إن المصريون هم أول مَنْ قسموا الزمن لترتيب أعمالهم، وقد بدأوا حسابهم بكل بزوغ شمس، وسمّوا هذه الوحدة "يومًا"، ثم أخذوا من كل سبعة أيام وحدة سمّوها "أسبوعًا"، فلما صعب عليهم العدد لكثرة الأسابيع جعلوا حسابهم على الشهر الهلالي، ورأوا أن كل اثني عشر شهرًا تجمع بين طرفيّ فيضانين على وجه التقريب، فسمّوا المدة المُكَوِّنة لها "سنة". وكان ذلك قبل عصر التاريخ، أي منذ أكثر من سبعة آلاف عامًا. فلما تولّى الزعامة العلاّمة "توت"، وكان راسِخًا في علم الفلك، واسِع الإدراك في عِلم الحساب، رأى أن السنة الهلالية تنقص أحد عشر يومًا بين كل فيضان وآخر، فبحث عن طريقة قويمة يضبط بها حساب السنة لتكون توقعاتهم الزراعية دقيقة، لا تختلف في عام عن الأخر. فاهتدى إلى أن الشعري اليمانية Sirius أنور النجوم الثابتة تشرق وتغرب مقارنة بالشمس من بدء زمن الفيضان النيلي، وهو الذي تتوقف عليه زراعة المصريين وثروتهم. وهم إنما يعدون الأيام ويحسبون الشهور ليعرفوا متى يكون وقت الحصاد فيجنون ثِمار أتعابهم، ومتى يكون ميعاد الزراعة السنوية فيحرثون الأرض ويستحضرون البذور. فجعل "توت" هذا الزمن بدء سنتهم، وقد حفظوا له هذا الجميل فسموّا باسمه أول شهر من شهور السنة التي تتألَّف من اثني عشر شهرًا، كل منها ثلاثون يومًا، يُضاف إليها خمسة أيام تُدعى "الشهر الصغير"، وقد سُمِّيَت أخيرًا بأيام "النسيء". ولما كان حسابهم ينقص في كل عام يومًا وربع لأن السنة الشمسية تتألَّف من 356 يومًا وربع يوم تقريبًا، أهملوا هذا الربع حتى إذا تكوَّن منه سنة كاملة حذفوها من تاريخهم.
فهذا الحِساب الدقيق يدل دلالة واضحة على ما كان لهم من العِلم التام بعِلم الفَلَك.
قال هيرودوت أبو التاريخ القديم: "أما ما يتعلق بأمور البشر، فالجميع على اتفاق فيه، وهو أن المصريين هم أول مَنْ بدعوا حِساب السنة، بما كان لهم من واسع الاطلاع في عِلم النجوم". وحقًا، لقد بقيت قواعدهم يُرجَع إليها حتى الجيل السادس عشر، حين قام كوبرنيكوس Copernicus وجاليليو Galileo وغيرهما، فألبسوا العِلم حُلَّتهُ الجديدة، ولم ينسوا فضل المصريين في وضع الروابط الأصلية. أما سنتهم فلم يأت المتأخرون بأضبط منها، حتى أن علمائهم لم يهملوا الكلام على الفرق السنوي الصغير، وهو 0,0077832 من اليوم.
لم يتخذ المصريون حادِثة كبيرة يجعلونها مبدأ لحِساب سنتهم، بل كان كل ملك يتخذ لنفسه تاريخًا من بدء توليته، فَيُقال السنة الخامسة للملك توت، والسنة العاشرة للملك رمسيس.. وهكذا..
