلى عمل كل من الإرادة والطبيعة، ويقول إن الإرادة تغلب الطبيعة أحيانًا، كما في حالة أبينا إبراهيم والفتية الثلاثة، لكنه يشير إلى مَثل يوناني يقول ”الإرادة مع الطبيعة طبيعة ثانية“. (راجع تقاريظ القديس بولس، المكتبة البولسية، الخطبة 6: 6، ص 101).
[33] نفس المرجع السابق.
[34] المبادئ 1: 3: 8.
[35] المبادئ 1: 6: 1. للمزيد عن مشكلات عقيدة الأبوكتاستاسيس يمكنك الرجوع إلى دراسة قمت بها بعنوان ”دراسة عن الأبوكتاستاسيس: قمة الرجاء المسيحي أم وهم الرأفة السمحاء؟“ في نهاية كتاب ”عن النفس والقيامة“ للقديس غريغوريوس النيسي، إصدار دار نشر رسالتنا.
[36] المبادئ مقدمة 5.
[37] أوريجانوس، العظات على إرميا، عظة 18. يؤكد يوحنا ذهبي الفم على نفس المعنى في مقاله ”رسالة إلى ثيؤدور بعد سقوطه“ إذ يقول: "إذا رحلنا إلى العالم الآخر فلن تنفعنا أعمق توبة، حتى ولو صررنا على أسناننا وقرعنا صدورنا ونطقنا بكل عبارات الاستغاثة" ، وأيضًا يقول: "إن الرجاء لا يتبدد إلا في الهاوية، حيث يصير العلاج عديم الفائدة. أما هنا فمتى استخدمناه، ولو كنا مسنين (كبار في السن)، فإنه يجلب لنا قوة عظيمة" (ستعود بقوة أعظم، ص15).
[38] أوريجانوس، تفسير رومية 8: 9: 4.
[39] أوريجانوس، تفسير رومية 2: 3: 2.
[40] Ronald E. Heine, Origen: Scholarship in the Service of the Church (Oxford University Press, 2010), 244.
[41] H. Crouzel, Origen: The Life and Thought of the First Great Theologian, tr. A.S. Worrall (T.&T. Clark Ltd. 1989), p. 195.
[42] John McGucking, The Westminster Handbook to Origen, p. 15.
[43] أغسطينوس، مدينة الله 21: 2.
[44] أغسطينوس، مدينة الله 21: 17.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/origen-free-will/apocatastasis.html
تقصير الرابط:
tak.la/qhfb6v9