كلمة (أنا) Ego والكبرياء يسيران معًا في طريق واحد منحرف، ويقعان معًا في هاوية واحدة، بعيدًا عن محبة الله والناس.
إنها كلمة (أنا) في سعيها إلى الظهور، وفي طلبها للكرامة، ولمزيد من الحقوق، سواء على المستوى الدنيوي، أو المستوى الديني.
ونقصد بكلمة (أنا) كل ما يتعلق بها أو ينتسب إليها...
كمن يقول: عائلتي، وقريتي، وأهلي، وعشيرتي، ... إلخ.
كلها تحمل معني (الأنا) في الانتماء إليها، وفي الافتخار بها، وفي التعصب لها. على مستوى الجماعة، كما على مستوى الفرد.
(الأنا) تريد كل شيء لها. وعلى الأقل تريد أفضل شيء لها...!
وللأسف تبدو كمرض ينشأ منذ الطفولة المبكرة!!
فعلى الرغم من وصف الأطفال بأنهم ملائكة، إلا أن (الأنا) تسود على غالبيتهم. فالطفل من صغره يتمسك بمحبة الذات التي تقوده إلى الغيرة وإلى الأنانية. فهو قد يتضايق إن أحبت أمه أو دلًلت طفلًا غيره. لأنه يريد كل الحب وكل التدليل له وحده. وإن أنجب أبواه طفلًا بعده، قد يعتبره منافسًا له في اهتمام الوالدين به. فهو يريد كل الاهتمام له! وإن رأى طفلًا آخر يلعب بلعبة جميلة، ربما يحاول أن يأخذها منه، أو يبكي بسبب ذلك... إنها الذات ومشاكلها...
وبسبب ذلك فإن أسرة الطفل تحاول أن تتملقه أو تجامله، لتخفف من ضغط الذات عليه.
وتقول له: أنت طفل جميل حلوًا أنت أحلي ولد. لا يوجد أبدًا مثلك... وتظل تعطيه من أصناف المديح، بل ومن الهدايا والعطايا، لكي تشبع فيه (تحقيق الذات)، وتخفف عنه حروبها ومشاكلها! أو تحاول أن تقنعه بالرضي على غيره منً الأطفال. أو تعطيه ليعطيهم، فيكون العطاء عن طريقه، فتشبع ذاته وترضي...!
محبة الذات هذه تتبع الطفل في نموه. وتكبر عنده حينما يكبر ويصير شابًا أو رجلًا. وتصير مصدرًا لألوان من الكبرياء عنده.
والأمر يحتاج إلى حكمة كبيرة في أساليب التربية، لإنقاذ الطفل في أطوار نموه من كبرياء الذات وأنانيتها. وتفهيمه بأنه يمكن أن يكبر في الفضيلة، وفي النمو الروحي... إلى أن توصله إلى تفضيل التواضع حينما يكبر في السن... وليس هذا بالأمر السهل، ولكنه يحتاج إلى خبرة في التربية، ودراية بأساليب الإرشاد الروحي.
أما الذي في نموه في السن، يستمر في إشباع الذات بالاستحواذ على كل شيء، فهو لا يزال يحتفظ ببعض أمراض الطفولة نفسيًا.
وتبقى عنده مشكلة الذات: ماذا أكون؟ ومتى أكون؟ وكيف أكون؟ وكيف تكبر ذاتي؟ وكيف تفوق غيرها...؟
وتتحول ذاته إلى صنم يتعبد له!! بل قد تتبعه عبادة الذات في المجال الديني أيضًا!! فإن دخل في خدمة الكنيسة أو في خدمة المجتمع، ترى ذاته أيضًا أمامه: كيف يكبر في مجال الخدمة؟ كيف يكون له الرأي الواجب التنفيذ؟ ويكون هو الأول أو يكون هو الوحيد والباقون أتباعًا!! كل ذلك في مجال خدمة الرب!!