وظلوا كذلك حتى الجيل الثالث بعد المسيح، حين قاموا مستقتلين في سبيل المُطالبة بالحرية الدينية، وكان دقلديانوس الإمبراطور الروماني Diocletian يبذلك جهده في اضطهاد المسيحيين، آمِلًا أن يمحوا آثار هذا الدين، ولكن المصريين هان عليهم أن يبذلوا الدماء والأرواح رخيصة، ويتحملوا من العذابات أشدها وأقساها في سبيل نصرة الدين، وكان آخر مَنْ استشهد منهم القديس بطرس بطريرك الإسكندرية المُسَمَّى "خاتم الشهداء". ولما كانت هذه الحوادِث جديرة أن يذكرها الأقباط ليعلموا أن حريتهم الدينية لم يشتروها رخيصًا، بل بنفوس بريئة أُزْهِقَت، ودماء زكية أُريقَت، اتخذوها نقطة لتاريخ سموه "تاريخ الشهداء"، وكانت تستعمله الحكومة المصرية حتى عام 1591 م. للشهداء، إذ صدر أمر عالي بإدخال التقويم الميلادي في حساب الحكومة، والآن لا يُسْتَعمَل هذا التاريخ إلا عند الأقباط والزراعيين فقط.
أما الاحتفال برأس السنة المصرية، فكان يبلغ ذروة العظمة والأبهة، يفوق ما يقوم به الشعب المسيحي الآن. كان الأمير والحقير والغني والفقير يتقدمهم الملك يحتفلون به احتفالًا دينيًّا، لأن الكهنة كانت تؤلِّه العلَّامة توت مُبدِع هذا التقسيم، وتؤلِّه النيل مورد الثروة المصرية، حيث فيه ماء حياتهم.
وقد بنى بطليموس الثالث عشر Ptolemy XIII لهذا الغرض هيكلًا كبيرًا قائمًا، يشهد شهادة صحيحة بلا مُحاباة على ما كان للقوم من الاحتفاء بهذا العيد، فكانت تُقام الصلوات في إحدى الخلوات، وتُجمع الذبائح والقرابين في أخرى، وتُخزَّن الأشياء الثمينة في ثالثة.
أما الاحتفال فكان يؤلَّف من موكب يرأسه الملك، ووراءه ثلاثة عشر كاهنًا يحملون أعلامًا عليها علامات آلهة المصريين، ومتى انتظم الموكِب يصعدون من السلم الشمالي إلى أن يدخلوا الهيكل، وبعد أداء المراسم الدينية ينزلون من السلم الجنوبي، فهذا الهيكل العظيم الذي شيَّدهُ البطالمة والرومان يتكلم بأفصح لِسان عما كان لملوك المصريين من الاعتناء بهذا العيد، وعظمة الاحتفال به. وكان يجتمع في هذا الاحتفال نحو سبمعمائة ألف نسمة من الرجال والنساء غير الأطفال، وكان وُلاة العرب في مصر يشاركون المصريين في هذا العيد.. وحدث في أيام الملك برقوق Barquq أن السفلة والرعاع كانت تلعب دورها في هذا العيد إلى درجة قصوى، فأفسدوا بهجة الاحتفال به من كثرة ما كان يحدث من تجاوزات أخلافية وسرقات وتخويف الشعب، فأبطل الملك الاحتفال به.
لكن الأقباط قاموا بإحياء العيد من عهد أن بزغت شمس الحرية الدينية في أفق الديار المصرية، فتقيم الكنائس الاحتفالات بذِكرى الشهداء الأطهار مع بداية أول يوم من أيام السنة القبطية..
وقد اتخذ الأقباط بداية التاريخ القبطي من بداية حكم الملك الجاحد الشرس دقلديانوس، الذي كان يقتل المسيحيين في كل ربوع القطر المصري دون رحمة أو رأفة سنة 284 م.
هنا وننظر إلى آباءنا الشهداء الذين تمسكوا بالإيمان وضحّوا بحياتهم ودمائهم دون تفريط، ونتعلَّم منهم أن نكون أمناء على ما تسلَّمناه ونسلمه لمن بعدنا، لكي نكون خير أحفاد لخير آباء وأجداد، ونقول "أم الشهداء جميلة، أم الشرفاء نبيلة، عبرت بحل الآلامات، حفظت بِدِماها الحق قويم".
