ذُكِرَ عن القديس الأنبا أنطونيوس في أواخر أيام رحلته على الأرض، وبعد نياحة الأنبا باخوميوس، ذهب إليه أولاد الأنبا باخوميوس ليعزيهم عن أبيهم لِكِبَر سنّه وحِكمته وحِنكته الرهبانية، فتقابَل معهم مستقبلًا إيّاهم بالبشاشة والترحاب، وعزَّاهم بكلمات إنجيلية ووصايا رهبانية، في حين أنه لِكِبَر سنه كان لا يستقبِل أحدًا، ولا يقوم منتصبًا لأحد. ودار هذا الحديث بينه وبين رهبانه لما تكلم مع أولاد أنبا باخوميوس ومدح السيرة المقدسة التي للشركة وكثرة فضائلها، وكانت عنده جموع كثيرة في ذلك ا لوقت، وكهنة عظماء كانوا قد جاءوا إليه لكي يسألوه ويتبارَكوا منه، على أنهم (رهبان) قد تقمقموا، أي تذمروا في قلوبهم بسبب تمجيده للأخوة الذين هم تحت الخضوع في حياة الشركة.
فقال لهم: "هل غضبتم بالحق في قلوبكم لأنني أكرمتُ صبر الإخوة وعبادتهم لله؟" فقالوا: "لم يكن ضيقنا باطلًا، ولكننا غضبنا في قلوبنا لأنه منذ زمانٍ طويل منذ أن ضعفتَ بالجسد، فإنّ كل مَنْ يأتي إليك ويسأل عنك من أسقف أو كاهن أو جندي أو مقدَّم أو أي رئيس لا تقف وتقبِّل أحدًا منهم بسبب ثقل مرضك، بل إنهم هم ينبسطون عليك ويقبِّلون رأسك وفمك وصدرك بشكر. ولما أخبروك عن الإخوة الذين من دوناسة في تلك الساعة قمتَ وتركتنا جالسين ومشيتَ أمامهم بفرحٍ عظيمٍ وقبّلتهم بفرحٍ وتهلّل قلبك من أجلهم".
فقال لهم الطوباوي أنبا أنطونيوس: "أنا أطيِّب قلوبكم بخصوص هذا الأمر وأخبركم بكل ما صار إليَّ من الله بالحق. فالرب يعلم أنني لستُ من أجل الإخوة قمتُ وخرجتُ أمامهم وقبَّلتهم لأنهم مكرَّمون عندي أكثر منكم، كلاّ الرب يعلم، بل إنّ ملاك الرب سبق أن دخل إليَّ قدامكم وقال لي: ’هوذا أولاد أنبا باخوم الذي من دوناسة قد جاءوا إليك، فقُم الآن واخرج أمامهم‘. وفيما كان الملاك يتكلم معي جاء إليَّ خبر مجيئهم، وحينئذٍ حلَّت عليَّ قوة الرب، فقمتُ وخرجتُ وقبلتهم إليَّ بفرحٍ كما أمرني ملاك الرب. نعم طوباهم إذا ما صنعوا وأكملوا كل الوصايا والقوانين التي وضعها رجل الله الصدِّيق أنبا باخوم“.
فأجابه الإخوة الجالسون عنده قائلين: ”إن كان هؤلاء الإخوة الذين لتلك الشركة مستحقين للكرامة والمجد الذي مجّدتَهم به فكيف أنه عندما نجتاز بأديرتهم يُتعبوننا إذ يستقصون منا إن كنا من أتباع "ماني" الهرطوقي(1) في إيماننا، ونتعب في كلامنا معهم بأننا من أصحاب الأب أنطونيوس ولا يصدِّقوننا بل يقولون: ’إنّ كثيرين يجيئون إلى هنا ويقولون ذلك فنقبلهم إلينا كوصية الإنجيل، وبعد أن يرحلوا نتقصَّى عنهم فنجدهم مانيين (أي من أتباع ماني المهرطق)‘. فأجاب عليهم أنبا أنطونيوس قائلاً: ”أيها الساذجون الذين ليس عندهم تمييز الكتب وتقبلون إليكم كل واحدٍ بدون اختبار، هل تريدون أنّ إخوة الشركة المقدسة يكونون بلا فحصٍ للذين لا يعرفونهم في إيمانهم؟ أمّا هم فلأنهم متحفِّظون في كل شيء لأنهم يذكرون الكلمة المكتوبة في الإنجيل المقدس التي قالها لنا الرب: »اِحذروا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم« (مت7: 15، 16)، وأيضًا: »امتحنوا كل شيء، تمسّكوا بالحسن« (1تس5: 21). فقد توجد محبة ترون أنها جيدةٌ ولكن آخرتها تبلغ إلى عمق الجحيم“. فطابت قلوب الإخوة والكهنة جميعًا من التعليم الذي قاله لهم القديس أنطونيوس عن الشركة التي لأبينا القديس أنبا باخوم..
وإنني هنا أتعجب كل العجب عن الفارِق في الحِرص الشديد الذي كان يحيا به أولاد الأنبا باخوميوس أب الشركة، والذي أوصى به الأنبا أنطونيوس تلاميذه، وما نراه اليوم أن الأفكار الجديدة التي تقلق الكنيسة وتبلبل البسطاء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وتُحْدِث شقًّا بين صفوف المؤمنين تخرج من داخل أديرتنا العريقة، وتصدر إلى المجتمع الكنسي على أنها استنارة روحية جديدة، وفهم سامي لحقائق الإيمان الأرثوذكسي الذي لم يفهمه مَنْ كانوا قبلنا!!!
_____
(1) ماني الهرطوقي: هو أحد المبتدعين في القرن الثالث الميلادي الذي نظر إلى الجسد كشر، وحرم أكل اللحم نهائيًّا، وبعض الأفكار الشاذة.. وهو من أصل فارسي، من المذهب الغنوسي الذي ظل يتعب الكنيسة في الخمسة قرون الأولى, لكن تلاميذه كوَّنوا بعثات تبشيرية نشطة امتدت من الهند شرقًا إلى قرطاجنة غربًا، حتى أن القديس أغسطينوس كان من أتباعهم في شبابه. ويُعتقد أن المخطوطات القبطية المُكتشفة قرب نجع حمادي سنة 1945 م. كانت لإحدى مستوطناتهم التي لم تبعد عن شينويسكبون -أشهر الأديرة الباخومية- سوى كيلومترات معدودة. وجاء هذا الاكتشاف تأكيدًا لمخاوف الرهبان الباخوميين، كما ظهر في سياق حديث الأنبا أنطونيوس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/st-anthony-2.html
تقصير الرابط:
tak.la/hvrxg68