بل حتى في الصلاة، تقف الذات أمامه! كيف يُعْجَب الناس بصلاته؟! وكيف باستجابة صلاته، ينال إعجاب الناس!! إنها (الأنا) التي لا تصلي لأجل خير الناس ومنفعتهم، إنما تصير (الأنا) هدفًا، تكبر عن طريق الصلاة واستجابتها! وإن لم يستجب الله لمثل هذه الصلاة، يدخل في عتاب مع الله: كيف تخلى عن أناه!!
وربما في المعاملات، يريد أن يفرض صنم هذه الأنا على غيره!
فكما أنه يحب هذه الأنا، ويتعبد لها ويمدحها، يريد أيضًا أن الكل يتعبدون لها ويمدحونها ويوافقونها على كل ما تريد!! ومن يعارض رغبات ذاته، يتخذه له عدوًا ويقاومه! لأنه لم يُشبع هذه (الأنا) ما تهواه من كرامة ومن كبرياء!
وغالبًا ما تكون (الأنا) سبب كل عداوة وانقسام واختلاف.
ويبقى أن الله ينجي الإنسان من خطورة هذه (الأنا) عليه وعلى غيره. وأيضًا على الإنسان أن يبحث عن وسائل تخلصه من أناه...
وربما إنسان يستخدم (الأنا) لاهوتيًا أو عقائديًا، فيفتخر بما وصلت إليه ذاته من رفعة روحية.
فيقول: أنا تجددت. أنا تطهرت. أنا تقدست. أنا تبررت. أنا ضمنت الملكوت. أنا قد صار الشيطان تحت قدمي، أدوسه بكل قوه وأطرده... وتكرر كلمة (أنا) في مثل هذه الافتخار! وفيه كله، لا يذكر إطلاقًا عمل النعمة فيه! ولا يُذكر الضعف البشري المعرض للسقوط. ولا يُذكر قول الكتاب عن نبي عظيم مثل إيليا: "إيليا كان إنسانًا تحت الآلام مثلنا "! (يع 5: 17) مع أنه "صلَّى صلاة أن لا تمطر السماء، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضًا، فأعطت السماء مطرًا، وأخرجت الأرض ثمرها" (يع 5: 17، 18).
للأسف يستخدم الإنسان ما تعلنه نعمة الله معه، لتفتخر بها ذاته، وليس لكي يمجد عمل النعمة فيه، مع الاعتراف بضعفه.
أما الآباء الأنبياء والرسل والقديسون، فقد استخدموا كلمة (أنا) في مجال الاتضاع وانسحاق النفس...
إبراهيم أبو الآباء، الذي باركه الله، وجعله بركة، وقال له: "وفيك تتبارك جميع قبائل الأرض" (تك 12: 2، 3)، نراه في مجال كلمة (أنا) يقول "أنا تراب ورماد" (تك 18: 27).
وداود النبي، الذي كانت له دالة كبيرة عند الله، وقد صنع الله به نصرًا عظيمًا على جليات (1 صم 17)، نراه بعد ذلك لما عرضوا عليه مصاهرة الملك شاول، يقول لهم "هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك، وأنا رجل مسكين وحقير" (1 صم 18: 23).، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وما أكثر اعترافه في مزاميره بضعفه. كأن يقول "ارحمني يا رب فإني ضعيف" (مز6: 2).
ويوحنا المعمدان، مع أنه كان أعظم من ولدته النساء (مت 11: 11)، يقول للرب "أنا المحتاج أن أعتمد منك" (مت 3: 14). ويقول للناس "يأتي بعدي مَن هو أقوى مني، الذي لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (مت 3: 11) (لو 3: 16).
وبولس الرسول العظيم، الذي اختطف إلى السماء الثالثة (2كو 12: 2)، قال عن ظهور السيد المسيح للرسل بعد القيمة "وآخر الكل، كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلًا أن أدعي رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1كو15: 8، 9).