المقال بصيغة أخرى:
جولة في تاريخ عيد النيروز
2020/10/12
من المعلوم عند الجميع ان عيد النيروز"رأس السنة القبطية" هو عيد مصري أصيل، وهو يرتبط بالتقويم المصري القديم، حيث نعلم جميعًا فضل اباءنا القدماء على العالم اجمع من حيث حضارتهم وعلمهم وتفوقهم الطبي في الحفظ والتحنيط، فكل يوم ينتج اكتشافات اثرية جديدة تثبت جدارة أجدادنا المصريين القدماء، ولعل اخرها ما ظهر في طالعة هذا الشهر في سقارة من مقبرة تحتوي على 59 صندوقًا مقفولًا من مومياوات محنطة ومحفوظة بكاملها والوانها الفريدة.
- هكذا تمكنهم من مراقبة الأجرام والنجوم وثوابت واجرام سائرة باختلاف انواعها في الأيام التي كان الانسان على فطرته الأولى من البساطة والجهل لا يعلم غير ما كان من مرأى عينيه أو سمع من اذنيه.
- وفي هذه السطور القليلة نخطها معتمدين على ما كتبه المؤرخون والكتَّاب المتخصصين في هذا الصدد.:
- ان المصريين اول من قسموا الزمن لترتيب اعمالهم، وقد بدأوا حسابهم بكل بزوغ شمس، وسموا هذه الوحدة يومًا - هنا نتكلم عن اليوم الفعلى المتعارف عليه، وليس على كلمة يوم المذكورة في طالعة سفر التكوين – ثم اخذوا من كل سبعة أيام وحدة سموها أسبوعًا، فلما صعب عليهم العدد لكثرة الأسابيع جعلوا حسابهم على الشهر الهلالي، ورأوا ان كل اثني عشر شهرًا تجمع بين طرفي فيضانين على وجه التقريب، فسموا المدة المكونة لها "سنة"، وكان ذلك قبل عصر التاريخ اي منذ اكثر من سبعة آلاف سنة، فلما تولى الزعامة العلامة توت وكان راسخًا في علم الفلك واسع الإدراك في علم الحساب رأى ان السنة الهلالية تنقص أحد عشر يومًا بين كل فيضان وآخر فبحث عن طريقة قويمه يضبط بها حسابات السنة لتكون توقيتاتهم الزراعية دقيقة لا تختلف في عام عن آخر فأهتدى إلى ان الشعري اليمانية أنور النجوم الثابتة تشرق وتغرب مقارنة للشمس في بدء زمن الفيضان النيلي وهو الذي تتوقف عليه زراعة المصريين وثروتهم وهم انما يعدون الأيام ويحسبون الشهور ليعرفوا متى يكون وقت الحصاد فيجنون ثمار أتعابهم ومتى يكون ميعاد الزراعة السنوية فيحرثون الأرض ويستحضرون البذور، فجعل توت هذا الزمن بدء سنتهم، وقد حفظوا له هذا الجميل فسموا بإسمه أول شهر من شهور السنة التي تتألف من اثني عشر شهرًا كل منها ثلاثةن يومًا ويضاف اليها خمسة أيام تدعى بالشهر الصغير، وقد سميت في العصر المتأخر بأيام النسئ.
- ولما كان حسابهم ينقص في كل عام يومًا وربع يوم لأن السنة الشمسية تتألف من 365 يوماُ وربع يوم تقريبًا، اهملوا هذا الربع حتى إذ تكون منه سنة كاملة حذفوها من تاريخهم.
- فهذا الحساب الدقيق يدل دلالة واضحة على ما كام لهم من العلم التام بعلم الفلك.