هذا هو الاستخدام السليم لكلمة (أنا) بروح الانسحاق.
وبنفس الروح، يرسل القديس العظيم بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس فيقول "أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا. ولكني رُحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان" (اتي 1: 13). يقول ذلك عن نفسه في رسالة إلى تلميذه، بينما العادة أن يفتخر المعلمون أمام تلاميذهم! ولكنه يستدم كلمة (أنا) بالطريقة السليمة.
ونلاحظ أنه عندما تحدث عن اختطافه إلى السماء الثالثة، لم يقل أنا، إنما قال "أعرف إنسانًا في المسيح يسوع" (2كو 12: 2) فلم يستخدم كلمة (أنا) في مجال التمجيد بينما استخدمها في الاعتراف بأخطائه.
في تمجيد الذات، اهتم الآباء بتمجيدها في السماء لا على الأرض.
في مجد (الأنا) على الأرض، في هذه الحياة الحاضرة القصيرة، كان يخيفهم قول الرب عن هؤلاء الذين ينالون مديحًا هنا من الناس: "الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم" (مت 6: 2). وتكررت نفس العبارة في (مت6: 5، 16). وبنفس المعنى قال أبونا إبراهيم لغني لعازر: "يا ابني، اذكر أنك قد استوفيت خيراتك في حياتك" (لو16: 25).
أما الذين "أجرهم عظيم في السماء"، فهم أولئك الذين أخفوا كلمة (أنا)، وعملوا الفضيلة في الخفاء، أمام أبيهم السماوي الذي يرى في الخفاء، وسيجازيهم علانية (مت 6). وأيضًا أولئك الذين استخدموا عبارة (لا أنا) وما يشابهها.
مثال ذلك القديس بولس الرسول الذي قال عن خدمته الناجحة: "ولكن بنعمة الله، أنا ما أنا، ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10). وهنا نركز على عبارة:
"لا أنا، بل نعمة الله التي معي".
ويكرر بولس الرسول نفس المعنى، فيقول "مع المسيح صُلبت. فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيً" (غل 2: 20). لا أنا الذي يعمل، بل المسيح الذي فيً يعمل كل شيء. أما فقد صُلبت كلمة (أنا) فما عادت تظهر.
وهكذا كل الخدام، لا تريد أن (الأنا) تنال مجدًا، بل يقولون:
"ليس لنا يا رب ليس لنا. لكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز115: 1).
نعم، في مجال التمجيد يقول كل منا: لا أنا، ليس لنا.
وهذا هو التدبير الذي سار عليه القديس يوحنا المعمدان. فكان يرفض كل تمجيد موجه إليه، إلى "الأنا" ويحوله إلى السيد المسيح قائلًا عبارته الخالدة:
"ينبغي أن ذاك يزيد، وأني أنا أنقص" (يو 3: 30).
ما أكثر ترديد المعمدان لعبارة لا أنا، أو لست أنا...
أما أنا فمجرد "صديق للعريس، يقف ويسمعه فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس، إذن فرحي هذا قد كمل" (يو3: 29).
وعبارة (لا أنا) نقولها ليس فقط من جهة علاقتنا بالله، بل أيضًا من جهة علاقتنا ببعضنا البعض...
فمن جهة الكرامة، يقول كل منا: لا أنا، عملًا بوصية الرسول: "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12: 10).
ومن جهة الرئاسة يقول أيضًا كل منا لا أنا، عملًا بوصية الرب الذي قال: "من أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أولًا، فليكن لكم عبدًا" (مت 20: 26، 27).
وفي عبارة "لا أنا" نتبع وصية الرب في المتكأ الأخير.
نترك المتكآت الأولي للكتبة والفريسيين الذين يشتهونها (مت 23: 6). وأن عرضت علينا يقول كل منا: لا أنا. بل أخي أفضل مني وأولي. وهكذا نحيا حياة الاتضاع...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/4hwvz94