- قال هيروديت أبو التاريخ القديم [اما ما يتعلق بأمور البشر فالجميع على اتفاق فيه وهو ان المصريين هم اول من ابدعوا حساب السنة بما كان لهم من واسع الإطلاع على النجوم. وحقًا لقد بقيت قواعدهم يرجع إليها حتى الجيل السادس عشر حين قام اكوبرينكوس وجاليليو وغيرهما فألبسوا العلم حلته الجديدة ولم ينسوا فضل المصريين في وضع الروابط الأصيلة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
- ولم يتخذ المصريون حادثة كبيرة يجعلونها مبدأ لحساب سنتهم بل كان كل ملك يتخذ لنفسه تاريخًا من بدء توليته فيقال السنة الخامسة للملك توت، والسنة العاشرة للملك رمسيس وهكذا... وظلوا هكذا حتى الجيل الثالث بعد ميلاد السيد المسيح وذلك حينما طالبوا بحريتهم من الأباطرة الرومان. وكان دقلديانوس الامبراطور الروماني يبذل جهده في اضطهاد المسيحيين أملًا ان يمحوا آثار هذا الدين، ولكن المصريون فضلوا ان يسفكوا دمائهم من اجل الحفاظ على الإيمان بدلًا من الحياه في عبادة الأوثان.
- ولما كانت هذه الأحداث جديره ان يذكرها الأقباط ليعلموا ان حريتهم الدينية لم يشتروها رخيصة بل بنفوس بريئة أزهقت ودماء ذكية اريقت اتخذوها نقطة لتاريخ سموه تاريخ الشهداء.
- وكان هذا التاريخ تستعمله الحكومة المصرية حتى عام 591 للشهداء إذ صدر آنذاك أمر عال بإدخال التاريخ الميلادي في حساب الحكومة.
- لا يستعمل هذا التاريخ إلا عند الأقباط والمزارعين فقط.
- وكان يحتفل بهذا العيد احتفالًا عظيمًا ومهيبًا اذ كان الأمير والحقير والغني والفقير يتقدمهم الملك يحتفلون به احتفالًا دينيًا لأن الكهنة كانت تؤله العلامة توت مبدع هذا التقسيم وتؤله النيل مصدر الحياة في مصر.
- وفي زمن الملك برقوق اصدر مرسومًا بإلغاء الاحتفال بالعيد بناءًا على ما كان يصدر من الرعاع والسفله من أفعال غير أخلاقية.
- فيذكر المرحوم علي باشا مبارك في كتابه "الخطط التوفيقية" ما يفيد ذلك بقوله [وفي أيام السلطان برقوق ابطل ما كان يعمل بالديار المصرية يوم النيروز من اجتماع الكثيرين من اراذل الناس على أبواب الأكابر والأعيان ويجعلون لهم أميرًا يسمى أمير النيروز فيقرر مبلغًا على كل أمير فمن أعطاه ما رسم كف عنه، ومن لا اشبعه ذمًا وشتمًا، وكانوا يقفون في الطرقات ويرشون من مر بالمياه النجسة ويضربونهم بالبيض إلى غير ذلك من القبائح حتى كان الناس في ذلك اليوم لا يخرجون من بيوتهم ويغلقون دكاكينهم وتتعطل الأشغال جمبعها].
- ولكن الأقباط حافظوا على الإحتفال بهذا العيد بعد ان انقضت هذه الغمة، بأن احتفلوا به في الجمعيات بإقامة الحفلات الكنسية والمواعظ الإلهية التأمليه، وهذا ما تحافظ عليه الكنائس في أقطار مصر كلها حتى الآن. وذلك لتذكير الأبناء بالأباء والأجداد الشجعان الذين ضحوا بحياتهم وسفكوا دمائهم من أجل الحفاظ على الإيمان المستقيم ليصل إلينا الآن وبدورنا نحافظ عليه بكل ما في وسعنا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/nayrouz-feast.html
تقصير الرابط:
tak.la/ftx6b29